الاستثناء المغربي

عزّز حزب «العدالة والتنمية» المغربي صورته كحزب كبير في البلاد من خلال نتائج الانتخابات البلدية والجهوية التي أمّنت له السيطرة على أكبر المدن المغربية متمثلة في الرباط والدار البيضاء وفاس (المعقل الأساسي لمنافسه القديم «حزب الاستقلال»)، من خلال حصوله على المركز الأول في الانتخابات الجهوية.
ورغم تقدّم حزبي «الأصالة والمعاصرة» و»الاستقلال»، اللذين حلا أولاً وثانياً في الانتخابات البلدية، فقد عوّض الحزب ذلك بحصوله على المرتبة الثالثة بنسبة 15،95 وحصول حليفيه، حزبي «التجمع الوطني للأحرار»، و»الحركة الشعبية»، على المرتبتين الخامسة والسادسة.
غير أن كل هذه مجرّد تفاصيل أقلّ أهمّية بكثير من الحدث الذي يمثّله وجود هذا الحزب الإسلامي على سدّة السلطة وما يرفعه ذلك من دلالات كبرى مؤثرة على الشأن العربي.
تزامن صعود «العدالة والتنمية» ذي الاتجاه الإسلامي إلى السلطة عام 2011 مع ارتفاع مدّ احتجاجات الربيع العربي، وعلى عكس أغلب الأنظمة العربية، التي جابهت بالنار والحديد أي محاولات لتغيير شكل أو مضمون الحكم في بلدانها، فقد تعاملت المؤسسة الملكية المغربية بمرونة وحنكة مع هذه الأحداث وهو أمر صار من تقاليد هذه المؤسسة وصفاتها التي تمتاز بها عن باقي المؤسسات العربية الحاكمة.
لم تدرك الأنظمة العربية، وخصوصاً في سوريا والعراق وليبيا واليمن ومصر (وكّلها «جمهوريّات») أن وقوفها في وجه المدّ الثوري العارم سيكلّف حكّامها، ونظمها، وشعوبها، أكثر بكثير مما كانت ستكلّفها المراجعات والتسويات التي فرضتها عليها اللحظة التاريخية التي لا ترحم.
إضافة إلى الاستثناء المغربي كان هناك التونسي، الذي نجح في تقديم نخب قادرة على القبول بالنتائج الديمقراطية مهما كانت، وسمح بالحالة الطبيعية للمدّ والجزر، فيما يتعلق بالتيار الإسلامي، وحركة التمويل السياسي والإعلامي المبرمجة ضدهم، فإن المحاولات الإقليمية والمحلية المسعورة لجرّ البلاد إلى استقطابات دموية فشلت، ولكنها أخرجت الإسلاميين من الحكم، وهو أمر طبيعيّ ويساهم، بشكل أو بآخر، في نضوج هذا التيار السياسي، وفي تحفيزه على الاشتغال السياسي والفكري لتطوير أدواته وعلاقاته مع النخب والجمهور.
ولا بأس أيضاً أن نذكر التجربة الأردنية التي، رغم وجودها على حدود الجحيم المفتوح عراقياً وسورياً، فقد استطاعت أن تمخر عباب العاصفة بدون أضرار كبرى، وهي رغم مماحكات نخبتها الحاكمة المريرة مع التيار الإسلامي، على خلفية مطالب فصله عن جسمه العربيّ والخارجيّ عموماً، وقضايا أخرى كثيرة معقدة، فإنها لا تنفكّ تبدي قدرات على تحقيق توازنات مع المطالب السياسية والشعبية، توازيها إدراك كاف للمخاطر يمنعها من الانزلاق إلى حرب مع أي من المكوّنات السياسية للمجتمع، أو السماح لأي كان بضرب النسيج الأهلي الأردني.
يُحسب مع ذلك لـ»المخزن» المغربي (أو «الدولة العميقة»، كما يسميها البعض)، أنه كان الأكثر جرأة والأسرع مبادرة من كل الأنظمة العربية في إدراك العلاقة العميقة بين المدّ الثوري العربيّ وبين الحاجة لفكّ الحصار الخانق ضد الاتجاهات الإسلامية، فقد ربطت الجماهير العربية بشكل فطريّ بين تردّي شؤونها الاقتصادية والاجتماعية، واحتكار نخب وأحزاب بعينها للسلطات التنفيذية، وما عناه ذلك من إقصاء وقمع تعرّض له الإسلاميّون.
السماح بانتخابات ديمقراطية كان الأسلوب الأمثل لإعطاء الإسلاميين حقّهم في تحمّل مسؤوليات تنفيذية، وتحمّلهم، بالتالي، لحملات المعارضة السياسية والشعبية ضدهم، وهو ما انعكس صعوداً لخصومهم في تونس، وتراجعاً لهم في الانتخابات البلدية المغربية التي حلّوا فيها في المركز الثالث.
الاستثناء المغربي قدّم طريقاً مثلى لحكام العرب لاستلهامها، ولكن الفارق ربما هو أن بعض أولئك الحكام وبطاناتهم الحاكمة، جاؤوا للحكم بالانقلابات أو بوراثة بلاد وشعوب لا تربطهم بها سوى أجهزة الأمن والبطش والفساد، وما كان لهم أن ينظروا إلى تلك الشعوب إلا كما ينظر المحتلّون إلى بلدان يحتلّونها، ولا أن يتفاعلوا مع مطالب أهاليها إلا بالقتل والتدمير والإجرام.

 القدس العربي

تعليقات

عن Houda Karmani

شاهد أيضاً

النظام القانوني لتصنيف العقارات

الاعداد : معز بسباس متفقد رئيس للديوان الوطني للملكية العقارية ( فرع المنستير ) 1- …