المنصف المرزوقي يكتب للجزيرة نت: حقوق الإنسان بين موقع النضال وموقع المسؤولية

إنها وضعية غريبة تلك التي جعلت من الرئيس السابق للرابطة التونسية واللجنة العربية لحقوق الإنسان رئيس دولة.

كيف تبدو الإشكاليات لمناضل حقوقي يواجَه يوميا بمسؤولية الدفاع عن مبادئه في ظرف بالغ الدقة، يتّسم بتصاعد حدة الصراع العقائدي والسياسي والاجتماعي، ومن ثم بسهولة الانجراف إلى انتهاكات متعددة الأطراف والأساليب؟

المشاكل متعددة. منها مشاكل الساعة وأخرى متوسطة المدى، مثل هيكلة حركة حقوق الإنسان في وضع جديد. وبعض منها بعيد المدى مثل التربية على قيم لا تزال أغلب الأحيان شعارات نخب.

في المستوى القصير المدى، الهاجس الأول لرئيس دولة تتهددها فوضى الثورة المضادة وعنف الجماعات المسلحة هو الأمن. بالنسبة للمناضل كان كل ما يتعلق بالموضوع مصدر قلق وخوف وكره لأنه عاش الأمن كقضية تعني بالأساس أمن دولة باغية ورئيسا مزمنا وعصابات منظمة للنهب والسلب على أعلى مستوى. بالنسبة لرئيس دولة يتضح أنه ضرورة حيوية لاستقرار البلاد وللاستثمار والنشاط الاقتصادي.

وفي كل الحالات هو الشرط الأساسي لحق الحياة، وبالتالي يفرض عليه الأمن نفسه كأولى أولويات الحقوق. هذا التحول في الرؤية لا يمنع الانتباه لكوننا نرى الشجرة ولا نرى الغابة.

لقد فاجأتُ البعض لمّا قلت خلال أحد اجتماعات المجلس الوطني للأمن إن قضية البذور يجب أن تصبح من أولى أولويات المجلس.

فتعريفي للأمن هو حالة الطمأنينة التي تكون عليها كل امرأة تمشي ليلا، وحيدة، في أي مدينة أو قرية.

إنها أيضا حالة الطمأنينة التي يكون عليها الشعب وهو يعلم أن نظامه السياسي والاقتصادي والاجتماعي يوفّر له أقصى قدر من الاستقلالية، بخصوص الماء والطاقة والبذور والأدوية الأساسية، الشيء الذي يضمن له مواجهة كل الأزمات الداخلية والخارجية، والمحافظة على تماسكه. 

بديهي كذلك أن جزءا من هذه الطمأنينة النفسية مبني أيضا على يقينه بأن له على الحدود جيشا منضبطا يحميه، وشرطة تفرض القانون دون تعسُّف أو فضاضة.

بوصفي رئيسا للدولة، يمكنني التأكيد على أن قوات الأمن والجيش قدّمت خلال الأشهر الأخيرة في تونس من الشهداء والجرحى -ناهيك عن كل التضحيات التي لا نراها ولا نسمع بها- ما يكفي لكي تستحق امتنان الدولة والشعب.

لكن هذا لا يمنع من التأكيد على أن شرطة فَضة قاسية تخرج عن القانون والأخلاق ليست عنصرا لاستتباب الأمن، وإنما هي خطر عليه، بما أننا عرّفناه أساسا بأنه حالة نفسية من الطمأنينة داخل المجتمع. 

لذلك دعوتُ ولا أزال أدعو رجال ونساء أمننا إلى أن يكونوا من عوامل بث الطمأنينة في المجتمع، عبر التصرف بكياسة مع المواطنين، والحزم دون عنف مع الخارجين عن القانون -سواء كانوا إرهابيين أو متورطين في قضايا الحق العام- لأنهم سيساهمون بهذا في بناء مفهوم أعمق للأمن.

لم أغيّر موقفي بخصوص أن الغاية لا تبرّر الوسيلة، وأن الأهداف النبيلة لا تحقق بوسائل خسيسة، وأن كل خرق لحقوق الإنسان غير مقبول خاصة في دولة ديمقراطية، وأنه يجب التصدي له بصفة حاسمة لأن التغاضي عن مرض في بدايته هو تركه يستفحل.

بعض بقايا النظام السابق تصوروا أن هنالك وجه شبه بين قمع الإسلاميين في بداية التسعينيات والتصدي للسلفيين المسلحين هذه السنة.

