المعايير الدولية لحقوق الإنسان محرار العقوبات البديلة في تونس

تقرير هدى القرماني وماهر جعيدان

هذا التقرير من ضمن سلسلة تقارير أنجزت حول موضوع العقوبات البديلة في تونس بالشراكة مع “معهد صحافة الحرب والسلام”

رغم محدوديتها وضع المشرّع التونسي بدائل للعقوبات السالبة للحرية لتمنح القاضي مزيدا من الخيارات التي تحقق المعادلة بين طبيعة الجريمة المرتكبة والظروف التي أحاطت بها وشخصية الجانح وفرص إصلاحه.

ولئن فصلّت مجلة الإجراءات الجزائية تلك العقوبات وشروط التمتع بها وأكّد الدستور التونسي لسنة 2014 من جانبه على ضرورة احترام حقوق الأفراد والمحافظة على حرياتهم ومعاملة السجين معاملة إنسانية تحفظ كرامته مع مراعاة الدولة في تنفيذ العقوبات السالبة للحرية مصلحة الأسرة والعمل على إعادة تأهيل السجين وإدماجه في المجتمع مثلما جاء بذلك الفصل 30، فإن الواقع أظهر عدم التجاوب الجديّ مع هذا النوع من العقوبات وذلك بشهادة كافة المتدخلين من حقوقيين ومحامين وقضاة.

وقد انطلق التوجه نحو اعتماد العقوبات غير السالبة للحرية في التشريع الوطني منذ أوت 1999 بإصدار القانون عدد 89 والمتعلق بإرساء نظام العمل لفائدة المصلحة العامة ثم القانون عدد 77 المؤرخ في 31 جويلية سنة 2000 والمتعلّق بإحداث مؤسسة قاضي تنفيذ العقوبات والقانون عدد 92 لسنة 2002 المتعلق بتدعيم صلاحيات قاضي تنفيذ العقوبات فـالقانون عدد 68 لسنة 2009 والمتعلق بإرساء عقوبة التعويض الجزائي وبتطوير الآليات البديلة للسجن، وبدستور 2014 تجلت مبادئ أنسنة العقاب والحفاظ على الحريات وكرامة الانسان في أعلى قانون للدولة.

وما يفتقر اليه النص التشريعي فيما يتعلق بالعقوبات البديلة عدم ذهاب المشرّع في توسيع هذه العقوبات وعدم التنصيص على الآليات الكفيلة والضامنة لتنفيذها إضافة إلى غياب إرادة سياسة قويّة اتجهت سابقا نحو ادخال إصلاحات جذرية على القانون الجزائي رغم عديد التنقيحات التي شملته والتي تبقى غير كافية.

تنقيحات في اتجاه المعايير الدولية للتدابير غير الاحتجازية

ومن بين التنقيحات الهامة التي أجراها المشرّع التونسي وفقا لما أفادنا به بسام سعيد مدير مكتب منظمة الإصلاح الجنائي بتونس تنقيح مجلة الإجراءات الجزائية والمتعلق بالاحتفاظ بمقتضى القانون عدد 5 المؤرخ في 16 فيفري 2016 فأخضع الاحتجاز لإجراءات صارمة تحت إشراف و إذن ممثل النيابة العمومية أو القاضي المتعهد مباشرة ، كما نقح القانون عدد 52 المؤرخ في 18 ماي 1992 المتعلق بالمخدرات و تمت المصادقة على التنقيح من قبل مجلس نواب الشعب بتونس في 25 أفريل 2017 بما يتناسب و ضمان الحريات و ما يتماشى و الصكوك الدولية بإعطاء الأولوية لاجتهاد القاضي في رصد العقاب بالنسبة لجرائم استهلاك المخدرات و بفتح باب العلاج على مصراعيه بالنسبة للجاني .

ويعدّ اصدار المرسوم عدد 88 لسنة 2011 والمؤرخ في 24 سبتمبر 2011 المتعلّق بتنظيم الجمعيات وفق محدثنا خطوة هامة لخروج المجتمع المدني المتنظم من وضعية الخمول التي كان عليها الى التوق نحو لعب دور فعّال وخوّل له حقّ النفاذ الى مراكز الاحتفاظ.

