هدى القرماني
تحثّ الخطى نحو درب العلم راكضة وراء أمل يبثّ فيها حبّ الحياة ونورها، يزرع فيها الرغبة والثقة بالنفس لترسم دربا جديدا يخرجها من العتمة نحو أفق أرحب وأجمل.
تدخل بسمة، امرأة متزوجة ولها أبناء يدرسون بالمدرسة، قاعة الدرس لأوّل مرّة تتدافع مع صديقاتها يتسابقن للجلوس على الطاولات وتفتح بلهفة كتابا قُدّم لها وكراسا تخصّها كُتب عليها اسمها.
لا تعلم ما الذي نُسخ داخل الكتاب ولكنها عازمة وبشغف كبير على أن تتهجّى أولى الأحرف وتٌمسك القلم لتخطّ أولى الكلمات وتنهل من نور العلم.
لم تدخل بسمة إلى المدرسة يوما فظروف عائلتها الصعبة منعتها من أن تزاول تعليمها. عاشت 35 سنة في ظلمة الأميّة والإحساس بالعجز والنقص وهي اليوم عاجزة على مساعدة أبنائها في إعداد تمارينهم المنزلية و على قراءة فاتورة الكهرباء كما تقول.
لم تحرم بسمة أطفالها من الدراسة رغم قساوة عيشها وشحّ مواردها علّها تعوّض الحرمان الذي عاشته وتجدهم السند لها وسط مجتمع لم تستطع العيش فيه.
فبسمة تشكو ظلم المجتمع وقسوته على محدودي القدرات القرائية والأميّين مستشهدة بحادثة تركت لها علامة وجرحا عميقا بداخلها.
تقول مدمعة العينين وبالقلب حسرة وقهر “لن أنسى ذلك اليوم… ذهبت إلى المدرسة، أين يدرس أطفالي، لأطّلع على جدول الأوقات المخصّص لهم و ما راعني عند سؤالي الا أن أجابني أحدهم بلا مبالاة وباستعلاء.. الجدول معلّق على السبورة…ولكنّي لا أجيد القراءة ماذا أفعل؟ لطالما تعرّضت للإهانة في المدرسة… لا أسمع سوى تدبّري أمرك… ولكني لا أعلم… أبي رجل معوز ولم يدخلني يوما قاعة درس ما الذي يمكنني فعله؟
وتواصل محدثتنا ” تنتابني اليوم رغبة شديدة في التعلّم وكلّي أمل أن أتمكّن من مساعدة أطفالي في انجاز أيّ تمرين … غالبا ما تخونني العَبرات حين تسألني ابنتي عن أيّ حرف وأبقى عاجزة… اليوم أصبحوا يدركون… أقول لهم أنا أميّة.. أنا جاهلة…”.
“وكلّما رغبت في التنقّل إلى أيّ وجهة عبر سيارة أجرة لا أستطيع تحديدها أسأل المواطنين فيجيبني بعضهم أحيانا بأدب وأحيانا أخرى ينظر إليّ أحدهم بازدراء ولا يجيبني حتى وهذا يؤلمني كثيرا.” |
ووفقا لتصريحات وزير الشؤون الاجتماعية محمد الطرابلسي، فإن 25 بالمائة من النساء في تونس هنّ أميات ملاحظا تراجعا طفيفا لنسبة الأمية اجمالا لدى الذكور والإناث حسب آخر الأرقام لسنة 2019 حيث وصلت إلى 17،7 بالمائة بعد أن كانت 18،1 بالمائة سنة 2018 و18،4 بالمائة سنة 2017.
كما تشير الإحصاءات الرسمية لوزارة التربية في تونس إلى أن حوالي 280 تلميذا ينقطعون عن الدراسة يوميا وأكثر من مئة ألف تلميذ ينقطعون سنوياً.
