نتائج الانتخابات الأخيرة للدول العربية: وأد نهائي لمشروع الربيع العربي وعودة قوى الثورة المضادة أم إرادة الشعوب العربية..؟

هدى القرماني

أكثر من ثلاث سنوات مرت على انطلاقة ثورات ما سمي بـ “الربيع العربي”…ثورات أو انتفاضات أو حركات احتجاجية كما يشاء أن يسميها البعض كلها ابتدأت بمطالب اجتماعية من أجل الشغل والحرية والكرامة تحولت إلى مطالب سياسية نادت بالإطاحة بالأنظمة الدكتاتورية وتغيير السياسات لإرساء الديمقراطية والعدالة الاجتماعية بين مختلف المناطق من شمالها إلى جنوبها دفع خلالها الشعب دماء أبنائه الزكية.

شهدت أغلب بلدان الربيع العربي على اثر سقوط أنظمتها انتخابات علّقت عليها شعوبها آمالها في الوصول إلى تغيير وإصلاحات منتظرة على مختلف المستويات وإرساء المؤسسات الشرعية للدولة بانتخابات حرة ونزيهة محققة أصوات الشعب وإرادته.

لكن نتائج الانتخابات في بعض الدول والتي برز فيها بالخصوص صعود الإسلاميين ولئن أقنعت البعض فإنّ البعض الآخر رفضها ولم يعترف بها وسعى إلى إعادتها على غرار ما وقع في مصر.

تعددت الانتقادات حول نتائج الانتخابات الأخيرة والتي آلت في عدد من هذه الدول إلى الإبقاء على المنظومة القديمة رغم سقوط رموزها أو إلى العودة إليها..فمنهم من اعتبر هذه الانتخابات عودة لقوى الثورة المضادة ومنهم من رآها تحقيقا لإرادة الشعوب العربية وردة فعل على تجربة من الحكم وصفوها بـ “الفاشلةّ”.

هذه النتائج هل تمثل خيارا شعبيا وعودة إلى الأنظمة القديمة وفي ذلك استغناء عن مشروع ” الربيع العربي” ووأد للثورات العربية..؟ وهل مازال  بإمكاننا الحديث عن ” ثورات عربية”..؟ وأي تغيير جاءت به هذه النتائج على مستوى الأوطان والمنطقة ككل..؟

هل هناك احتمال لعودة الدكتاتورية من جديد..؟ وما هو تأثير نتائج هذه الانتخابات على المنطقة العربية من ناحية وعلى جماعة الإخوان المسلمين التي أزيحت من السلطة بعد صعودها إليها من ناحية ثانية..؟

لكل بلد عربي خصوصيته وتونس تبقى مميزة عن بقية البلدان

يقول المؤرخ والمختص في العلاقات الدولية فرج معتوق أن حالة البلدان العربية تظهر وكأنها عامة لكن كل بلد له خصوصيته ووضعيته الخاصة فبالنسبة إلى تونس كانت أول بلد خاض إثر ما شهدته من حراك انتخابات ديمقراطية نزيهة وشفافة جاءت بعدها حكومة ائتلافية “حكومة الترويكا” أداؤها كان غير مرض لشريحة هامة من الشعب التونسي وعلى إثر اغتيال كل من شكري بلعيد ومحمد البراهمي ووصول تونس إلى الهاوية تمكنت تونس من تجاوز المأزق والوصول إلى توافق وطني حول حكومة مستقلة كما نجحت في إتمام دستورها وهي الآن تستعد للاستحقاق الانتخابي.

ولتونس وفق المؤرخ مقاربة وخصوصية تميزها عن بقية البلدان تتمثل خاصة في قوة حضور مجتمعها المدني ومنظماتها النقابية لكن في ظل الرمال المتحركة والتخوف من تفاقم ظاهرة الإرهاب والتهريب التي تهددها يبقى التونسيون متخوفين لاسيما وأن المسار الديمقراطي في تونس لم يستكمل بعد.