الأمر الذي سمح بتوقيع المنظمة الدولية للإصلاح الجنائي لمذكرات تفاهم مع مؤسسات المجتمع المدني وذلك بهدف تطبيق وتطوير الآليات الدولية لحقوق الإنسان الخاصة بتنفيذ القانون وتحسين ظروف السجن والاحتجاز، والتقليل من اللجوء لعقوبة السجن واستخدام عقوبات بديلة اصلاحية وتعزيز المعاملة الإنسانية والعادلة للفئات المستضعفة والمهمشة ضمن منظومة العدالة الجنائية من خلال تطبيق المعايير الدولية لحقوق الانسان وفق محدثنا.

والى جانب التشريعات الوطنية صادقت تونس على عدّة اتفاقيات أممية وافريقية في مجال حقوق الانسان فوقّعت على الميثاق الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية المؤرخ في 12 ديسمبر 1966 وعلى اتفاقية الأمم المتحدة للقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة المؤرخة في 18 ديسمبر1979 والميثاق الافريقي لحقوق الإنسان والشعوب المؤرخ في 26 جوان 1981 وعلى اتفاقية الأمم المتحدة المناهضة للتعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهنية المؤرخة في 10 ديسمبر 1984 وعلى الاتفاقية الخاصة بحقوق الطفل المؤرخة في 20 نوفمبر 1989.

المعايير الدولية للتدابير غير الاحتجازية

ويشير دليل مكتب المفوضية السامية لحقوق الانسان بتونس حول المعايير الدولية للتدابير غير الاحتجازية أو بدائل الاحتجاز بتاريخ 04 ماي 2018 أنّ التدابير غير الاحتجازية أصبحت جزء من قانون حقوق الإنسان الدولي وتلتزم الدول بالعمل بها ضمانا للغايات الكبرى التي جاء هذا القانون لتحقيقها وفي مقدمتها احترام الكرامة الإنسانية وصيانة الحرية الشخصية. ويتم العمل بالتدابير غير الاحتجازية في سائر مراحل الدعوى الجزائية حتى مرحلة تنفيذ الحكم الجزائي.

وتستند المعايير الدولية لحقوق الانسان المتعلقة بهذه التدابير إلى الإعلان العالمي لحقوق الانسان، العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية واتفاقية حقوق الطفل.

كما تبنت الأمم المتحدة التي انضمت اليها تونس في 12 نوفمبر 1956 جملة من المبادئ والمعايير التي تؤكد على أن التدابير الاحتجازية يجب أن تكون ملجأ أخيرا وأن أي شخص يجب أن يعامل معاملة إنسانية.

ومن أهم الإعلانات التي تبنتها الجمعية العامة للأمم المتحدة المبادئ الأساسية لمعاملة السجناء، القواعد النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء، المبادئ المتعلقة بحماية جميع الأشخاص المحرومين من حريتهم وقواعد الأمم المتحدة النموذجية الدنيا لإدارة شؤون قضاء الأحداث (قواعد بيكين).

كما اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة قواعد طوكيو (القواعد الدنيا النموذجية للتدابير غير الاحتجازية) في ديسمبر 1990 وتعتبر هذه القواعد الصك الدولي الأهم فيما يتعلّق بهذه التدابير.

وتضع القواعد المذكورة كما جاء في دليل رصد السجون في تونس لسنة 2017 والذي أعده الفريق الوطني لرصد أماكن الاحتجاز بالتنسيق مع الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان جملة من المبادئ الجوهرية لتشجيع اللجوء إلى تدابير غير سالبة وكذلك ضمانات دنيا للأشخاص المشمولين بإجراءات بديلة للسجن.

وتهدف هذه المبادئ إلى الحدّ من اللجوء إلى السجن وعقلنة سياسات العدالة الجزائية بالاستناد إلى مبادئ حقوق الانسان والعدالة الاجتماعية وإعادة ادماج الجانحين.

وتنطبق هذه القواعد على كلّ الأشخاص الملاحقين قضائيا أو بصدد المحاكمة أو تنفيذ العقاب.

وتنص القاعدة 2-3 من قواعد طوكيو على ضرورة أن يوفر نظام العدالة الجنائية طائفة عريضة من التدابير غير الاحتجازية بدء من التدابير السابقة للمحاكمة حتى التدابير اللاحقة لإصدار الحكم بالاستناد الى 4 معايير متمثلة في طبيعة الجرم ومدى خطورته، شخصية الجاني وخلفيته، مقتضيات حماية المجتمع وتفادي استخدام عقوبة السجن بلا داع.

