هدى القرماني
تعيش مدينة سوسة على وقع إحياء الذكرى 72 لأحداث 22 جانفي 1952 الدامية والتي سقط خلالها 12 شهيدا حيث استخدم الجيش الفرنسي وقوات الجندرمة آنذاك الرصاص الحي على متظاهرين في مسيرة ضخمة انطلقت من أمام صيدلية جلول بن شريفة رئيس الجامعة الدستورية بالساحل الشمالي آنذاك وأصيب العشرات وشنت حملة اعتقالات ضدّ متظاهرين وقيادات بالحزب وعلى رأسهم بن شريفة.
واشتدت المواجهات بين الطرفين إثر مقتل القائد العسكري لحامية سوسة العقيد الفرنسي Norbert DURAND إثر إصابته بغصن زيتون وجّهه له أحد المتظاهرين مما تسبب له في نزيف داخلي أدّى إلى وفاته كما جاء في التقرير الطبي وفقا لما أفاد به المؤرخ والأستاذ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، عادل بن يوسف، خلال ندوة أقيمت إحياء لهذه الذكرى بـفضاء “دار قمر” بالمدينة العتيقة بسوسة وجمعت عددا من أبناء المناضلين.
واعتبر المؤرخ أنّ هذه المعركة كانت دستورية بامتياز وشاركت فيها مختلف قرى الساحل من نساء وتلاميذ وطلبة فرع الزيتونة بسوسة ومناضلين.
وجاءت هذه الأحداث امتدادا لمؤتمر 18 جانفي 1952 إثر فشل تجربة الحوار مع السلطات الفرنسية التي كان ردّها على مذكرة 15 ديسمبر 1951، والمتضمنة لمطالب المتفاوضين التونسيين آنذاك وعلى رأسهم الزعيم الحبيب بورقيبة، مخيبا للآمال وأعلنت أنّه “لا سبيل لإقامة سيادة تونسية مستقلة عن السيادة الفرنسية”. كما سبقت تجربة الحوار هذه تجربة فشلت هي الأخرى واندلعت إثرها أحداث دامية في 9 أفريل 1938.
ورغم محاولات السلطات الفرنسية منع انعقاد مؤتمر 18 جانفي 1952 للحزب الحر الدستوري الجديد بالعاصمة وقامت يومها بإلقاء القبض على الزعيم الحبيب بورقيبة وبنفيه إلى طبرقة ومع ذلك انعقد المؤتمر كما كان محددا برئاسة الهادي شاكر وصادق المؤتمرون على لائحة تطالب من جديد بالاستقلال التام وإلغاء الحماية وبأنّ عهد المفاوضات قد ولى ولا بدّ من الشروع في الكفاح المسلح وتمت دعوة المقاومين للصعود إلى الجبال في كل الأرياف والقرى، وتوسعت القائمة لتشمل التلاميذ والطلبة والعنصر النسائي.
وردّا على انعقاد هذا المؤتمر قامت السلطات الفرنسية بمداهمة المقر واقتياد أعضاء الحزب والزعماء إلى السجون ولأول مرة يتمّ اعتقال عدد من أعضاء الحكومة ونفيهم إلى الجنوب.
وكان بورقيبة، لدى عودته من فرنسا، إثر غلق باب المفاوضات، يوم 8 جانفي 1952، قام بجولة في بعض الجهات حيث وفي طريقه إلى المنستير عقد اجتماعا في ساحة “جبانة الغربة” في سوسة حضره مناضلون بالجهة ومنهم جلول بن شريفة وأخبرهم برد الحكومة الفرنسية وبأن يستعدوا للمعركة ثم ألقى خطابا في مدينة المنستير وكان الخطاب المرجع في مدينة بنزرت يوم 13 جانفي 1952.
كيف تطوّرت الأحداث في جهة الساحل؟
ذكر المؤرخ عادل بن يوسف أنّ محطة 8 جانفي 1952 تلتها أحداث دامية يوم 14 جانفي بتونس العاصمة أسفرت عن جرح 8 متظاهرين واعتقال 150 وطنيا، ثمّ في 16 جانفي حدث هيجان شعبي في مدينة بنزرت تدخلت قوّات الأمن لإخماده وكانت الحصيلة 50 جريحا.