أما بالنسبة للجزائريين فرأوا منذ بداية الربيع العربي أنهم أنجزوا هذا الاستحقاق بما يسمونه “ربيع الجزائر” ولئن أعجب بعض الجزائريين بعملية الحراك هذه وحاولوا النسج على منوالها فإن شريحة هامة منهم تخوفت منها نتيجة الضريبة الباهظة التي دفعوها في تسعينات القرن الماضي والتي أسيلت فيها دماء كثيرة. وهذا الخوف لازمهم وفق الأستاذ إلى غاية الاستحقاق الانتخابي بداية 2014 حين وجدوا أنفسهم بين إرادة وإمكانية التغيير وبين الخوف من العودة إلى دماء العشريتين الماضيتين ففضلوا عملية تأجيل الاستحقاقات الديمقراطية وصوتوا لعبد العزيز بوتفليقة رغم مرضه وهذا لا يجعلنا ننسى أن نسبة المشاركة في الانتخابات كانت ضعيفة حيث أن نصف الجزائريين لم يشاركوا في العملية الانتخابية.

وفيما يتعلق بليبيا فـ 42 سنة من حكم القذافي أبقت الشعب الليبي في مرحلة ما قبل الدولة وهذه المرحلة هي التي تحكمت بما بعد حكم القذافي وبالتالي فالليبيون ليس لديهم ذلك التقليد. كما أن ليبيا بلد شاسع جدا تسيطر عليه الظاهرة القبلية إلى جانب ضعف الدولة وضعف الوعي التاريخي لمرحلة الدولة وكل ذلك جعل لليبيا هذا الفراغ الهائل الّذي أصبح يشكّل خطرا على نفسها وعلى شعبها وعلى جيرانها وخاصة تونس التي لم تستكمل مرحلة البناء الديمقراطي وتعيش أوضاعا اقتصادية متردية ووضعا أمنيا صعبا كما يشير المؤرخ.

وبروز اللواء المتقاعد خليفة حفتر اليوم حسب الأستاذ معتوق هو نتيجة دعم الجيش المصري له والذي دعاه صراحة ليتدخل ليس على الحدود فقط وإنما في العمق الليبي كما أنه مدعوم خارجيا وأكل على كل الموائد البريطانية والأمريكية وحتى على موائد القذافي وعليه أكثر من نقطة استفهام حسب تعبير المؤرخ .

أما في مصر فرحلة الجيش مع السياسة رحلة لصيقة ووطيدة تواصلت حوالي 60 سنة من جمال عبد الناصر إلى أنور السادات إلى حسني مبارك واللحظة الوحيدة التي استلم فيها رئيس مدني غير عسكري السلطة كانت فترة الإخواني محمد مرسي الذي تسلم الرئاسة إثر الحراك الذي شهدته مصر وكان ذلك أول صعود للإخوان المسلمين للحكم لكن الأداء كان دون المأمول بالنسبة لشريحة هامة من المصريين الذين خرجوا في مسيرة ضخمة موفى جوان 2013 وكان الرفض للإخوان مدويا حسب المؤرخ ما سهل العملية الانقلابية التي قام بها وزير الدفاع آنذاك عبد الفتاح السيسي والتي وطدها في النهاية بانتخابات مريحة ، مع أنها كانت انتخابات مهزلة كما وصفها المؤرخ، جعلته يكون الرئيس المنتخب لمصر. وهذا لا ينفي أن الإخوان المسلمين لا يزالوا يحتفظون بجزء لا بأس به من الرأي العام المساند لهم.

وفيما يتعلق بسوريا ففوز بشار الأسد، الذي تولى الحكم بعد تغيير الدستور السوري إثر وفاة والده حافظ الأسد، يعود إلى عدة أسباب. فالأمر الّذي غيّر المعادلة في سوريا كما يؤكد المؤرخ هو إصرار روسيا الطامح للوصول إلى المياه الدافئة وتعويض خسارتها للعراق كدولة حليفة وخسارة  ليبيا في 2011 كموقع وزبون هام، وبدرجة أقل دعم الصين وهما دولتان عضوان دائمان بالأمم المتحدة يتمتعان بحق الفيتو وقفا مع سوريا حتى النهاية عبر تسليح النظام السوري، ثم لا ننسى وقوف إيران أذكى لاعب في المنطقة والتي امتلكت كل أساليب المناورة وذراعها المسلح والمدرب القادر على القتال وعلى توجيه ضربات موجعة لإسرائيل، ألا وهو حزب الله، وهو الذي حسم معركة البقاء للنظام السوري. كما أن الأحداث الدموية ومظاهر التخلف والجهل والقتل والتنكيل التي قامت بها المعارضة السورية والمدعومة من قبل كل من قطر والسعودية كما يذكر الأستاذ واللتين تنافستا على عمليات التجييش والتسليح عادت وألقت بالذين كانوا مترددين من الشعب السوري والغير راضين على حكم بشار في أحضان الحكومة والنظام السوري. هذا فضلا عن أن إسرائيل قد حسمت أمرها وفضلت بقاء الأسد على أن تتسلم هذه الجماعات المتطرفة، والتي ليست لها ثقافة الدولة ولا تؤمن بها، السلطة في سوريا وتدخل بذلك في فترة طويلة من عدم الاستقرار.

