رباط المنستير.. حصن دفاع ومزار عبادة وبوابة علم

ماهر جعيدان

رباط المنستير هو أحد ثغور الحراسة واحتباس النفس في الدين والعلم والجهاد زمن الإمارات الإسلامية، إطلالته على المتوسط جعله في صدارة المواقع الدفاعية بل منشأة عسكرية ودينية تحمي ظهور المسلمين من غارات العدو ودفع الأذى عن الأمة. كان يشرف على الرباط باعتبار منشأة دينية إسلامية أمناء، وتُحبس له الأوقاف فيما اتخذه العسكر ثكنة للتدريب وكان يؤمه العلماء أيضًا للتزهد والعبادة.

كانت مدينة المنستير محاطة بالأسوار، ولها ثلاثة أبواب تعلوها أبراج: الباب الأول قبلي وهو “باب بريقشة”، والثاني جوفي وهو “باب الخوخة”، أما الباب الثالث غربي. وعُرفت المدينة بعدة أبراج أهمها برج القصبة، وسيدي عامر، وسيدي منصور وبرج القلب فيما كانت تعتلي تلك الأبراج مدافع، أما باب المدينة فيُعرف بـ”باب الدرب”.

رباط المنستير كان مزار المرابطين والعلماء من كافة المدن المجاورة، ويذكر أبو عبيد الله البكري في “المسالك والممالك” أن “خارج مدينة سوسة العديد من الربط ومجامع الصالحين أجلّها رباط المنستير الذي بناه هرثمة بن أعين سنة 180 هجرية /794 ميلادية وأن به العديد من البيوت والحجر والطواحين ومواجل الماء وهو حصن عالي البناء”. كما تحدث البكري قائلاّ: “أهل القيروان يخرجون إليهم بالأموال والصدقات الجزلة” وتحدث أيضًا عن مرابطة النساء وتخصيص أماكن لهن.

رباط هرثمة هو نموذج لدور إقامة المرابطين في عهد الرشيد، وهو يقف اليوم شاهدًا على عظمة الحضارة الإسلامية في السواحل الشرقية لإفريقية، ينتصب شامخًا بأسواره العالية ومنارته على مشارف البحر الأبيض المتوسط.

ورغم ما طال الأسوار من هدم وانقطاع على التواصل مع الرباط في حقبات مختلفة من العهود الحديثة، ظلت أسوار هرثمة شامخة بإطلالتها على المدينة العتيقة تعانقها عن بعد.

مكوّنات أقدم معلم عسكري في إفريقيّة

لما تطلعنا إلى زيارة هذا المعلم وأردنا اكتشافه مجددًا، بدت فخامته عنوانًا لعظمته وقد بان لنا عن بعد بأسواره العالية يشرف مباشرة على شاطئ “القراعية” على مساحة تتخذ شكل المربع، وتقوم في زوايا السور أبراج دائرية إلا برج الزاوية الشرقية فهو مربع الشكل يرتفع نحو مستوى سطح القصر لترتكز عليه منارة الرباط.

وحسب الدراسات العمرانية الحديثة، لم يبق حاليًا من رباط هرثمة إلا جناحه الجنوبي الذي يشتمل على مدخل الرباط الأصلي والسقيفة أو الدهليز وكذلك إحدى أبراجه المستديرة بالزاوية الجنوبية الغربية ومنارة القصر، كما يشتمل على مدخل وحيد بارز يوجد في المحور الجنوبي الغربي.

يذكر الباحث في الآثار جهاد الصويد لـ”الترا تونس” أن قصر الرباط بالمنستير هو أقدم معلم عسكري وقع تأسيسه بإفريقية بعد دخول العرب المسلمين، وقد قام بتشييده هرثمة بأمر من الخليفة العباسي هارون الرشيد في إطار مشروع متكامل لتحصين كامل سواحل الدولة العباسية الممتدة من سوريا وصولًا إلى طنجة بالمغرب الأقصى.

وأضاف الصويد أن الرباط كان في شكله الأول زمن التأسيس عبارة عن معلم دفاعي مربع الشكل به مدخل قبلي يفضي إلى صحن مكشوف وتتوزع على كل جهاته الأربع غرف تتوزع على طابقين، فيما يوجد في أركان الرباط أبراج ركنية دائرية الشكل ويأخذ برج الركن الجنوبي الشرقي شكل منارة تستعمل للمراقبة ولكن لم يبق من رباط هرثمة إلى الجزء القبلي أين المتحف الحالي، وفق تأكيده.