يُخطئ من يقوم بهذه المقارنة، فقمع الإسلاميين كان خارج القانون، وكان ينَفذه نظام دكتاتوري جعل التعذيب ممارسة عادية للدفاع عن الفساد ونهب خيرات البلاد. لكن ما نعيشه اليوم هو تصدي حكومة شرعية، تحترم الحقوق والحريات، لمجموعات مسلحة ترفض الانخراط في الانتقال السلمي الديمقراطي، والدولة عاقدة العزم على محاربة تلك المجموعات في إطار القيَم والقانون التي أوصلت ذوي الأمر للسلطة.

لقد طلبتُ من السيد وزير الداخلية تعقب كل مخالفة، وتتبعها إلى آخر المطاف، وطلبت من السيد رئيس الهيئة العليا تكثيف الزيارات الفجائية للسجون ومراكز الإيقاف.

وطلبت من كل منظمات حقوق الإنسان في تونس أن تكون العين الساهرة التي لا تنام، لتعلم الأقلية الفاسدة داخل الأغلبية الصالحة أننا لن نتركها ترتكب موبقات توسّخ السلك الذي تنتمي له وتوسّخنا جميعا.

للأسف ما تثبته التجربة هو أن السلوكيات القديمة لا تختفي فجأة لمجرّد تغيير في القوانين والمؤسسات، أو حتى وجود مناضلين ذاقوا الأمرين من التعسف في أعلى مناصب الدولة كصديقي رئيس الحكومة الأخ علي العريّض.

فهذه السلوكيات قديمة متغلغلة في ثقافتنا وعاداتنا وتصوراتنا لعلاقة الحاكم بالمحكوم، إنها مثل الأعشاب الضارّة، حيث لا تلبث تنبت بعد اجتثاثها، وحيث لا مناص من الاستمرار في اقتلاعها كلّما برزت، وهذا بالضبط ما ستفعله دولتنا الديمقراطية الفتية دونما كلل، إلى أن تصل التجاوزات إلى الحد الأدنى المقبول داخل مجتمع متحضِّر ودولة ديمقراطية.

القضية الملحة الثانية التي يواجهها رئيس هو أيضا سجين سابق، وضع السجون. لقد قُلت دوما إن درجة التحضّر لمجتمع تقاس بكيفية معاملته لمن طحنهم الدهر، أكانوا من أصحاب الاحتياجات الخاصة أو ممن تلقفتهم الجريمة فدخلوا السجون.

بديهي أنه من غير الممكن في هذا الوضع الاقتصادي الصعب، اعتبار تحسين هذه السجون ووضعية المشرفين عليها أولوية. لكن يجب ألا يغيب عنا ضرورة مثل هذه التضحية عاجلا أو آجلا إذا أردنا ألا توجد على هامش المجتمع بؤر همجية، تكون وصمة عار في جبيننا كمجتمع يريد أن يكون إنسانيا.

إن من وسائل “أنسنة” سجوننا تخفيف الاكتظاظ. وسأواصل سياسة العفو حسب الشروط التي تحددها اللجان المختصة، وذلك رغم كل الانتقادات المغرضة والأكاذيب المفضوحة بخصوص نسبة العائدين إلى الجريمة من بين المتمتعين بالعفو.

يبقى أن أهم عامل لتخفيف الاكتظاظ مراجعة جذرية لمجلة العقوبات، حتى نكفّ عن معاقبة أبسط المخالفات بالسجن، وحتى نوجد طرقا أخرى تجعل المجرم أو المذنب يدفع للمجتمع ضريبة انحرافه، كالأعمال ذات المنفعة العامة أو الغرامات المالية.

القضية الاستعجالية الثالثة، التي تشغل بالي وبال كل التونسيين، هي طريقة البعض في ممارسة حرية الرأي والتعبير.

كم كنا سذّجا عندما ناضلنا من أجل هذه الحرية ونحن نعتقد أنها ستؤدي آليا إلى رفع مستوى الوعي الجماعي، وأنها ستكون العنصر الأساسي في خلق إعلام راق ومسؤول يساهم في بناء عقل جماعي سليم. ما أثبتته التجربة طيلة السنتين الأخيرتين، وما تثبته الأحداث كل يوم، أن جزءا من الإعلام هو اليوم بيد الثورة المضادة، وأنه يشكل عنصر تهديد للوحدة الوطنية وللسلم المدني، ناهيك عن كونه تعديا صارخا على القيم التي ندافع عنها من موضوعية ونزاهة واحترام للحقيقة.

