الثلاثاء , 15 أكتوبر 2024

الصراع الدولي بعد أوكرانيا وسوريا

غالب قنديل

بات واضحا للعيان أن ما جرى في اوكرانيا هو انقلاب أعدته الاستخبارات الغربية بهدف إحداث تعديل في التوازن العالمي الذي يهدد الهيمنة الأحادية الأميركية في العالم ولاختبار فرص لجم الصعود الروسي كقوة إمبراطورية منافسة للولايات المتحدة تتصدر حلفا عالميا ناميا يتبنى فكرة تكريس قواعد جديدة في العلاقات الدولية تضمن فرض توازن جديد اقتصاديا وسياسيا وعسكريا يؤمن شراكة متكافئة تتسع لجميع القوى الجديدة الصاعدة أي روسيا وإيران والصين وجنوب أفريقيا والهند والبرازيل وغيرها.

 

اولا الفكرة الاستراتيجية الأميركية عن منع نهوض القوى المنافسة باستخدام التفوق الأميركي في المجالات العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية تعود إلى ربع قرن من الزمن مع ظهور تقرير مجلس الأمن القومي الذي أعقب انهيار الاتحاد السوفيتي والذي رسم استراتيجية اميركية جديدة لفرض الهيمنة الأحادية في العالم وقد تناوله الاستراتيجي الفرنسي آلان جوكس في كتابه الشهير : أميركا المرتزقة في كناية عن اعتماد الغطرسة الحربية لتأديب جميع الدول والحكومات والحركات المناوئة للهيمنة الأميركية في العالم .

وبالفعل فقد وصفت عملية غزو العراق عام 2003 في العديد من الدراسات والتقارير الغربية على انها عرض قوة عالمي لترهيب الخصوم من الدول الكبرى والصغرى عدا عن كونها خروجا سافرا على الأمم المتحدة التي كان المخططون الأميركيون يومها يتحدثون عن تدميرها واستبدالها بالحلف الأطلسي كمنظومة لقيادة العالم بزعامة الولايات المتحدة ويجدر التذكير بأن منافسي الإمبراطورية الأميركية الكبار في العالم تحاشوا الصدام آنذاك بينما انبرت سوريا من موقعها القومي في المنطقة إلى مقارعة الخطط والمشاريع الأميركية الإسرائيلية وتصدرت الدفاع والمقاومة بالشراكة مع إيران في وجه ثلاث حروب عالمية كبرى قادها الأميركيون في لبنان وقطاع غزة بواسطة الجيش الإسرائيلي .

ثانيا بعد الفشل في العدوان الاستعماري على سوريا نتيجة صمود الدولة الوطنية السورية وصلابة قيادتها وجيشها وبثبات غالبية شعبية كبيرة خلف زعامة الرئيس بشار الأسد استطاعت روسيا وإيران ومجموعة البريكس ان تنشئ معادلات عالمية جديدة وكان إرغام الإمبراطورية الأميركية على التراجع عن قرار ضرب سوريا وعلى التفاوض مع إيران والاعتراف بدورها ومع فشل إسرائيل في تغيير البيئة الاستراتيجية للشرق العربي خصوصا بعد دخول حزب الله إلى سوريا وشكل ذلك كله الضربة التي فرضت على الولايات المتحدة الاعتراف بالشراكة الدولية وبالعودة إلى الأمم المتحدة المحكومة غير مرة بالفيتو الصيني الروسي المزدوج خلافا للمشيئة الأميركية والغربية ولم تفلح الإدارة الأميركية في تطبيق نظريات مخططيها الكبار عن الشراكة بقيادة اميركية امام التصميم الروسي والإيراني والصيني على الدفاع عن مفاهيم التكافؤ والندية في العلاقات الدولية.

في هذا المناخ وضعت خطط التحرش والعدوان في المحيط الروسي المباشر لمحاولة تكبيل القوة الإمبراطورية المناوئة ولإشغالها في فنائها المباشر وهذا ما استحق الرد الروسي بضم القرم والذي أسقط الرهان الأميركي والغربي على إخضاع موسكو لمنطق الزعامة الأميركية وفتح أبواب المواجهة في العالم ضمن قواعد الحرب الباردة الجديدة الآخذة بالتشكل في مجابهة الغطرسة الاستعمارية الأميركية التي تجرجر اوروبا خلفها وتضعضع وحدتها الهشة بفعل اختلاف الحسابات الألمانية المصلحية والقومية كما بين الجدل في ملف العقوبات ضد روسيا .

ثالثا بعدما رسمت روسيا خطوطها القومية الحمراء في وجه المخطط الأميركي يتمادى الغرب الاستعماري في الغطرسة والتحرش من خلال العقوبات المتلاحقة وعبر تحريك المزيد من الخطط الهادفة لدخول المحيط الروسي والسعي لاستمالة جمهوريات سوفياتية سابقة إلى الحلف الأطلسي وإقامة شراكة اقتصادية معها تتوسل اختراق المنظومة الإقليمية الروسية .

بالمقابل وضع الرئيس بوتين بمساندة شعبية روسية كبيرة خطته الكبرى لإعادة توحيد روسيا التاريخية كما أعلن في خطابه الهام وهو ما يعني ان الإمبراطورية الروسية عازمة على خوض المواجهة حتى فرض انكفاء المعسكر الغربي ورضوخه لقواعد الشراكة الدولية المتكافئة التي يدافع عنها الزعيم الروسي وروسيا التاريخية تتعدى في نطاقها الجغرافي والاستراتيجي حدود الاتحاد السوفياتي وهي تشمل كل الدول السلافية والأرثوذكسية في اوروبا ويعترف المخططون الغربيون بأن التطلع الروسي يطال اليونان أيضا في هذا الحساب خصوصا بعد تثبيت حصانة الموقع السوري المتقدم الذي تعثرت جميع محاولات النيل منه وحيث يتوقع ان تظهر روسيا الكثير من الحزم والشدة في مساندة الدولة السورية وزعيمها وطموحاته الإقليمية.

الخيارات الروسية كثيرة ومؤلمة وهي تتدرج من التوظيف الذكي للقوة الاقتصادية العملاقة وللتشابكات التاريخية السكانية والجغرافية في المحيط الروسي وداخل اوروبا الشرقية إلى السعي الحثيث مع الشركاء في مجموعة البريكس لتكوين جبهة اقتصادية سياسية واستراتيجية وتحويلها منظومة اقتصادية مصرفية قادرة على التصدي لهيمنة الولايات المتحدة المصرفية والنقدية على التجارة العالمية وبالتالي تهديد المركز الأميركي في الاقتصاد العالمي وإذا كان توازن الرعب النووي ضمانة مستمرة لمنع الاحتكاك المباشر فإن الحروب الإقليمية التي يدخلها اللاعبون الكبار كداعمين متدخلين لصالح حلفائهم ليست بعيدة الاحتمال في غير منطقة من العالم وعلى غرار ما يجري في سوريا منذ ثلاث سنوات وسوف تتكفل الفصول المقبلة من الصراع العالمي الجديد بتبيان قواعد الحرب الباردة الجديدة التي بات معها من المستحيل استمرار آليات التحكم الأميركي الأعمى بأقدار العالم المعاصر.

الشرق الجديد

تعليقات

عن Houda Karmani

شاهد أيضاً

النظام القانوني لتصنيف العقارات

الاعداد : معز بسباس متفقد رئيس للديوان الوطني للملكية العقارية ( فرع المنستير ) 1- …