وردا على مسألة التأثير الأجنبي على مختلف هذه الانتخابات التي شهدتها الدول العربية مؤخرا يرى الأستاذ أن هذا التأثير كان بشكل غير مباشر، فالانتخابات السورية مثلا لعبت فيها إلى جانب إرادة النظام ومناصريه إرادة إقليمية متمثلة في إيران التي ترى في إبقاء النظام السوري انتصارا لها وللهلال الشيعي الذي كانوا يتحدثون عنه منذ بضع سنوات، أما في مصر فالانتخابات جزئيا كانت إرادة الشعب ثم هي إرادة السيسي وإرادة الجيش حسب تعبير الأستاذ فرج معتوق.

السيسي يخشى الإسلاميين في مصر وإسلاميو تونس خارج السرب

تنحية الإخوان المسلمين من السلطة ونتائج الانتخابات الأخيرة التي أبقت الإخوان خارج الحكم جعل البعض وبالخصوص المنتمين إلى التيار الإسلامي ينتقدون عملية إقصائهم ويعتقد البعض أيضا أن هذه النتائج سيكون لها تأثير على المنطقة العربية من ناحية وعلى حركة الإخوان المسلمين من ناحية ثانية.

ووفقا للمؤرخ فرج معتوق فإنه لا يمكن للإسلاميين أن يضمحلوا لكن يقول أنه قد يقع إقصاؤهم وإبعادهم من المشهد السياسي إلى مدة معينة وهذه في اعتقاده رغبة عبد الفتاح السيسي والفريق الذي يريد تشكيله في مصر معللا موقف السيسي هذا بأنه في حالة دفاع وخشية من الإسلاميين، لكن لا يستبعد الأستاذ أن يفتح السيسي فيما بعد وإذا ما استقرت الأمور قناة مع الإسلاميين.

أما بالنسبة للإسلاميين في تونس التي وصفها بأنها خارج السرب فيرى الأستاذ أنهم منفتحون أكثر نحو الغرب وبالتالي فهم لا يعيشون نفس ظروف الإسلاميين في مصر.

ويعتبر المؤرخ عموما أن عملية الإقصاء غير صحية في المجتمع ككل و انه خطأ كبير ان يتم إقصاء جزء كبير من المجتمع وأننا إذا لم نحترم الخارطة الحقيقية التي هي ليست ما تنتجها الانتخابات في لحظة معينة وفي دفع معين فستكون النتائج سلبية وستكون هنالك ردة فعل انتقامية.

وشدد الأستاذ على أن المسار الديمقراطي لن ينجح إلا إذا فهم المجتمع بكافة أطيافه السياسية سواء التي في السلطة أو في المعارضة أنه لا مجال للإقصاء وأن هذا أكبر ما يجب أن نستخلصه من هذه المرحلة التي سميناها بالربيع العربي ذلك أن زين العابدين بن علي وكذلك حسني مبارك قد أقصا قبلا تيارا بعينه لكنه عاد بعد ذلك وانتصر.

وفيما يتعلق بعلاقة الغرب بالإسلاميين فيقول المؤرخ أن الغرب عملي براغماتي يقوم بتجربة كل الأشياء ودائما ما يضع أكثر من عصا في النار وأنه قد عوّل على الإسلاميين في البدء ومستعد أن يعوّل عليهم مرة ثانية إذا تراءى له أنهم رقم صعب وأنه لا يمكن تجاوزهم  ويؤكد الأستاذ أن الأمريكيين لم يتخلوا بصفة نهائية عن الإسلاميين في مصر وإنما هم يتعاملون الآن معهم بحذر لأنّ الدولة المصرية دولة الـ 90 مليون نسمة دولة محورية مؤثرة جدا ولا يعلمون الغلبة لمن ستؤول ولا يريدون أن يستعدوا أو يزعجوا النظام المصري فالغرب لا يؤمن إلا بمصلحة شعوبهم والمصالح الإستراتيجية لبلدانهم وهم يرون في هذه المنطقة الغنية والتي تحوي ثلثي احتياطي العالم من الطاقة سوقا استهلاكية ليس لها بديلا لذلك لا بد من أن يبقي السيطرة عليها والتحكم بها.

