ماهر جعيدان
في أزقة المدينة العتيقة بسوسة تتناهى إلى مسامعك من بعيد زغاريد نسوة حول دكاكين مصطفة في مدخل “سوق الرِبع”، تقترب منهن فترى أهالي العريس يتزاحمون على اقتناء ما يطلق عليه بـ”قفة العروس” وهي عبارة عن سلة من سعف الجريد يقتنيها أهل العريس قبل أيام من موعد الزواج تقدم هدية للعروس. قفة عجيبة هي جزء من تقاليد الزواج في تونس، تحتوي سحر الماضي وعبق التاريخ وموادًا نخالها اندثرت في القرن الواحد والعشرين لكن نراها من جديد فتُحيي فينا رائحة الأجداد.
هنا في نهج باريس بين “سوق الربع” و”الرحبة”، وهي سميت كذلك لوصف الهيئة التي يجلس عليها التاجر متربعًا في انتظار زبائنه، يتلاقى كافة الناس من رواد المدينة العتيقة. هو زقاق ضيق لا يتجاوز عرضه ثلاثة أمتار و لما توغلنا فيه، ترى ازدحامًا كبيرًا قد يعجز الزائر عن المرور فيه بسهولة فالأسواق على حالها كما في القرون السابقة.
فقد وصفها الرحّالة دي فونتان Des Fontaines الذي زار سوسة أواخر القرن الثامن عشر قائلًا: “الأسواق نظيفة، ومقبية بطريقة جيّدة، والمساجد جميلة جدّا.. والنّاس كثيرون في الأنهج حتى أنّه يصعب التّجوال بها”. وتتناهى إليك رائحة البخور والعطور التقليدية وكأنك في محفل زواج وتمتزج الروائح بأصوات الباعة وزغاريد النسوة اللاتي جئن لاقتناء القفة.
سهيل محمد هو أحد الباعة في المدينة العتيقة له من الخبرة في إعداد محتويات القفة، يعمل في دكان أصيل يعود إلى نحو قرن من الزمن في هذه المهنة، وعلم أشياء من تقاليد الحضر والبدو بالجهة. رافقنا سهيل في جولة مفسرًا لـ”الترا تونس” محتويات قفة العروس والغرض من كل مادة تحتويها، وقال لـ”الترا تونس”: “القفة التونسية الأصيلة تعد من سعف النخيل وهي من عاداتنا وتقاليدنا في التسوق نملؤها أولاً بورق الحنة المجفف في قاعها ثم نضيف كميات من السواك بين 50 و100 غرام توضع في قراطيس، وتختلف الكمية حسب الجهة التي تطلبها فليست القفاف على حد سواء في محتواها”.
وتابع قائلًا “بعد إضافة السواك نقوم بوضع قراطيس من العلكة العربية التي سيتم تفريقها على النسوة والصبايا عند فتح القفة، ثم نضع “العفص” و”عود القرنفل” و”الحديدة” وهي مكونات لإعداد “الحرقوس” وهووشم عربي أصيل تفوح منه رائحة زكية تعدّه النسوة يدويًا”. وحدثنا سهيل أنه توضع أيضًا في القفة قراطيس من أنواع البخور مثل ” الوشق” و “الداد” بمقادير مختلفة، وهي تبعد الحسد في المخيال الجمعي التونسي وتضاف إليها مقادير من “الجاوي” الأسود والأحمر” وكذلك مادة “السرغيم ” المغربي الأصل الذي يخلط بالبخور.
ومن المواد الأساسية التي توضع كذلك في القفة ما يطلق عليه “بالفاسخ والفيسوخ” التي تحدث عنها سهيل قائلًا “هي مواد أساسية لا مجال للاستغناء عنها تبعد كل أنواع السحر، وتقي العروسين من الشرور وتستعمله أم العريس بأن يشربه ويستحم به ويقومون برش مياهه في بهو المنزل كما يخلط بالبخور”.