وتدخّل الجيش يوم 17 جانفي لتفريق مظاهرة أخرى ببنزرت كانت النتيجة سقوط شهيدين و7 جرحى كما جرت صدامات يوم 18 جانفي 1952 بالعاصمة، تاريخ انعقاد المؤتمر (مؤتمر ما يسمى بالثورة التحريرية) وإيقاف بعض القيادات الدستورية، وتمّ رمي المتظاهرين بالرصاص وألقي القبض على العديد من الوطنيين واتسعت إثرها دائرة الانتفاضة إلى داخل البلاد.
وعاد رئيس الجامعة الدستورية بالساحل الشمالي، جلول بن شريفة، الذي حضر المؤتمر بالعاصمة، ليلا، وكانت الأجواء ساخنة يومها بمدينة سوسة.
وجلول بن شريفة من مواليد 02 جانفي 1902 بسوسة وهو ثاني صيدلاني تونسي يعود إلى وطنه بعد دراسة جامعية بفرنسا (تخرج من جامعة تولوز سنة 1930) وفتح حينها صيدلية، مازالت إلى اليوم، في مدخل نهج فرنسا. تزوج بفرنسية وبدأ نشاطه الوطني بالانضمام إلى الحزب الحر الدستوري الجديد وانتخب في 1947 رئيسا للجامعة الدستورية للساحل الشمالي.
وصباح 19 جانفي 1952 تجمّع المتظاهرون في ساحة ما يسمى بـ “جبانة الغربة” وعلى طول نهج فرنسا بالمدينة العتيقة بسوسة وتوسعت رقعة المتجمهرين وتوجهوا إلى مقر اتحاد الشغل بسوسة للاجتماع هناك وقامت فرق من الجندرمة والبوليس بتفريقهم ثمّ توجهوا إلى مكتب الصيدلاني جلول بن شريفة المسؤول عن الحزب في سوسة للتفاوض معه.
وفي 20 جانفي أوقفت الشرطة في سوسة ثلاثة شبان دستوريين وتحوّل بن شريفة على إثرها لمقر القايد الطيب السقا آنذاك ليخبره بما حصل ويتوسّط هذا الأخير للإفراج عنهم وفي الأثناء يعلم بن شريفة بتجمهر شعبي أمام صيدليته ويعود للتحاور معهم.
ويذكر بن يوسف أنّ ما زاد في هيجان المتظاهرين في كامل أرجاء البلاد، الأحداث التي وقعت في الوطن القبلي من قمع وانتهاك واعتداء على النساء إثر استبدال المقيم العام بالجنيرال Garbay Pierre والملقب بـ “جلاد الوطن القبلي”.
وتتواصل الإيقافات في مدينة سوسة بإلقاء القبض على شخصين من سكان العمارات الجنوبية وهما عبد السلام بن علي التومي تلميذ بالمعهد الفني بسوسة وسنّه 17 سنة وبوبكر بن محمد بن الحاج عمار، يعمل صانعا، ويبلغ من العمر أيضا 17 سنة. ويقوم جلول بن شريفة كعادته بعملية التفاوض.
وفي 22 جانفي 1952 كان بن شريفة أعطى الإذن بانعقاد اجتماع بالجامعة الدستورية وكانت اللقاءات بين الدستوريين تتم، وفقا للمؤرخ، في محلّ صغير لبيع الأقمشة بالمدينة العتيقة ومنه تنطلق الأوامر.
وتفاجأ بن شريفة بتجمهر كبير من كل قرى الساحل أمام صيدليته ودعاهم في كلمته إلى التهدئة وبأنّ الأمور لا تطلّب كلّ هذا الهيجان. وفي هذه الأثناء تعطي السلطات الفرنسية الإذن بنزول فرق من الجندرمة التي اصطدمت بالمتظاهرين على مستوى باب جديد وأطلقت عليهم، بدون إنذار، الرصاص الحي.
وعرفت المظاهرات التحام التلاميذ الذين خرجوا من مدرسة الباب الشمالي ومعهد الذكور والمعهد الفني وسقط التلميذ رمضان المبروك أصيل سيدي عامر شهيدا.
