تربية اللصوص في تونس

نزار بولحية

خبر ذاب واختفى بسرعة البرق في زحمة الأخبار.. أكبر شركات البترول الاجنبية المقيمة في تونس وأقدمها عمرا ونشاطا تحزم الامتعة، وتعلن بشكل رسمي ونهائي مغادرتها الوشيكة لأرض الديمقراطية العربية الوحيدة، مثلما صارت توصف في معظم وسائل الإعلام العالمية.


اما الأسباب فيلخصها المسؤولون في كثرة الاعتصامات والإضرابات والمطالب العمالية التي لا تتوقف. السلطات من جانبها رأت أن الخطوة كانت منتظرة وغير مفاجئة بالمرة، بل انها توقعت حدوثها منذ سنوات، وهي لأجل ذلك اكتفت بتصريح رسمي بارد وجاف، على لسان وزير الصناعة والطاقة، أكد من خلاله لوكالة الأنباء الرسمية أن «خروج الشركة الايطالية لن يؤثر على انتاج النفط في البلاد، وان هناك مفاوضات تجري حاليا مع عدد من الشركات، لبيع حصة شركة «إيني» في الحقول النفطية التونسية لصالح مؤسسة لديها القدرة الفنية والمالية لمواصلة نشاط استكشاف وانتاج البترول والغاز». لكن المستكشفين الجدد الذين سيصلون حتما بعد التوصل إلى اتفاق جديد مع الحكومة، سوف لن يجدوا بدورهم طريقا معبدة ومفروشة بالورود، وليس من الواضح ايضا ان شهية النقابات المفتوحة للمزيد من الطلبات سوف تسد قريبا. يبقى كيف غادرت شركة البترول وكيف أتت أو سوف تأتي غيرها في مقبل الأيام، فيما يشبه عملية استبدال روتيني لثوب بآخر، من دون أن تقدم الاولى كشف حساب عن سنوات طويلة من استغلال الثروة ونهبها، تحت غطاء الاستكشاف والاستغلال، ومن دون أن تعرف طموحات الثانية التي اختارت التقدم لخلافتها، وهل أن كل المدخرات النفطية نضبت ولم يعد هناك ما يغري الشركات العالمية بالبقاء، أم أن هناك إعادة انتشار جديدة لمناطق النفوذ فرضها واقع متحرك وتحالفات اقليمية بصدد التشكل من جديد؟ تلك واحدة من الغاز كثيرة لم تفك رموزها الصعبة والمعقدة بعد، مثل لغز العوائد المجهولة لانخفاض سعر برميل النفط على الاقتصاد المحلي، الذي دفع محافظ البنك المركزي لأن يقول، في ندوة عقدت أواخر فبراير الماضي، بأن «اثر انخفاض اسعار البترول في الاسواق العالمية على الاقتصاد التونسي غير واضح، وفق الاحصائيات التي تم جمعها، فالميزان التجاري لم يتحسن بعد، ونحن نتساءل عن سبب ذلك». ليس البلد بالطبع من كبار المنتجين للذهب الأسود، لكنه ليس أيضا من صغار المستوردين، وتلك مفارقة صعبة الفهم بمنطق جغرافي يضع تونس بين جارين كبيرين يسبحان على بحور من البترول ومن الثروات والمعادن الثمينة. اما الشريان الباقي الذي عرفه التونسيون ككنز وطني نادر فهو الفوسفات (الفسفاط)، الذي توقفت عجلة انتاجه عن الدوران بعد هروب بن علي، وصار مثل جبل الشعانبي اسطورة تنسج حولها الروايات، ولا أحد باستطاعته كشف ابطالها الحقيقيين ولا تحديد من يحركهم أو يوجههم من وراء الستار. ولعل أكثر ما تندر به التونسيون حتى زمن قريب هو ما نسب يوما للزعيم الليبي الراحل القذافي من أنه قال عن بلدهم بأنه اغنى بلدان العالم على الاطلاق لانه لم يفلس بعد رغم الحجم الهائل للسرقات التي طالته. لقد وجد اللصوص الكبار دعما وحماية من نظام اخطبوطي مد أذرعه على مفاصل الدولة، بعد ان قتل الضمائر وأعمى بصائر الناس ودفعهم للبحث بكل السبل والوسائل عن الكسب السهل والسريع، بغض النظر عن أي شرعية او أخلاق. وسقط الجميع لسوء الحظ في فخ خداع بصري نصبته بإحكام آلة إعلامية شديدة المكر والدهاء، حاولت ان تختزل كل النظام في رؤوس الصف الأول دون سواها، وقدمتها باستمرار على أنها المسؤولة الوحيدة والمورطة الأولى والاخيرة في خراب البلد. تلك الرؤوس خرجت من جحورها ومخابئها بعد هدوء عاصفة 2011، لتقدم شهادات البراءة من ذنوب ألقت اوزارها على مجهولين تآمروا على نجاحات النظام ومآثره العظيمة. ولم يكن غريبا أن تكتب صحيفة اسبوعية محلية في عددها الصادر في الثامن من الشهر الجاري وبمناسبة مرور خمسة عشر عاما على وفاة بورقيبة «أن البلاد عرفت أسوأ حالاتها في بداية ثمانينات القرن الماضي، وصار الوطن على شفا الهاوية، لكن ابن تونس البار زين العابدين بن علي تحمل مسؤوليته