«الإخوان المسلمون».. من حسن البنّا إلى ورثته اليوم

تحقيق وتوثيق ليلى زيدان عبد الخالق

 

حين يتحدّث «الإخوان» عن إخفاق التجارب الديمقراطية في العالمَ العربي ووما يطلقون عليه تسمية «العالم الإسلامي» فإنهم يتحدّثون في الوقت ذاته عن شيء آخر: «إخفاق التجارب الديمقراطية هو انتصارٌ كبيرٌ للفاشية»! ومعنى ذلك أنّ هؤلاء يتحدّثون عن إيديولوجيتهم لا عن النظرية الديمقراطية في أساسها. إنّهم يقدّمون منظور الخلافة الأصولي أولًا وقبل أيّ أمرٍ آخر.

وليس هذا فقط سواء أكانت الديمقراطية في تجارب العالم العربي أو الإسلامي قد انتهت إلى فشل أو انتكاس فإنّ موقف الإخوان منها جاهز أبدًا لا يحتاج إلى تجارب أو تعديل. ولكن مع فارق أساس بيّنته مواقف سابقة اتّسمت بالحقد والتوتر. أمّا اليوم وقد أصبحوا بهذه القوة والاتّساع والانتشار عربيًا وإقليميًا فإنّ مواقفهم باتت تتكئ على هذا الاتساع مقابل تشرذم خصومهم. فـ«الإخفاق القومي» ـ بحسب وجهة نظرهم ـ في حقل التعبئة والاستنهاض والاستقطاب هو انتصارٌ للإسلاموية في مجال الفكر وللسياسية في حقل التعبئة ولمبدأ «الأمة الإسلامية» في حقل الاستقطاب ولشعار الشورى في ميدان السياسة.

ومع انهيار الاتحاد السوفياتي في نهاية الثمانينات من القرن الماضي وما صاحبه من انتكاسة لليسار الشيوعي فإن الحقول والميادين لا تلبث أن تتلاشى لتنحلّ في جسد التنظيمات الإسلامية قتصبح الانتصارات كلّها انتصارًا لـ«الخيار الإسلامي» ويصبح هو بالذات مرآة للنظرية الإسلاموية والممارسة ونهجًا لكل مقاومة و… عودة مظفرة للأصل والسلف «إذ إنهما معقل الإيمان وحصن الدين السليم»!

وهكذا عاش الإخوان مع «الربيع العربي» غبطة زمانه لكن هذا الزمن هو نفسه سيسعفنا في فهم ما هو «الصحيح» في حقيقتهم ومنطلقاتهم ومسيرتهم.

فمَن هم هؤلاء الذين تذرّعوا بالدين وتشعّبوا تشعّب العمليات الاختراقية لا بل اكتسبوا كل أشكال القياس الجهادي بحكم طريقة مقلوبة غريبة؟!

أحلام كبيرة رافقت نشوء «الإخوان المسلمين» وهذه الأحلام ما زالت موجودة وربما بعضها أضحى أضغاث تمنيات. في البداية قد تجذب دعوة «الإخوان» بعض الناس خصوصًا المتأثرين بالدين لكن سرعان ما تصدم الحقائق فالإخوان على خطى الفاشية.

 

“الإسلام هو الحلّ”

على مدى عقود مكّن هذا الشعار جماعة «الإخوان المسلمين» من لعب دورٍ سياسيّ دراماتيكيّ في عهود مصر الممتدّة من أيام الملك فؤاد وحتى الآن.

في السنة الثانية ما بعد سقوط نظام مبارك 28 2 2011 جرت الانتخابات الرئاسية في 23 و 24 أيار ودارت المنافسة فيها بين حمدين صُباحي ذو الميول الناصرية السيّد أبو الفتوح المنشقّ عن «الإخوان المسلمين» فضلًا عن بعض مرشّحي اليسار ممّن شاركوا في الثورة ومحمد مرسي ممثل الإخوان أنفسهم والذي بدا بصورة الحزبيّ الباهت الذي تنقصه الكاريزما منذ إطلالته الشعبية والرسمية على حدّ سواء.