ابتعدنا كثيرا عن لحظة الثورات العربية ولكن لا مجال لعودة الدكتاتورية

يقول الأستاذ فرج معتوق أن الذين يعتقدون أنه كانت هناك فرصة للربيع العربي ولنقل المنطقة إلى منطق جديد منطق الديمقراطية والتداول السلمي على السلطة ومنطق شرعية الصناديق قد عادوا بالصناديق بطريقة بعيدة عن الظروف الموضوعية للشفافية والظروف الديمقراطية الحقيقية للانتخابات وبالتالي يوجد حسب المؤرخ خطر يتمثل في عودة الثورة المضادة التي أصبحت أقوى من الثورة في حد ذاتها كما يقول الأستاذ.

ويتساءل المؤرخ إن كانت عودة الوجوه القديمة إلى الواجهة هي من منطق التاريخ أو بحكم التوازن الذي تفرضه طبيعة الأشياء والميزان الذي يرجح ذات اليمين وذات الشمال أم هي كما يرى البعض الذين يؤمنون بنظرية المؤامرة أنها إدخال المنطقة في الفوضى الخلاقة مستدركا أنه أميل إلى أن تلك هي طبيعة الأشياء من أن تكون مؤامرة على مجتمعاتنا العربية.

ويواصل الأستاذ أننا ابتعدنا اليوم كثيرا عن لحظة الثورات العربية أو ما يسمى بـ “الربيع العربي” الذي انطلق من تونس لكن يقول أنّ الأمور لن تعود إلى ما قبل 14 جانفي 2011 ولن يقبل العرب الذين أصبحوا أكثر وعيا وكرهوا بشكل نهائي تلك الأنظمة المتوارثة والمتواردة عن بعضها البعض مؤكدا أن الميزان سيعود إلى الوسط ولن يتجه عكس ما هو عليه الآن أي إلى سابق عهده والعودة إلى الدكتاتورية والتوريث.

ويعتبر الأستاذ أن الثورة كما فهمها البعض ربما سوف لن تكون ممكنة وأن الشعوب العربية كانت غير واقعية وأحلامها كانت أكبر من الواقع والحال أنها لازالت بعيدة عن مرحلة الديمقراطية كما حلمت بها. ويرى الأستاذ أن تونس أقرب إلى تحقيق ذلك ومسموح لها بأن تؤمّل أكثر من غيرها لأنها بلد صغير غير نفطي بعيد عن الأطماع وعن بؤرة الأزمات في الشرق الأوسط والكيان الإسرائيلي وأغلبية المجتمع فيه من المتعلمين.

إنّ نتائج الانتخابات عموما لئن أرضت شريحة فإنها لم ترض شريحة أخرى اعتبرتها انقلابا على إرادة الشعب الذي ثار مناديا بتغيير الأنظمة ووفق المؤرخ فرج معتوق فقد اتضح الأمر الآن جليا أنه تم وأد ذلك التيار الذي سميناه تيار الثورة أو الربيع العربي وتلك الرغبة في التغيير وبشكل جذري لإرساء ثقافة التداول السلمي على السلطة واحترام شرعية الصناديق التي تم الالتفاف عليها والتراجع عنها حسب رأيه وبالتالي ما تغير في نظر أستاذ التاريخ المعاصر هو أن ما نسميه بالثورة المضادة أو انكفاء مد الربيع العربي قد تأكد خاصة بانتخابات مصر وانتخابات سوريا بالأساس.

وتبقى تونس التي عاشت أولى تجارب الربيع العربي والتي تستعد لاستحقاقاتها الانتخابية القادمة في الفترة القليلة المقبلة أمام امتحان صعب قد تؤكد أو تفند نتائج انتخاباتها عودة قوى الثورة المضادة.

فهل ستنجح تونس في هذا الامتحان وتعطي بذلك المثل للدول العربية التي تعيش انتقالا ديمقراطيا..؟

تعليقات

عن Houda Karmani

شاهد أيضاً

المرسوم عدد 55 لسنة 2022: تخوفات من خسارة المرأة التونسية لمكتسباتها

فادية ضيف كان اختيار تونس عاصمة “المرأة العربية ” لسنتي 2018 و 2019 و عاصمة …