وبين الباحث في الآثار، في حديثه معنا، أن المعلم قد عرف فيما بعد توسيعات متتالية خلال أكثر من فترة جعلت منه يبرز على هذه الشاكلة حيث يعدّ من أكبر المعالم الدفاعية بالبلاد على المستوى المعماري وأكثرها تركيبًا وارتفاعًا.

ولمدخل الرباط ساريتان من الرخام نقشت على واجهتها الخارجية الكتابة التأسيسية للرباط بخط كوفي غائر. وأثبتت الحفريات الأثرية وجود مجموعة من الغرف قائمة على جدران القصر الأربعة استعملت جل هذه الغرف لإقامة المرابطين ما عدا غرف الزاوية الجنوبية الشرقية التي كانت حسب تخطيطها تستعمل كمستودع للمؤن والأعلاف. فيما اُستعملت الغرف الواقعة بالزاوية الشمالية الغربية كميضات ومراحيض إذ عثر داخلها على مجاري فخارية لتصريف مجاري المياه خارج الرباط، كما يوجد بئر في صحن الرباط وهو يعد مصدرًا مائيًا لمتساكني الحصن.

وتفصل ساحة الرباط أربعة أروقة تتقدم مجموعة الغرف وتصعد إلى الدور العلوي عن طريق مصعد أصلي بقي قائمًا إلى اليوم، ولم يطرأ على الدور العلوي أي تغيير عميق منذ تاريخ بنائه. ويتكون هذا الدور من مسجد ذي محراب فوق مدخل الرباط وتحتوي بيت الصلات على سبع بلاطات أبرزها البلاطة المحورية وهي أوسع من مثيلاتها، وتغطي هذه البلاطات أقبية طويلة تتعامد على القبلة وترتكز على دعائم مستطيلة تقسم القاعة طوليًا إلى قسمين.

أما محراب المسجد، فهو مجوّف وكانت كل بلاطة في الجدار القبلي تنتهي بفتحة تستعمل لرمي السهام، كما يوجد في السطح فوق محراب المسجد محراب ثان خارجي. أما منارة الرباط، فهي على شكل دائري يبلغ قطرها عند القاعدة 6.37 مترًا وتنهي عند الشرفات نصف دائرية بقطر يبلغ 4.56 مترًا.

لم يكن إذن رباط المنستير حصنًا عسكريًا فحسب، وإنما مدرسة علمية ومعلما دينيًا وشاهدًا على ثغور الحضارة الإسلامية في إفريقية. ويذكر من بين العلماء الذين ارتادوه أسد بن الفرات فاتح صقلية، وسعدون الخولاني شيخ الرباط، و الامام سحنون مؤسس القانون الإسلامي للدولة الإفريقية، والقاضي عيسى بن مسكين، والفقيه دفين سوسة يحي بن عمر، والإمام ابن يونس الفقيه المالكي، والولي الصالح أبو الفضل الغدامسي، والطبيب أحمد بن الجزار ، والقاضي الأمير ابراهيم الثاني، وذلك وفق ما أورده قدماء المؤرخين.

ترميمات عبر مختلف الحقب التاريخية

خلال اطلاعنا على التغييرات المحدثة في الرباط من خلال الوثائق التاريخية، علمنا أن هذا المعلم شهد تغييرات هيكلية. فمنذ منتصف القرن الثالث للهجرة، لم يعد يفي الرباط قدرًا على استيعاب العدد المتزايد للمرابطين فأُضيف إليه جناح ثاني ومدخل من الناحية الجنوبية الشرقية وهو القسم المعروف حاليًا برباط النساء.

 إثر هذه الزيادة، وقع تعلية المنارة وأصبح الرباط يعد جزءًا من القصبة المبنية في القرن الخامس للهجرة، كما أضيف له مدخل جديد في الفترة الحفصية، وتؤرخ النقيشة المبنية بأعلى المدخل هذه الإضافة سنة 828 هجرية /1424 ميلادية، وهو المدخل الحالي للرباط.