كما تنصّ المادة 1/9 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية على أنه ” لا يجوز توقيف أحد أو اعتقاله تعسفا” ودعت المادة 1/10 من نفس العهد الدولي إلى أن ” يعامل جميع المحرومين من حريتهم معاملة إنسانية تحترم الكرامة المتأصلة في الشخص الإنساني”.

وفيما يتعلقّ باتفاقية حقوق الطفل والتي صادقت عليها تونس منذ سنة 1991 فقد نصّت المادة 37ب على أن “لا يحرم أيّ طفل من حريته بصورة غير قانونية أو تعسفية” وانه “يجب أن يجري اعتقال الطفل أو احتجازه او سجنه وفقا للقانون ولا يجوز ممارسته إلا كملجإ أخير ولأقصر فترة زمنية مناسبة”.

وانسجاما مع هذه الاتفاقية أصدرت تونس قانون عدد 92 لسنة 1995 والمتعلق بإصدار مجلة حماية الطفل وتعتبر من أهم المجلات ومكسبا تشريعيا متطورا لفائدة الطفولة يأخذ بعين الاعتبار “مصلحة الطفل الفضلى في جميع الإجراءات التي تتخذ في شأنه سواء من قبل المحاكم أو السلطات الإدارية أو مؤسسات الرعاية الاجتماعية العمومية أو الخاصة. ويراعي علاوة على حاجيات الطفل الأدبية والعاطفية والبدنية سنّه وصحته ووسطه العائلي وغير ذلك من الأحوال الخاصة بوضعه” كما جاء في الفصل 4 من المجلّة وخصصت له قضاء خاصا وتدابير حمائية ووقائية بديلة للاحتجاز. وتعترف عديد الدول بهذه المجلة معتبرة إياها نموذجا متقدما.

كما نص دستور 2014 في الفصل 47 منه على أنّ ” حقوق الطفل على أبويه وعلى الدولة ضمان الكرامة والصحة والرعاية والتربية والتعليم. وعلى الدولة توفير جميع أنواع الحماية لكل الأطفال دون تمييز ووفق المصالح الفضلى للطفل”.

فرضت هذه الاتفاقيات والمعاهدات على تونس أن تطوّر من تشريعاتها تماشيا مع منظومة حقوق الانسان التي انخرطت فيها وللحدّ من اكتظاظ السجون والعود إلى الجريمة.

فامتلاء الوحدات السجنية من شأنه أن يساهم في تفريخ المجرمين ويزيد من حجم التجاوزات والانتهاكات داخل السجون واثقال عبء الدولة بمصاريف كان الأفضل توجيهها نحو تحسين وتهيئة السجون وتكوين وتأهيل المساجين فارتفاع تكلفة السجن تصل إلى 214 مليون دينار سنويا حسب مكتب المفوضية السامية لحقوق الانسان بتونس.

 ويمثّل العائدون 45 بالمائة وفقا لنفس المصدرويحتلّ المحكومون في قضايا سرقة النسبة الأعلى من جملة بقية القضايا بـ 31 بالمائة ثم قضايا المخدرات بـ 26 بالمائة فالقتل 11 بالمائة، قضايا أخرى 17 بالمائة، العنف وحمل السلاح 9 بالمائة، الاغتصاب والمواقعة 3 بالمائة والفرار بالأشخاص 3 بالمائة.

قوانين نظريّة للتدابير غير سالبة للحرية وتطبيق ضعيف

رغم تبني القانون الجزائي التونسي الحالي للعقوبات البديلة وأساسها العمل لفائدة المصلحة العامة والتعويض الجزائي فإنّ المنظمة الدولية للإصلاح الجنائي رأت في دراسة قامت بها حول بدائل التدابير الاحتجازية في 6 دول عربية من بينهم تونس في ماي 2014 أنّ العقوبات السالبة للحرية لا تزال هي الأصل وذات الأولوية مقابل قلة العمل فعلا بالتدابير غير الاحتجازية والعقوبات البديلة.

وفسّرت المنظمة هذه الظاهرة بوجود نمطية ذهنية وثقافة مجتمعية تنظر للعقوبة كإجراء ثأري من الجاني وليس كتدبير يهدف إلى إعادة إدماجه في المجتمع والحيلولة دون ارتكابه للجرم ثانية.