اليوم تفتتح “قرية أطفال أس و أس” أكودة، بالشراكة مع التنسيقية الجهوية لتعليم الكبار بسوسة، مركز تعليم الكبار وتدريب المهارات لفائدة أمهات برنامج دعم الأسرة ووقاية الأطفال من الإهمال بالقرية ومحدثتنا بسمة من ضمن الذين سينتفعون بهذا البرنامج.
وقد ارتفع عدد المستفيدين وطنيا بمنظومة محو الأمية وتعليم الكبار في هذا الموسم الجديد 2021-2022 إلى 23 ألف دارس ودارسة بعد أن قدّر بـ 20 ألفا السنة الفارطة وتمثّل نسبة الإناث 80 بالمائة من الدارسين.
وفي حديثنا معه اعتبر فتحي المعاوي المدير الوطني للجمعية التونسية لـ “قرى الأطفال اس و اس” أن هذا المركز تجربة جديدة تنضاف لـ “قرية أطفال اس و اس أكودة” مشيرا إلى أنّ اتفاقية الشراكة مع المندوبية الجهوية للشؤون الاجتماعية بسوسة تندرج ضمن التوجهات الجديدة للجمعية وذلك بالخروج من الإطار المألوف المتمثل في رعاية الأطفال في القرية نحو أن نكون أكثر فعالية في المجتمع وأكثر سند للعائلات المعوزة من أجل التعلّم وإعانتهم في اطار المشاريع المدرّة للدخل لتكون لديهم استقلالية وموطن رزق قار يوفّر لهم ظروف العيش الكريم.
اتفاقية شراكة بين قرية أطفال اس و اس أكودة والتنسيقية الجهوية لتعليم الكبار بسوسة
ترى محدثتنا بسمة أّنّ انضمامها إلى هذا المركز فرصة جيّدة عليها استغلالها لتغيير واقعها نحو الأفضل وفتح صفحة جديدة مع الحياة وتقول إنها لاقت تشجيعا من المسؤولين داخل القرية حتى أنهم تردّدوا مرات عدّة على منزلها.
25عائلة ستنتفع حاليّا بخدمات المركز وهي عائلات أميّة لم يحالفها الحظ لتلقي التعليم سابقا كما أعلمنا مدير قرية أطفال اس واس أكودة محمد يسري ضيف الله.
ويضيف “نحن اليوم وفّرنا لهم هذه الفرصة وهذا جاء بعد عديد الجلسات معهم ووجدنا أنهم يمرّون بصعوبات كبيرة ولا يستطيعون التعامل مع أبسط الظروف ولهم مشاكل مع أطفالهم فيما يتعلّق بالدراسة”.
ويتابع مدير القرية “هدفنا تطوير المركز فإمكانياتنا ضعيفة جدا ونأمل أن نجد الدعم الكافي لتطويره والترفيع في عدد الورشات وعدد المهارات حتى يستفيد منه أكبر عدد ممكن من العائلات”.
مقاربة ادماجية ما بين القراءة والمهارات
من جانبها توضّح رشيدة كحولي نصر الله المنسقّة الجهوية لتعليم الكبار بسوسة أنّ العائلات المستفيدة هي بالأساس عائلات ترأسها امرأة وتنقصها إمكانيات معرفية ومهاراتية وغير قادرة على الاندماج في سوق الشغل.
وتُلفت إلى أنّ هذا المركز تمّ بعثه لفائدة هؤلاء النساء وعائلتهن من أجل تحريرهن رسميا من الأميّة الابجدية من خلال برنامج الأبجدة والذي يدوم سنتين وتكون المرحلة الأولى مرحلة الأساس ويُجرى في آخر السنة امتحان جهوي أما المرحلة الثانية وهي مرحلة التكميل فتُشفع بامتحان وطني تسند للناجحين فيه شهادة التربية الاجتماعية.
