بقلم يامن أحمد حمدي
هكذا تسيء الحريّة التي طالبت بها الثورة للثورة نفسها…
لا أقول هذا الكلام بمنطق من يتمنى العودة لأيام بن علي مثلما يقول الكثير من الأغبياء ولا بمنطق من يرغب في عدم وقوع الثورة مثلما يقول بعض الأغبياء ولا بمنطق أنّ الشعب التونسي لا يليق بالحريّة مثلما يقول الأقلّ غباءً، ولكن بمنطق أنّ الحريّة التي لا أرضيّة لها سوف تفهم على ألف معنى ومعنى: فهي تجاوز للسائد وللعادات وللمعقول وللمنطق وللأخلاق…، هكذا فـُهمت من قبل الكثيرين فطوّعوها وفقا للأهواء وللرغبات وللمزاج أحيانا، فكانت النتيجة أن ظهر التطرّف… نعم التطرّف بالوجهتين نحو يمين اليمين ونحو يسار اليسار…
هذا التطرّف المستبدّ بتطرّفه يجتاح تونس في كلّ مكان: السياسة والإعلام والشارع والإدارة والمدرسة والروضة والجامع والجامعة والأحياء الشعبيّة والأحياء الراقية وعلت حممه حتى ارتقت رؤوس الجبال وأغرقت كهوفه، والأخطر من ذلك أنـّه يجتاح المجتمع ويمزّق أوصاله ويقطـّع وحدته ويقضي على وداعته التي عرف بها منذ عهود.
كلّ صباح نفتح بعض الجرائد التي تتلـّون وفق الظروف، فنجد التطرّف في نقل الأخبار وفي تحليلها وشرحها وفق الأمزجة، وندير مفتاح الراديو لنستمع إلى بعض الإذاعات، التي وزّعها المخلوع على بناته فتحوّلت بقدرة ثورة إلى إعلام حرّ ونزيه، فنجد التطرّف في مدح الذات وشكر النفس وسبّ الآخر وذمّ الخصوم…
أصبحت بعض الأفعال المتطرّفة هي خبزنا اليومي: هذا يكفـّر ويكبـّر ويدعو للفتح المبين… وآخر يكفر ويتكبـّر على الإسلام والمسلمين، هذا يحتـلّ المساجد والمعاهد ويصلـّي مع الجماعة في أماكن ليست لكلّ “الجماعة” بل على ملك المجموعة …. وآخر يفضـّل أن يقلب ملابسه الداخليّة فوق الخارجيّة ويبرز كلّ ما فيه من غرائز جنسيّة وخيالات مكبوتة ورغبات في أماكن ليست للميوعة…
ويتضارب التطرّف بالتطرّف ويتصادم الإرهاب بالإرهاب… وتكون النتيجة متدرّجة على مراحل: غضب…حقد…عنف…سحل…قتل…تنكيل بالأجساد…تمثيل بالجثث… ليزداد غضب الآخرين على هذه الحريّة وتثور الثائرة الغبيّة على الثورة وتلعنها آلاف المرّات في اليوم الواحد… كلّ هذا لأنّ مجانين يقفون على أطراف السياسة يغالون في تطرّفهم في كلّ شيء…
تعلـّمنا من بعض ثورات الشعبيّة في التاريخ الإنساني أنّ المرحلة من عمر كلّ ثورة يحكمها انتهازيّون يحاولون عبثا إعادة إنتاج النظام السابق، ثمّ آخرون بعدهم أكثر انتهازيّة وأقلّ ثوريّة يسعون للهيمنة على الحكم باسم الثورة ويمارسون العنف الثوري دون وجه حق، ثمّ ينبثق منهم متطرّفون مجانين يمارسون القتل والخراب والإعدام في حقّ الجميع، ومن هنا تكون اللحظة الفارقة في تاريخ الشعوب الثائرة: إذا ما تصدّى المعتدلون للتطرّف تنجو الثورة بأهدافها، وإذا ما أخفى الجميع رأسه في تراب الخوف تعود الدكتاتوريّة بأبشع صورها لعقود أخرى… لذلك يا شعبي الطيّب ويا نـُخبنا ويا مفكرينا ويا إعلامنا ويا مثقفينا تصدّوا للتطرف الوافد علينا من الجهات الأربع واعرفوا طريق الحق تعرفوا أهله، وامضوا قدما نحو تونس الاعتدال والتسامح والمحبّة…
ولأنـّنا نسير بخطى متعثـّرة في السنة الثالثة من عمر الثورة… ولأنّ الثورة أنثى…والحريّة أنثى والكرامة أنثى… والعدالة أنثى… ولأنـّنا ما زلنا على وقع ما يهمّ المرأة: من عيد عالمي للأمهـات، وصراع من أجل أن تتساوى مع الرجل أو أن تكمـّله، وعلى وقع أن تعرّي صدرها احتجاجًا أو تتنقـّب غصبـًا أو تجاهد بالنكاح أو تكون في الأيادي القذرة مجرّد سلعة أو سلاح،…في خضمّ كلّ هذه الوقائع، سأسوق هذا المثال في الفعل والقول: كانت الثورة الفرنسيّة تعرف تعرّجاتها الخطيرة بين المضيّ قدمًا والردّة للزمن الملكي البغيض، وكان الشعب الفرنسي يراوح مكانه بحثــًا عن سبيل يقوده إلى تحقيق أهداف ثورته في الحريّة والإخاء والعدالة والمساواة، عندما تمكن شقّ سياسي متطرّف معروف بنشاطه الإرهابي وهو “نادياليعاقبة”أو”اليعقوبيّون” من السيطرةعلى الحكم سنة 1793، وبدأواعهدالإرهاب والقتل لمجرّد الشكّ وبتهمة “خيانة الثورة”فأرسلوامئاتالفرنسيينإلىالمقصلة، بزعامة “روبسبير” الذي أغرق فرنسا في بحر من الدموع والدماء (قبل أن ينقلب عليه أتباعـه ويعدموهسنة 1794)، ومن جملة من تمّ إعدامهم “ماري- جانرولانMarie-Jeanne Roland “، التي كانت تنشط صحبة زوجها في تشكيل سياسي يعرف بـ”الجيرونديين” وهو حزب معتدل، رفض الفكر اليعقوبي وواجهه فتمّ اعتقال أغلب قادتهم وإعدامهم، إذ تمّ وضعالسيدةرولانفيالسجن قبل أن تخضعمحاكمةسياسية قضت بإعدامها فينوفمبر 1793، ولكنـّها تمكنت خلال مدّة السجن من كتابة مذاكراتها التيأفلتت من مقصلة الأفكار، توضـّح فيها، من جملة ما توضـّح، ضرورة الاعتدال في كلّ أمر وخاصّة في السياسة وأهميّة الحريّة في أن تكسب الفرد واجب ما يفعل وما يقول، لا أن يفعل ما يريد ويقول ما يريد بتعلـّة الحريّة، وهي تستنكر كل من يستغلّ الحريّة لمنافعه الخاصّة أو يستعبد شعوبًا باسمها وينصـّب نفسه مدافعًا عنها، ومن أشهر ما قالته هذه المرأة وهي تسير على سلـّم المقصلة: “أيـّتها الحريّة… كم من الجرائم ترتكب باسمك !!“
وفي كلّ هذه التفاصيل: حديثنا قياس لمن يرد أن يفهم التاريخ وأن يتحاشى أخطاء الماضي…
وتصبحون على وطن….