وكما هو معروف فإن مرسي بعدما انحصرت المعركة بينه وبين اللواء أحمد شفيق نال 23.6 من الأصوات تمكّن من الفوز على خصمه هذا بنسبة 24.8 ولكن ليس من دون علامة استفهام كبرى.

في 30 حزيران كان محمد مرسي قد حكم مصر سنة كاملة! وقليلون من الناس قبل سنة من حكمه استطاعوا أن يعيّنوا النواحي التنظيمية التي كان فيها رئيس جمهورية مصر الجديد أقلّ أهمية ـ وبما لا يُقاس ـ من مرشديه الإخوانيين. هؤلاء الّذين شرّعوا بالاستيلاء على مؤسسات الدولة الدستورية تمهيدًا لوضعها في مكان ثابت على مسار «أخونة العالم العربي» انطلاقًا من فكرة فاشية راودتهم كما راودت غيرهم منذ ولادة حركتهم الأولى.

ولكن؟ كثيرون من الناس بعد سقوطه وبالتالي بعد إخفاق التجربة الإخوانية والاهتراء المطّرد والاحتضار بدأوا يتساءلون عن الأسباب الكامنة وراء هذه الخاتمة المأزومة التي غدت أكثر انقسامًا بالتراجيدية المأساوية من جرّاء حدوثها بهذه الصورة المفاجئة بالذات. وبالتالي فقد غدا مناسبًا طرح السؤال عمّا جرى للعقيدة والممارسة اللتين بدتا خلال الجزء الأكبر من القرن العشرين كما لو كانتا ممثلتين لموجة المستقبل.

ما الذي أدّى إلى الخيبة والإخفاق خصوصًا إلى الجرائم التي تضافرت وأدّت إلى فضح إيديولوجية وحركة سياسية وتجربة اجتماعية نشأت أساسًا بوصفها عوامل ممهّدة للطريق الموصل إلى «الخلاص الدنيوي» وجرّدتها من مصداقيتها؟

 

الخمائر الأولى

يُرجع بعض المؤرّخين المصريين ولادة الإخوان المسلمين إلى «حركة قذفها تيار إسلامي محتضر» أو إلى أنها «آخر اختلاجة من اختلاجات مصر الإسلامية التي بدأت مع مجيء الحملة الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر وظلّت إلى نهاية الحرب العالمية الأولى»: «يومها أعقب هذه الحرب ولادة تيار قومي انبثق عمّا أطلق عليه «عصر الأنوار» إذ أخذ المجتمع المصري يتحول من مجتمع إسلامي شرقي إلى مجتمع عصري متغرّب. ويومها أيضًا نبذت المرأة المصرية حياتها المنكفئة مقتحمة بذلك ميدان العلم والتعليم والعمل والسياسة والمناداة بالمساواة بينها وبين الرجل بل والتنديد بتعدّد الزوجات وحتى المحاكم الشرعية. كما أنّ المواطن العادي راح ينتهج أسلوب الحياة العصرية في زيّه وعاداته فيما الشبيبة الجديدة أخذت تنصرّف عن التعليم الديني إلى الثقافة الحديثة التي تشكل قاعدة استنادها».

ويضيف التأريخ المصري: «تزامن مع هذه التحوّلات تحوّل تركيا نحو الغرب مسدلةً بهذا الستارة عن ماضيها الآسيوي والإسلامي الممتدّ عبر أربعة قرون طويلة. وبدا هنا أنّ النخبة المصرية تماهت هي الأخرى مع نزعة تركيا خصوصًا في الجوانب المتّصلة بشخصية الذات القومية فحينما اتخذ الكماليون «الذئب الأغبر» نسبة إلى عنوان كتاب شهير للمؤرخ والباحث الإنكليزي أرمسترونج حول أتاتورك وهو رمز أسلافهم الأقدمين شعارًا لهم يرسمونه على طوابع البريد نجد أنّ المصريين حذوا حذوهم وأخذوا يرسمون أبا الهول على أوراق عملتهم وعلى طوابعهم البريدية.