ورغم محاولة le colonel Durand الذي خرج بسيارته من نوع “jeep ” يدعو المتظاهرين للتهدئة إلا أنّ الأجواء كانت متشنجة جدا وزادت تعقيدا وعنفا بردة فعل القوات المسلحة الفرنسية على إثر مقتل Durand الذي أصيب بغصن زيتون على رأسه فسبّب له ذلك نزيفا داخليا فارق على إثره الحياة كما جاء في التقرير الطبي.
التهم الموجهة للموقوفين في أحداث 22 جانفي 1952:
وقعت جميع أحداث ذلك اليوم التاريخي بين “الباب القبلي” للمدينة وساحة فرحات حشاد حاليا وراح ضحيتها 12 شهيدا وعديد الجرحى من بينهم جريح التحق بعد شهرين تقريبا بالشهداء متأثرا بجراحه كما تمّ اعتقال العشرات واتّهم 3 منهم بقتل le colonel Durand ووقع إعدامهم في الساحة العمومية بالسيجومي فيما تمّ إيداع البقية بالسجن الجديد ومقره نزل سوس بالاص حاليا.
ومن بين الموقوفين جلول بن شريفة رئيس الجامعة الدستورية بالساحل الشمالي ومجموعة من الدستوريين وهم من أجيال مختلفة من تلاميذ ومن طلبة الفرع الزيتوني بسوسة ومن مسؤولين دستوريين ومن قدماء الموقوفين في أحداث النفيضة لسنة 1950.
وأحيل المعتقلون على المحكمة العسكرية وحمل ملف قضية أحداث 22 جانفي 1952 رقم 252 ووجهت لهم مجموعة من التهم وهي العنف الموجه للقوة العامة، حمل السلاح، المساهمة والاستفزاز في تجمهر مسلح والعصيان المدني.
وكان أكبر هؤلاء المعتقلين سنا جلول بن شريفة ويبلغ 50 سنة وقد أصيب برصاصة في زنده الأيسر وهو يخطب في المتظاهرين. أمّا أصغرهم سنا فكان تلميذ يبلغ من العمر 16 سنة.
ولفت بن يوسف إلى أنّ المحالين على المحكمة يبلغ عددهم حوالي 141 شخصا من ضمنهم 47 موقوفا من صنف الشباب واحد منهم فقط تجاوز العشرين السنة والباقي دون سن العشرين.
يشار إلى أنّ أحداث سوسة عقبتها أحداث طبلبة في 23 جانفي 1952 التي سقط خلالها 8 شهداء من بينهم امرأة ثم عادت الأمور إلى مجاريها بعد أسبوعين من ذلك واستكملت أحداث 22 جانفي بسوسة باحتجاجات تلمذية في 26 أفريل 1952 ضدّ أحد أساتذة الفيزياء وتمت إحالة 31 تلميذا على المحكمة العسكرية وهم من سوسة، حمام سوسة، مساكن، القلعة الكبرى، بني حسان، المنستير، طبلبة، صيادة وتلميذ جزائري الجنسية.
قائمة الـ 12 شهيدا في أحداث 22 جانفي 1952:
رمضان بالحاج مبروك من سيدي عامر
محمد بالحاج علي الهاني من الساحلين
محمد بن نصر بن مسعود من المنستير
حمادي نصر الله من المنستير
محمد بن محمد العياري من الوردانين
حسن بن محمد قريسة من الوردانين
بلقاسم بن أحمد خلف الله من الوردانين
محمد بن الحبيب بن سالم من الوردانين
ناجي بن محمد شرادة من زرمدين
ميلاد بن الحسن الإمام من المكنين
الزاير بن محمد اللطيف من سيدي بنور
محمد بن إبراهيم عتب من قصيبة المديوني
وقد أمر أحمد خالد عند توليه رئاسة بلدية سوسة في الفترة الممتدة ما بين سنتي 1975-1980 بتشييد نصب تذكاري لهؤلاء الشهداء بمدخل المدينة العتيقة يؤرخ لأحداث 22 جانفي 1952.