وأردف سهيل لـ”الترا تونس” قائلاً: “إضافة الى هذه القراطيس التي تعتبر من تقاليدنا الحسنة بعيدًَا عن تلك المواد المشبوهة التي تستعمل في أغراض أخرى غير نبيلة (في إشارة إلى السحر)، نضع في القفة التونسية موادًا تخلط لتكوّن ما يسمى “بالحرقوس” وهي مادة سائلة سوداء فواحة تزين أيادي وساقي العروس ويتكون الحرقوس من “العفص” و”الحديدة” و شوش القرنفل” و”جوز الطيب”.
وتُضاف إلي قفة العروس “المسكتة” وهي عبارة عن حبيبات صفراء تستورد من بلاد اليونان تستعمل بهارات لطبق الكسكسي، و”الزعفران ” و”الكمون الأخضر والأحمر” وحبات سوداء يطلق عليها اسم “السينوج” و ثمرة “الزبيب” و هي عبارة عن عنب مجفف.
والتقينا، في جولتنا، كذلك التاجر في محل العطور حسن أرناز الذي أكد لنا أن العديد من العائلات التونسية أصيلة جهة سوسة والمنستير تتوافد في هذه الفترة من كل سنة لاقتناء قفة العروس التي لازالت تحافظ عليها قرى الساحل. وأشار لنا أن سعر القفة يتراوح بين 80 و120 دينارًا وذلك حسب المقادير التي تحتويها.
وإضافة للمكونات المذكورة سلفًا، أفادنا حسن أن القفة تضمّ أيضًا مكونات قلادة “السخاب” التي يتم صناعتها من “المحلب” وهي بذرة بيضاء مشرقية تًستورد من سوريا ويزين بها صدر العروس، كما تستعمل مادة “الباروق” لتبييض الوجه وإزالة النقاط السوداء، وقارورة “كحل” طبيعي ونوع من المسك الذي يلطف الجسد من رائحة العرق.
وكشف لنا محدثنا أنه يتم ملء القفة بعلبة سكر من فئة 1 كلغ وهي ضرورية قبل أن تضاف الصابونة وزيت الياسمين والشمعدان والمشط و “الفلاية ” وسمكة بلورية لترش بعد ذلك بالحلويات. وفي نهاية المطاف، تُخاط القفة بالإبرة والخيط وتسلم في موكب احتفالي متميز يضفي بهجة الأفراح في المدينة العتيقة، كما أشار لنا التاجر حسن أرناز.
كما التقينا في محل العطور بالمدينة العتيقة بسوسة، فاتن نويصر التي حدثتنا عن باقي مكونات القفة، قائلة “نحن النسوة في الساحل التونسي كغيرنا في باقي البلاد نهتم شديد الاهتمام بمكونات قفة العروس ومقاديرها ولا نتنازل عن مكونات قد تكون منقوصة منها، وذلك قدد يتسبب في إثارة الخلاف بين العائلات المتصاهرة”. وأضافت “نحن نحرص على تقاليد أجدادنا رغم تغير الزمن وتطور العصر غير أن هذه المواد لم تعد ذات جدوى نوعية، ولكنها تشدك إلى بلدك ومسقط رأسك وتذكرك بتراث الأولين من ذوي القربى”.
وأفادتنا محدثتنا فاتن أن قفة العروس يقع فتحها من طرف “الحنانة” وهي المرأة التي تزيّن العروس يوم “الحمام” وهو اليوم الذي تقصد فيه العروس رفقة الصبايا حمام القرية أو الحي مرتدية “السفساري” وقميصًا وسروالًا مطرّزين، وتستعمل منذ ذلك اليوم كافة محتويات القفة حسب تقاليد متوارثة يفقهها كبار السن، كما تقول فاتن.
تكمن إجمالًا في مواد “القفة” أسرار الزواج فكل ما يحاط بهذه المواد من رموز نجدها في مخيال العائلة التونسية من مظاهر الاحتفالية وضروب الجمالية والتحصين من الشرور، لتبقى بذلك “قفة العروس” في تونس عنوانًا للأصالة والتشبث بالتراث المحلي الذي يحفظ الذاكرة الجماعية.
المصدر: الترا تونس