لقد تربينا كلنا -نحن معاشر من دافعوا دوما عن حرية الرأي والتعبير ولا نزال- على مقولة “الخبر مقدّس والتعليق حرّ”. إننا اليوم أمام جزء من الإعلام شعاره “الخبر حرّ والتعليق مقدّس”. 

المضحك المبكي أنك عندما تواجه هذا الإعلام ينطلق أصحابه في الصراخ بأن حرية الرأي أصبحت مهددة في تونس، والحال أنه لا يوجد اليوم بلد على سطح الأرض فيه مثل هذه الانتهاكات الصارخة لأبسط قواعد المهنية والأخلاق. 

إنها لوضعية شاذة غير مسبوقة. فما يهدد حرية الرأي والتعبير ليس الدولة، وإنما مجموعات تغرس أسنان مناشيرها -بوعي أو بغير وعي- في الغصن الذي تجلس ونجلس جميعا عليه لتقطعه، ألا وهو اللحمة الوطنية والسلم المدني.

إنني على قناعة مطلقة بأنه يستحيل الذهاب بمثل هذا الإعلام للانتخابات الحرة والنزيهة التي يجب أن ننظمها قبل دخول الصيف، وأن أحد أهم شروط نجاح تلك الانتخابات إعلام آخر، همي أن يكون مهنيا محايدا وموضوعيا.

تلك هي مهمة الإعلاميين المهنيين والهيئة المستقلة للإعلام السمعي البصري. فعليهم تحمل مسؤولياتهم بكل شجاعة لفرض حق التونسيين في خدمات إعلامية جيدة، علما بأن واجب الدولة أكثر من أي وقت مضى ألا تسقط في فخّ المنع والقمع، فأكبر التجاوزات بِاسم حرية الصحافة أحسن ألف مرة من سياسة رمْي الصالح مع الطالح والسمين مع الغث، ولا بدّ من الصبر على فترة انتقالية طويلة ستؤدي عاجلا أو آجلا إلى نوع من التوازن.

بجانب قضايا الساعة هناك إشكالية إستراتيجية تهمّ دور حركة حقوق الإنسان في وضع سياسي واجتماعي جدّ مختلف عن ذلك الذي نشأت فيه. 

لقد زعزعت الثورة كل المنظومة القديمة التي كانت ترتكز على وجود دولة فاسدة تقمع الحريات، وفي مواجهتها منظمات مجتمع مدني تقاومها وتناضل في نفس الوقت من أجل البقاء.

لقد تغيرت الوضعية رأسا على عقب، فمصدر الانتهاكات لم يعد الدولة -أو قُل الدولة وحدها- كما رأينا بخصوص الإعلام. وهذه الدولة تريد فعلا شراكة حقيقية مع منظمات المجتمع المدني، لكن هذه الأخيرة في وضع لا تحسد عليه.

ثمة منظمات لم تجدّد منخرطيها منذ عشرين سنة، ثمة منظمات اندثرت أو على وشك الاندثار باختفاء سبب وجودها مثل جمعيات الدفاع عن المساجين السياسيين، ثمة قضية التمويل التي لم تحلّ إلى الآن الذي يجب أن يكون محليا وشرعيا وشفافا لتنتهي التبعية وكل إمكانيات التفويض. 

لهذا لا بدّ من حوار يجمع بين كل الأطراف تقدم فيه اقتراحات حول الأولويات والدعم المادي والإصلاحات القانونية وتنظيم الشبكة الوطنية وطرق التواصل -على الصعيد المركزي والجهوي- بين الدولة والمجتمع المدني.

بمثل هذه الخطة نستطيع تجميع طاقات مبعثرة والعمل الفعّال كل في ميدانه وفي إطار التعاون والاستقلالية.

ثمة خاصة قضية الأولويات والتخطيط والعمل الطويل المدى، كي نحمي وننمي ونجذّر حقوق الإنسان في وطننا. خذ مثال حقوق المرأة.

في الستينيات والسبعينيات فرضت الدولة المتطورة على المجتمع المحافظ مجلة الأحوال الشخصية التي تعاملت مع المرأة كجنس. وفي الثمانينيات والتسعينيات فرض المجتمع المتطور على الدولة المحافظة حقوق المرأة كمواطنة بحاجة مثل الرجل للديمقراطية وحقوق الإنسان. 

نحن اليوم في مرحلة لا يجادل فيها أحد في حقوق المرأة كأنثى وكمواطنة، لكن مجال انتهاك حقوقها ما زال واسعا حيث هي الأكثر عرضة للأمية والفقر والمرض.