وليس هذا فقط فقد اقتفى المصريون أثر الدعوات التي أطلقها الكماليون إزاء نبذ الحجاب وتبنّي السفور والاختلاط وإعادة النظر في قانون الأحوال الشخصية بحيث يتماشى مع المدنية الحديثة.

ولئن قام الأتاتوركيون بوضع هذه الأفكار موضع التنفيذ: أولًا بموجب قوانين وثانيًا بسبب ما كان يثير النفور في نفوس الأتراك من مكوّنات «الحضارة العثمانية العمياء»… فإن تلك الأفكار كانت موضع نقاش وجدال واسعين وأكثر فأكثر في موضع صراع بين المصريين ممّن يطلبون وهم على درجات متفاوتة من الثقافة والوعي والانتماء والتمسك بتعاليم الإسلام على قاعدة أصولية أو سلفية أو جعل هذه التعاليم منفتحة على تحوّلات العصر ومتغيّراته أو الاتّجاه نحو عَلْمنة تفصل الدين عن الدولة وحتى القطيعة مع الدين في السياسة والتشريعات القانونية أو تبنّي نزعة فاشية وحتى نازية: زعيم مصري من دم فرعونيّ تأسيس إمبراطورية عظيمة تتألف من مصر والسودان وتتحالف مع الدول العربية وتتزعم الإسلام وإشعال القومية المصرية بحيث تصبح كلمة «المصرية» هي الكلمة العليا وتصبح مصر فوق الجميع. حتى أن الفكرة التي أوحت إلى موسوليني لأن يبتكر القميص الأسود في إيطاليا والتي أوحت إلى هتلر لأن يبتكر القميص البنّي في ألمانيا أوحت إلى المصريين الفاشيين أن يحذوا حذو فاشية موسوليني ونازية أدولف هتلر!

وترتب على ذلك تلوّن الصراع الداخلي في مصر بالتلاوين نفسها التي طبعت الصراع العالمي. والحق يقال إنّ «التيار القومي الليبرالي» هو الذي حقق انتصاره على باقي التيارات الأخرى في هذا المجال».

 

الفساد ينخر

وأيضًا على ذمّة التأريخ المصري ففي ما خصّ «القلاع الإسلامية» في مصر «لم يبقَ منها سوى ثلاث: الطرق الصوفية الأزهر و«مدرسة المنار» التي شكّلت امتدادًا لمدرسة الأفغاني وللشيخ محمد عبده.