تجاه وطنه وبادر إلى انقاذ البلاد والعباد فجر السابع من نوفمبر 1987 في كنف الشرعية الدستورية والتاريخية والالتفاف الشعبي الكبير، محافظا بالتالي على مكاسب الاستقلال والنظام الجمهوري التي تحققت بفضل نضالات أجيال من المناضلين ورجالات تونس البررة، وفي مقدمتهم الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة». الابن البار اذن هو من أنقذ البلد ولم ينهبه أو يقتل شعبه مثلما خيل للجميع أو شبه لهم، وهو بذلك يستحق التكريم لا القصاص والعقاب، أما والده البار ايضا ومؤسس النظام فقد حان الأوان لرد الاعتبار له بتنفيذ الوعود الرسمية لإعادة تمثاله الشهير الى موقعه الاصلي في الشارع الرمز، لما كان معروفا بالثورة في قلب العاصمة تونس. ولانه لم يعد هناك من عدو آخر سوى الارهاب، فلابد من مواجهته «بلا رحمة ولا شفقة»، مثلما قال الرئيس الحالي وترك رحمة الأرض قبل السماء تنزل على الرئيس الأول، بعودة صوره وتماثيله الى مواضعها القديمة، ثم شفقة الضحايا والثكالى واليتامى على الرئيس الثاني الذي حرم ظلما وعدوانا من العيش بأمان وسلام في وطن ضحى من اجله وانقذه في 1987 من الهلاك والسقوط. أما المجرمون واللصوص والقتلة فسيترك أمرهم للقضاء العادل والنزيه. ومن اراد التأكد بنفسه من صدقية العدالة، ومن انها اخذت بالفعل طريقها ومجراها، فالمثال القريب هو الأحكام التي اصدرتها محكمة الاستئناف العسكرية في الثامن من الشهر الجاري، في ما عرف بقضية شهداء دوز وجرحاها، الذين سقطوا برصاص النظام في الثاني عشر من يناير2011. فقد «حكم بعدم سماع الدعوى في حق المتهم بقتل الشهيد رياض بن مبارك بوعين والحط من 15 سنة الى 8 سنوات في حق المتهم بقتل الشهيد حاتم الطاهر مع ترك المتهم في حالة سراح».
لكن ما الذي كان سيحصل لو كتبت صحيفة محلية أن الأعمال الإرهابية التي تحدث بين الحين والاخر هي مجرد مؤامرة خارجية لتقويض الديمقراطية، وان الاشخاص المشاركين فيها ليسوا سوى ضحايا، وماذا لو تركهم القضاء في حالة سراح مثل المتهمين بقتل الشهداء في2011؟
الجواب واضح لا لبس فيه وهو أن كل الفاعلين كانوا سيتهمون على الفور بالخيانة العظمى والتآمر على أمن الدولة، ولن يجرؤ احد بعد ذلك على الدفاع عنهم اومحاولة تبرير افعالهم. والاشكال المزدوج هنا هو أن الذاكرة القصيرة للناس وقوة التوجيه الاعلامي هي التي صنعت بالنهاية الجلاد والضحية، ثم ان بقاء اللصوص الكبار داخل حصونهم المشيدة بعرق وآلام الاخرين بلا محاسبة فورية، ولا حتى شعورهم بالخشية او الخوف من إمكان حصولها مستقبلا، هو الذي اعطى اجنحة وأملا لصغار اللصوص وجعلهم يقتدون بالكبار، الذين افلتوا من سيف العدالة بمهارة ودهاء. لكن لا مجال لليأس أبدا، فها هو وزير النقل يبشر التونسيين اخيرا بأمر مهم بعد ان يؤكد لهم في مؤتمر صحافي على ان «عمليات سرقة الامتعة في مطار تونس قرطاج ليست فردية، وان هناك شبكات مسؤولة عن ذلك، وتصل حد تورط بعض المؤسسات». والامر المهم هو انه» سيقع القضاء على تلك المنظومة اي (منظومة سرقة الامتعة بالمطار) في غضون الاسابيع المقبلة، وعلى اقصى تقدير في غضون شهرين من الان».هل يكفي ذلك؟ وهل ينقرض اللصوص من تونس بحلول الاجل المحدد؟
الذين استمعوا الى ملكة جمال تونس وهي تتحدث بعد تتويجها باللقب عن خروجها للشارع وصراخها بصوت عال «لا للإرهاب» ومطالبتها «بتنمية الطبقات الاجتماعية» مثلما قالت قد يملكون نصف الجواب. فلا تصريح الوزير ولا كلمات ملكة الجمال سوف تخيف الارهابيين او اللصوص وتقضي نهائيا على الارهاب واللصوصية. والسبب بسيط ومعروف فقد تربى معظم التونسيين طويلا على اللصوصية، وصار الامل بانقاذهم منها أشبه بالمعجزة الصعبة والمستحيلة. وما داموا كذلك فلا فرق بنظرهم بين من نهب في الماضي باسم الاستبداد وبين من ينهب الان باسم الديمقراطية، مادامت النتيــجة في كلتا الحالتين واحدة.

القدس العربي

تعليقات

عن Houda Karmani

شاهد أيضاً

النظام القانوني لتصنيف العقارات

الاعداد : معز بسباس متفقد رئيس للديوان الوطني للملكية العقارية ( فرع المنستير ) 1- …