لا بدّ إذن من تجدّد الخطاب الحقوقي والخروج به من قضايا ثانوية مثل الحجاب والنقاب إلى التركيز على حق ملايين النساء في الخروج من الخصاصة وهي أول مانع للكرامة.

أي دور لشبكة حقوق الإنسان في مثل هذه العملية؟ يمكنها أن تشارك في البحوث -مثلا- في وضع خادمات المنازل والعنف ضد النساء والتساوي في الأجر وغير ذلك، وأن تكون المهماز المزعج في خصر الدولة والقطاع الخاص.

يمكنها حتى أن تشارك في حملات التوعية الصحية ومحاربة الأمية، إذ يجب الخروج في دولة تطمح لبناء الديمقراطية أي مشاركة أكبر عدد ممكن من المواطنين في الشأن العام، بمفهوم النضال من الاحتجاج والطلب والإدانة إلى مفهوم الاضطلاع بجزء من المسؤولية والفعل بدل ردّ الفعل.

هذا ما يقودني لإشكالية بعيدة المدى هي كيف نواجه انتشار عقلية وممارسات كأنّ شعارها “الحق حقي والواجب واجبك”، وهي قراءة لفكر حقوق الإنسان قد تقتل هذا الفكر وهو في بداياته الأولى. 

حتى لا أتّهَم أن المسؤولية غيّرتني حدّ أن أضع مفهوم الواجب في الصدارة محلّ مفهوم الحق كما تفعل الدكتاتورية، أحيل إلى كتابي “الإنسان الحرام.. قراءة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان” المنشور قبل الثورة.

في هذه القراءة بينت أن الإعلان بمواده الثلاثين هو أدقّ وصف للوضع الحقيقي الذي عليه أغلب البشر، وهم لا يتمتعون لا بالحرية ولا بالكرامة وغيرهما، أنه قائمة الحاجيات الأساسية التي لا بدّ منها لكي يكون الإنسان إنسانا.. أنه قائمة الأهداف الكبرى التي يجب أن نعمل على تحقيقها.. أنه خاصة قائمة الواجبات.. باختصارٍ أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان هو في الواقع الإعلان العالمي لواجبات الإنسان.

فمن البديهي أنني لن أتمكن من ممارسة حقي في الرأي إلا إذا لم يعترض عليه الآخر، أي أن حقي في الرأي يتطلب من الآخر واجب احترام ذلك الرأي وحقي في التعبير عنه.

من البديهي أن حقي في الصحة غير ممكن إن لم تتمكّن الدولة والأطباء والشركات الصيدلية وكل الفاعلين في الميدان، من القيام بواجبهم في تمتيعي بذلك الحق. ليس من الصعب إثبات أن كل حق هو واجب في المرآة، أن الحق والواجب وجهان لنفس القطعة النقدية.

هذه البديهية هي التي يجب أن تكون حاضرة في ثقافتنا لحقوق الإنسان، وهي التي يجب أن نشيعها داخل المجتمع والثقافة، وإلا فإن الفهم الناقص والمغلوط لن يزيد إلا في نزوع موجود بقوة في ثقافتنا للمطلبية والاتكالية والسلبية، وهذه مواقف وتصرفات مدمرة لا تبني شعبا مكافحا أبيا مضحيا وخلاقا كالذي نريد أن نفاخر به ويفاخر بنا.

ثمة إذن، بالإضافة للإشكاليات الملحة بخصوص قضايا الأمن والسجون والإعلام وإعادة هيكلة حركة حقوق الإنسان التونسية، قضية أعمق وأخطر، هي زرع فكر وقيم تساهم -إلى جانب قيَمنا العربية الإسلامية- في خلق مجتمع متكافل وناضج ومسؤول.

لقد تبنيت قناعة لم تزِدها تجربة السلطة إلا تجذرا، ألا وهي أن على المرء أن يغيِّر أفكاره كما يغير ثيابه الداخلية، لأن كل الأفكار تبلى وتتسخ. لكن عليه أن يحافظ على قيَمه حفاظه على جلده، إذ هي النبراس الذي نهتدي به. 

ولا خوف من الإضرار بالنفس ولا بالغير ما لم نُضحِّ بها باسم واقعية ليست إلا الاسم الآخر للتنكر لهذه القيم.

المصدر:الجزيرة

تعليقات

عن taieb

شاهد أيضاً

يوسف العتيبة: الرجل الأكثر سحرًا في واشنطن

كتب رايان غريم وأكبر شهيد أحمد: في سبتمبر الماضي وإبان اقتحام المتشددين من الدولة الإسلامية …