غير أن الطرق الصوفية سرعان ما لحق بها الفساد جرّاء التحريف والبدع وإشاعة المعتقدات الاستسلامية والعادات الفاسدة ثم إنها تلقت ضربة شبه قاتلة على يد «حركة الإصلاح الديني» التي قاد لواءها الأفغاني والشيخ محمد عبده وبعدهما رشيد رضا فضلًا عن الأزهر الذي تميزت مهمته بتكريس الإسلام المعتدل والحفاظ على التراث العلمي الإسلامي ويُعترف له بدوره العظيم الذي قام به في ثورة 1919 بعد تحطيمه الحواجز الدينية التي كانت تقف بين المسلمين والأقباط ورفعه علم القومية المصرية ممثلًا في الهلال والصليب تحوّل يومها بمفارقة مؤلمة ليصبح أكبر معقل رجعي في مصر كونه ارتمى في أحضان السراي وعمل لحسابها في نقل الخلافة من شاطئ البوسفور إلى ضفاف النيل وذلك تكريسًا للأتوقراطية… أما «مدرسة المنار» فقد تميزت بتبنّيها الجانب الفكري والفلسفي في التيار الإسلامي والتي عُدّت امتدادًا محافظًا لمدرسة الأفغاني ـ عبده وكانت غاية رشيد رضا من إصدار «المنار» عام 1848 المواصلة في السير على نهج «العروة الوثقى» وهي مجلة أنشأها جمال الدين الأفغاني مع الشيخ محمد عبده وموجّهة إلى الأمّة الإسلامية داعيةً إياها إلى التوحّد وهي إن تفرّدت بشيء فإنها تفرّدت بدعوتها إلى الإصلاحات الاجتماعية والدينية وإقامة الحجة على أنّ الإسلام لا يتنافر مع الظروف العصرية المستجدّة وعملها الدؤوب على محاربة الخرافات والمعتقدات الدخيلة على الإسلام والتعصّب لمذهب من المذاهب وما دخل على العقائد من «بدع الاعتقاد في الأولياء». وهي قد تبنّت على طول الخط التبشير بـ«الأخوّة الإسلامية» التي تتجاوز حدود الأوطان. وتبنّت أيضًا مبدأ الخلافة على نهج أهل السنّة هذا النهج الذي سيفصح عنه رشيد رضا في المؤتمر الإسلامي الذي عُقد في 13 أيار عام 1926: «أن تُبنى الأحكام وتُنظّم الدولة في مملكة الخلافة على التشريع الإسلامي المتفق مع مبادئ المنار».

 

الولادة من الخاصرة

كان حسن البنّا الذي نشأ في أسرة دينية عريقة في التديّن من بين أكثر قارئي «المنار» لا بل من أكثر حاضري مجالس رشيد رضا. وكان أكثر ما استرعى انتباهه الموقف الحاسم الذي أطلقه رضا إزاء مقولة «فصل الحكومة والدولة عن الدين» إذ اعتبر أنّ قولًا كهذا من شأنه «محو السلطة الإسلامية من الكون ومسح الشريعة الإسلامية من الوجود وخضوع المسلمين إلى من ليس على صراط دينهم».

وكانت الأسس الأخرى التي حفظها البنّا عن «المنار» هي: شمولية الإسلام الرجوع بالإسلام إلى بساطته الأولى الجامعة أو الرابطة الإسلامية التمسّك بنظام الخلافة والحكومة الإسلامية.

وبدأ البنّا انطلاقاته من هذه الأطر الخمسة وذلك منذ تاريخ ولادة «حركة الإخوان المسلمين» عام 1928. وتبعًا لإحدى خطبه: «إن الإخوان أيقنوا أنّ الإسلام هو هذا المعنى الكلّيّ الشامل- كتاب الله وما فيه من استلهام واسترشاد وأنّه يجب أن يهيمن على كل شؤون الحياة وأن تصطبغ جميعها به وأن تنزل على حكمه وأن تساير قواعده وتعاليمه ما دامت الأمة تريد ان تكون مسلمة إسلامًا صحيحًا. أما إذا أسلمت في عبادتها وقلّدت غير المسلمين في باقي شؤونها فهي أمة ناقصة الإسلام».

وقال في خطاب آخر: «إن الذين يظنون أنّ تعاليم الإسلام إنما تتناول الناحية العبادية أو الروحية دون غيرها من النواحي مخطئون في الظن. فالإسلام عبادة وقيادة ودين ودولة وروحانية وعمل وصلاة وجهاد وطاعة وحكم ومصحف وسيف لا ينفك واحدٌ من هذين عن الآخر».