وأشارت إلى أن تونس رغم أنها أخذت بهذا النوع من التدابير على المستوى النظري الا أنّ التشريعات والقوانين التي تنظم العمل بها يعتريها نقص واضح.

علاوة على ذلك فالعمل بالتدابير غير الاحتجازية والعقوبات البديلة يقتصر على جرائم محددة وهو ما يجعل نطاقها محدودا.

كما انتقدت المنظمة عدم إقرار تدابير وإجراءات صديقة للمرأة أو حساسة للنوع الاجتماعي ذلك أن ما هو معمول به من تدابير وعقوبات وإجراءات ينطبق على الرجال مثل النساء.

ولاحظت المنظمة ضعف التشريعات المتعلقة بالعدالة الجنائية مع غياب النهج القائم على حقوق الانسان فيها.

وهو ما تسعى الحكومة التونسية اليوم إلى تجاوزه نحو تغيير السياسة الجنائية طبقا لمقتضيات الدستور والالتزامات الدولية.

تجربة المصاحبة النموذجية بتونس

منذ صدور قانون عدد 89 لسنة 1999 والذي نص على العمل لفائدة المصلحة العامة كعقوبة بديلة لم توجد الآليات الكافية لتنفيذها الى ان أنشأ مكتب المصاحبة النموذجي بسوسة في 23 جانفي 2013.

وتعدّ المصاحبة (المرافقة العدلية) وفقا لمنظمة الإصلاح الجنائي أحد أبرز مظاهر تطور السياسات العقابية في العصر الحديث، فهو تدبير غير إحتجازي أساسه أنسنة العقوبة، ومضمونه مراقبة ومتابعة المحكومين في الفضاء المفتوح خارج أسوار السجن.

ويمكن للمصاحبة وفقا لبسام سعيد مدير مكتب المنظمة الدولية للإصلاح الجنائي بتونس أن تأخذ شكل عقوبة بوضع المحكوم عليه تحت نظام المصاحبة أو أن تأخذ شكل آلية تعتمد المراقبة والمتابعة اما قبل صدور الحكم كوضع شخص تحت نظام المراقبة والاختبار، أو بعد صدور الحكم وذلك بعد أن يقضي المحكوم عليه جزء من العقوبة داخل السجن ثم يتم تسريحه بموجب قرار بالسراح الشرطي، ووضعه تحت نظام المراقبة والمتابعة.

أما في تونس فقد اعتمدت المصاحبة كآلية مندمجة مع عقوبة العمل لفائدة المصلحة العامة ويكون المحكوم عليه الذي بصدد قضاء هذه العقوبة في ذات الوقت تحت رقابة ومتابعة أعوان المصاحبة.

لذلك تعرّف منظمة الإصلاح الجنائي المصاحبة بتونس بأنها جملة الآليات التي تعتمد على المراقبة والمتابعة والتأطير وتهذيب السلوك بغاية إعادة إدماج المحكوم عليه في المجتمع تنفيذا لحكم قضائي في الفضاء المفتوح يوازي فيه يوم سجن ساعتي عمل لفائدة المصلحة العامة.

وتكون تونس بذلك قد خلقت نموذجا خاصا للمصاحبة يتماشى مع خصوصية المجتمع والامكانيات المتوفرة لديه وللقوانين التي تسمح بذلك.

ولا تزال المصاحبة إلى حدّ اليوم بعد مرور أكثر من 5 سنوات على تأسيسها آلية وليست عقوبة على غرار ما هو معمول به في عدد من الدول الأخرى وتنتظر الإطار التشريعي المنظم لها.

لئن أسست تونس دستور الجمهورية الثانية لسنة 2014 وفقا لمنظومة حقوق الانسان فإن قوانينها لا زالت تشكو نقصا في ذلك المجال وهو ما تعمل عليه وزارة العدل من خلال الإصلاحات الجوهرية التي تقوم بها اليوم على مستوى المجلة الجزائية ومجلة الإجراءات الجزائية.

تعليقات

عن Houda Karmani

شاهد أيضاً

تركيبة المجلس الوطني للجهات والأقاليم ومهامه وأهم مراحل تركيزه

يعقد المجلس الوطني للجهات والأقاليم، غدا الجمعة، جلسته الافتتاحية تطبيقا للأمر الرئاسي عدد 196 لسنة …