ثم احتل الأسبان الرباط مدة 4 سنوات من 1550 إلى 1554 ميلادية فجرت تعديلات على الأبراج، واُستعمل الرباط كمدرسة ثم استعمله حمودة باشا المرادي كمعقل حربي.

ويذكر لنا الباحث في الآثار جهاد صويد، في هذا الإطار، أن أهم التغيرات التي عرفها قصر الرباط كانت خلال القرن 16 ميلادية مع سيطرة الأتراك العثمانيين على البلاد حيث عرف المعلم منذ تلك الفترة تهيئة لأبراج جديدة مخصصة للمدافع في أكثر من ركن وتشييد شرافات بها تسمح برؤية شاملة للخارج تساعد في إطلاق المدفعية بشكل دقيق، وذلك بالإضافة إلى زيادة في ارتفاع الجدران وتهيئة ممشى علوي للحراسة وشرافات لإطلاق النار من البنادق.

هكذا يبدو رباط المنستير صامدًا محافظًا على خصائصه العمرانية المتميزة رغم تعاقب الحضارات، ولعل أكبر ضرر لحق به تلك الرجّة الأرضية التي أصابت الجهة سنة 2013 والتي تسببت في تصدعات كبيرة وانهيار الحجارة مما استدعى تدخلًا عاجلًا من الجهات المختصة.

وقد بين الباحث في الآثار جهاد الصويد، خلال لقائنا به، أن الدولة تتولى حماية قصر الرباط والمحافظة عليه عن طريق المعهد الوطني للتراث وهو المؤسسة المخولة بالمحافظة على المعالم التاريخية وحمايتها وصيانتها مشيرًا أنه على غرار باقي المعالم تراجعت الميزانية المخصصة للرباط في السنوات الأخيرة بحكم الظروف المالية التي تعرفها البلاد. وأضاف الباحث أنه بالرغم من قلة الموارد، شهد الرباط في السنوات الأخيرة تدخلات هامة لترميمه أهمها التي عرفها الرباط بعد زلزال سنة 2013.

كما أردف قائلًا إنه لا يمكن الحديث عن أخطار طالما أن المعلم يعرف عمليات ترميم وتعهد لكن يمكن الحديث، حسب قوله، عن مشاكل أهمها الرطوبة في علاقة بموقع المعلم من البحر التي تؤثر بشكل كبير على سلامة المعلم وقد يصبح مشكلًا متفاقمًا في صورة عدم التعهد والصيانة الدائمة.

دعوة لتوظيف الرباط فنيًا وسياحيًا

إضافة إلى وظيفته التاريخية والسياحية، اضطلع رباط المنستير بمهام فنية في العصر الحديث وذلك باحتضانه لعروض فنية متنوعة.

التقى “الترا تونس”، في هذا السياق، بالباحث في الحضارة شهاب دغيم الذي حدثنا عن البعد الوظيفي للرباط مبينًا أن رباط هرثمة شاهد على التاريخ ومنفتح على الحضارة والتحديث، باعتبار احتضانه لمهرجانات صيفية شبابية.

واعتبر أن الرباط يمكن أن يصبح بوابة المنستير السياحية الأولى على اعتبار أنه معلم اختلطت فيه المعمارات الإسلامية والهندسية وبقي صامدًا وشاهدًا على أصالة المنستير وانفتاحها، متسائلًا “هل يمكن أن يكون بابًا للثقافة والترفيه؟”.

وأضاف دغيم في هذا الإطار: “كيف لمدينة تضم هذا الحصن الشامخ دون وجود رؤى لاستغلاله كواجهة سياحية عصرية حداثية؟ فماذا لو اُطلق مشروع “تاريخ وأضواء” في كل صائفة ليعود للرباط نوره وألقه التاريخي على غرار المشروع الذي جرّبته مدينة ليل الفرنسية وأصبح قبلة الزوار؟”.

وأشار أن هكذا مشروع ينير مثلًا الواجهة الأمامية في لوحات تستحضر دخول هرثمة ويستحضر تاريخ المدينة عبر مجموعة من اللوحات المضيئة، سيستقطب المزيد من السياح التونسيين والأجانب في مدينة سياحية بطبعها، وبالتالي ينفتح الرباط على الحاضر ويستحضر الماضي التليد شامخًا كما هو صامدًا في وجه البحر والزمن، على حد تعبيره.

الترا تونس

تعليقات

عن Houda Karmani