إلّا أن هناك فارقًا جوهريًا ومهمًا بين حسن البنّا ورشيد رضا الذي اكتفى بالدعوة على صفحات «المنار» في حين أنّ حسن البنّا شرع بتأسيس حركة شبه علنية لكنها عسكرية في أساسها وسرّية في عمقها: «دون هذا الأمر ـ والقول للبنّا ـ فإن صوت المصلح سيكون صرخة في وادٍ ونفخة في رماد» ومن أجل ذلك فهو خلافًا لرشيد رضا قد زجّ نفسه في المعترك السياسي والإرهابي فأجهض دعوته الإصلاحية الأخلاقية وحكم عليها منذ البداية بالفشل.

كذلك وفي الإطار نفسه فإنّ حركة حسن البنّا لم تنبع كردّ فعل «لفعل حقيقي» إنما نشأت كرد فعل لوهم أو تصوّر حول ما يعنيه الانفتاح على الحضارة الغربية والأخذ بالديمقراطية الليبرالية واعتناق الأفكار الاشتراكية حتّى في أبسط صورها… وهي بذلك تختلف عن حركة «العروة الوثقى» التي نشأت كردّ فعل لخطر حقيقي متمثّل في الغزو الأوروبي الاستعماري للعالم الإسلامي وهي بالتالي قد نبعت من حاجة أساسية للمجتمع تتصل بتحرره الوطني من الاستعمار.

والحال أن حسن البنّا وبعد حصوله على دبلوم دار العلوم عام 1927 امتهن التعليم في وظيفة مدرّس في مدرسة الإسماعيلية الابتدائية. وهذا ما جعله يستقرّ في هذه المدينة وينشط فيها بصفته داعية من طراز جديد. وهو في هذا لم يتوجه إلى جمهور المساجد بل اختار مقاهٍ كبيرة عديدة ونظّم لكلّ منها درسًا دينيًا مرّة واحدة في الأسبوع. ما أتاح له تأسيس مروحة من العلاقات مع مجموعة من الشخصيات والفاعليات ومنهم: فؤاد ابراهيم عبد الرحمن حسب الله اسماعيل عزّ وزكي المغربي إذ تمّت في ما بعد بيعةً بينه وبينهم جميعًا من أجل أن يناضلوا للإسلام والمسلمين. ولكنهم احتاروا في اختيار اسم التنظيم الذي سيعملون في إطاره: حزب… حركة… جماعة… نادٍ… إلخ. إلا أنّ حسن البنّا استبعد هذه التعريفات كلها على خلفية أنها أسماء شكلية وفارغة المحتوى: «… دعونا من الشكليات والرسميات نحن أخوة في خدمة الإسلام نحن إذا «الإخوان المسلمون»… وكانت هذه ولادة أخطر حركة في تاريخ مصر الحديث.

 

الدوتشي: حسن البنّا

رجلٌ واحد يُنظّر ينظّم ويقود و… يقود عن الجميع!

في تشرين الأول من عام 1932 انتقل حسن البنّا من الإسماعيلية إلى القاهرة: كان مفهوم البنّا عن دور الطلاب جوابه الخلاّق على المأزق التنظيمي الذي عانت منه معظم الأحزاب ـ إن لم يكن كلّهاـ في مصر. فهذه بنت هيكلها التنظيمي على نخبة من شخصيات سياسية لها سمعتها وشأنها في الحياة الاجتماعية هذا فضلًا عن السياسية والاقتصادية العامة.

وهكذا لم يكن قد مضى سوى عام واحد منذ إقامته في العاصمة حتى شرع بإعداد خطته للسيطرة على الجامعة المصرية… وسرعان ما تحقق له هذا الحلم بالسيطرة وذلك خلال استقطاب عناصر طالبية نواتية: في العام الأول كانوا ستة وفي نهاية العام الثاني زادوا إلى أربعين عنصرًا بينما في العام الثالث أصبح عددهم ثلاثمئة وفي الرابع كانوا قد أحكموا السيطرة على الحركة الطلابية الجامعية.

قبل ذلك كان هذا الداعية ينظّر عن الإسلاموية وهو مسكون بغضب وحقد وتوتّر ثمّ أصبحت المسرّة والرضا يخالطان الكلمات عنده. فما كان يحلم به حققه في فترة غير متوقعة ولم يعد ينقصه سوى إقحام العناصر النواتية في مهمة نشر الأفكار والمبادئ التي قامت من أجلها الحركة: «إنكم دعاة تربية ـ خاطب البنّا نواته ـ وعماد انتصاركم إفهام هذا الشعب وإقناعه… فهذا هو طريقكم إلى غايات أوسع وهي خلق أمة نموذجية لتنسجوا على منوالها الأمم الشرقية جميعها ومن ثمّ توحدونها لنأخذ بيد الإنسانية جميعًا إلى تعاليم الإسلام».

في موازاة هذا الخط الاستقطابي للطلاب والشبيبة في صورة عامة كان البنّا يعمل على إنشاء فروع لحركته في المدن والأرياف من دون كلل: في بور سعيد والبحر الصغير والسويس وفي الإسماعيلية وقد سارت حركته هذه ـ بحسب الدكتور إسحق موسى الحسيني ـ في كتمان وأسرار. وقد تحدّث في أحد كتبه: «الإخوان المسلمون ـ كبرى الحركات الإسلامية الحديثة» الصادر عن دار بيروت للطباعة والنشر عام 1952 عن أنّ هذه الحركة لها أصول في التاريخ الإسلامي وهي تشبه إلى حد كبير الحركة الوهابية والحركة السنوسية وهي متأثرة بالمدرسة السلفية الحديثة التي ترأسها الشيخ رشيد رضا في مصر ومدرسة ابن تيمية المتوفّى سنة 737 هـ.

وما هي إلّا سنوات قليلة حتى كان البنّا قد استكمل بناء الحركة ومستلزماتها وحتى مقتضياتها العسكرية: تشكيلات ميليشياوية أو كتائبية سيطلق عليها للتمويه اسم التشكيلات الكشفية وهي تنظّم محاضرات ودروس منتظمة في الدور والمساجد وتعمل على إصدار مجلة أسبوعية وأخرى أطلق عليها اسم «النذير» ومع استيفاء شروط البناء لم يبقَ أمامه سوى الانتشار في «الأقاليم» خارج مصر. وهذا ما فعله إذ غدا للحركة شُعبها في: السودان وسورية ولبنان وفلسطين والمغرب والآن… في كل مكان!

ولكن في الإطار الزمني نفسه كانت الفاشية والنازية أيضًا قد وجدت من يعتنق أفكارها ومبادءها في مصر: الطاعة والنظام للفرق المعسكرة ذات القمصان الزرقاء ونقيضها الفرق ذات القمصان الخضراء وأخيرًا القمصان الصفراء للإخوان المسلمين كلّها أظهرت الطابع الفاشي والفرق المعسكرة التي تشكل مدلولها التنظيمي: بعض الباحثين كما يذكر عبد العظيم محمد رمضان في كتابه عن تطور الحركة الوطنية في مصر 1937-1948: «يعتقد أن إصباغ حركة الإخوان المسلمين بالصبغة الفاشية أمر لا شبهة فيه». كما أنّ الدكتور إسحق الحسيني المتابع المختص في شؤون الإخوان كان قد جزم بهذا الميل الفاشي للإخوان انطلاقًا من أنّ البنّا أخذ عن الفاشية فكرتها عن الطاعة والنظام بل وجعلها مصكوكة صكًا في عدد من القوانين الواردة في نظام الإخوان الأساسي: كالبيعة على السمع والطاعة للمرشد والثقة بالقيادة وتنفيذ القرارات وإن خالفت رأي العضو.

وفي الحقيقة إنّ حسن البنّا أو «الفوهرر الألماني» لم يكن ليخفي نواياه: فهو قد عبر عن إعجابه بكل من هتلر وموسوليني منذ وقت مبكر من تأسيس حركته وقد وصفهما بأنّهما: «قادة النهضات الحديثة في أوروبا» كما أنه أشاد بالاتفاقات التي عقداها مع الفاتيكان داعمًا أولئك الذين لا يزالون غارقين في سكرتهم هائمين على أوروبا اللاتينية أن يفيقوا من هذه السكرة ويفتحوا أعينهم على أوروبا الحديثة الفاتيكانية.

فلا عجب ـ والحال هذه ـ أن يسترجع صدى شعار مصر الفتاة التي أنشأ تنظيمها أحمد حسين: «الله والوطن والملك».

لقد انتظم الإخوان في ساحة عابدين على باب القصر رافعين سارية اللواء التي تبلغ حوالى أربعة أمتار ونصف المتر وعليها رقعة فسيحة من القطيفة الخضراء رسم عليها المصحف في نصف دائرة هلالية وراحوا يهتفون: «الله أكبر ولله الحمد الإخوان المسلمون يبايعون الملك المعظّم نبايعك على سنّة الله ورسوله». كما أن جماعة الإخوان وجماعة مصر الفتاة قبلها تتفقان في أبرز الملامح الفاشية فكلاهما تستقيان من الفاشية التنظيم شبه العسكري ومعاداة الديمقراطية الليبرالية… واعتماد الدين قاعدة أساسية للدعوة والنزعة الإمبراطورية والحراسة المسلّحة لمصالح الرأسمالية واعتناق الديكتاتورية المُعادية لتعدّد الأحزاب والثقافات وتوجيه قوى الأمة السياسية وجهة واحدة.

 

انحراف الزورق

حسن البنّا الذي نظّر ونظّم وقاد وقرّر عن جميع إخوانه عام 1938 بالنزول إلى المواجهة اعتبر أن وقت التنظير قد انتهى فكتب حينذاك: «بدأت دعوتنا خالصة لوجه الله… والآن حان وقت العمل حان وقت الجدّ ولم يعُد هناك مجال للإبطاء فإن الخطط توضع والمناهج تُطبق… وسنتوجه بدعوتنا إلى المسؤولين من قادة البلد وزعمائه ووزرائه وكافة حكامه وشيوخه ونوابه وأحزابه وسندعوهم إلى مناهجنا ونضع بين أيديهم برنامجنا فإن أجابوا الدعوة وسلكوا السبيل إلى الغاية آزرناهم وإن لجأوا إلى المواربة فنحن حرب على كل زعيم أو رئيس حزب أو هيئة سنعلنها خصومة لا سلم فيها ولا هوادة…».

ويسلك الإخوان بعدها طريق العنف فإذ بـ«الجهاز الخاص» يقوم باغتيال النقراشي باشا ويستتبع ذلك اغتيال مضاد عام 1949 يستهدف الشيخ حسن البنّا نفسه.

ومنذ ذلك اليوم تشهد مصر مرحلة من العنف: حريق القاهرة حادث المنشيّة عام 1954 و 1965… إلخ

جنح الإخوان بزورقهم إلى خضمّ العنف القاتل بل أخذوا يُعدّون العدّة لإقامة الحكومة الإسلامية عن طريق إنشاء تشكيلات عسكرية وإقامة التنظيمات التحتية الإرهابية فأجهضوا الكثير الكثير من تحوّلات مصر المضيئة ولم يطلهم هذا الإجهاض وحدهم إنّما أصاب مصر القرن العشرين برمّتها. فماذا عن الإخوان في مصر في الهزيع الأخير للقرن العشرين وفي العقدين الأولين من القرن الحادي والعشرين؟

 

البناء

تعليقات

عن Houda Karmani

شاهد أيضاً

المرسوم عدد 55 لسنة 2022: تخوفات من خسارة المرأة التونسية لمكتسباتها

فادية ضيف كان اختيار تونس عاصمة “المرأة العربية ” لسنتي 2018 و 2019 و عاصمة …