وتضيف في نفس الوقت سنعمل على مقاربة ادماجية ما بين القراءة والمهارات لذلك بعثنا ورشة خاصة بالصناعات التقليدية متمثلة في الألياف النباتية يقع فيها صناعة منتوجات أساسها مادة الحلفاء وورشة للفنون التشكيلية متمثلة في الرسم على جميع المحامل من خشب وفخار وحرير كما سنخصص لهم ورشة للتزويق مرة كل أسبوعين.
وتشير المنسقة الجهوية إلى أنه إثر استكمال السنة سيقع استثمار الاتفاقيات الوطنية المبرمة بين وزارة الشؤون الاجتماعية ومختلف الوزارات الأخرى وبالأساس وزارة المرأة والأسرة وكبار السن ووزارة التكوين المهني والتشغيل لمنحهم الأولوية في اجتياز الامتحانات الخاصة بشهادة الكفاءة المهنية والتي ستفتح لهنّ الأبواب نحو التشغيل إمّا في المؤسسات أو بعث مشاريع خاصة. كما سيقع التنسيق مع المندوبية الجهوية للصناعات التقليدية لمنحهن بطاقة حرفيّ تمكّنهن من المشاركة في المعارض.
وتعتبر الكحولي أنّ هذه التجربة مازالت في بداياتها في انتظار توسيع هذا المشروع وأن يتحوّل المركز إلى نموذجي.
تمويلات لمشاريع نساء منتفعات ببرنامح تعليم الكبار
تطمح بسمة في الحصول على تمويل وتقول “أنا أعمل خيّاطة وآمل أن أتحصّل على قرض أو آلة خياطة أخيط بها بعض الأشياء في المنزل وأبيعها لأعيل عائلتي فتوفير دينار في اليوم يمكنه أن يسدّ لي بعض الحاجيات.. يمكنني أن أشتري الخبز أو شيئا آخر فليس لديّ ما أملك.. نحن نعيش كل يوم بيومه ونقتات ممّا نتحصل عليه يوميا وزوجي عاجز أصيب بكسور في رجليه ولا يعمل.”
وتتيح وزارة المرأة والأسرة وكبار السنّ فرصة تمويل مشاريع للنساء بعد التكوين والحصول على الشهادة مثلما أكّدت ذلك المديرة الجهوية بسوسة نبيهة رمضان.
وبيّنت رمضان أنّ الوزارة قد وضعت عدّة برامج من أجل التمكين الاجتماعي والاقتصادي للنساء وهي برنامج “رائدات” وبرنامج “رائدة” الذي يمّكن من الحصول على قرض يستطعن الانطلاق به لبعث مشروع يكون فرصة لتحسين الوضعية الاجتماعية والحصول على دخل قار.
ويتراوح هذا التمويل بين الألف دينار و100 ألف دينار في حين يصل بالنسبة لبرنامج “النهوض بالأسر ذات الوضعيات الخصوصية” الى 6 آلاف دينار ويكون في شكل منحة لا قرضا وهي منحة تساعد المرأة والعائلة على فتح مشروع لتمكين هذه العائلة وجعلها أكثر استقرارا وتوازنا حسب قولها.
من جهته أكّد المندوب الجهوي للشؤون الاجتماعية بسوسة كمال صفر أنّ الوزارة وفي إطار برنامج التمكين الاقتصادي الذي وضعته لفائدة العائلات المعوزة لإدماجها اقتصاديا واجتماعيا على استعداد لتمويل مشاريع المستفيدات من مركز تعليم الكبار والمهارات بالكامل من دون الالتجاء إلى القروض، فقط ما عليهن سوى الحصول على شهادة الكفاءة المهنية.
كما ستعمل بعض الجمعيات، في إطار الشراكة، على مساعدتهن على غرار جمعية نساء مغاربيات متحدّات التي ستمنحهن فرصة لترويج وتسويق منتوجاتهن مثلما أعلنت ذلك رئيسة الجمعية ريم بووزرة.
حتّى يصبحن مدعومات نفسيا
أما من الناحية النفسية فتعتبر هادية المقدولي أخصائية نفسية عن الديوان الوطني للأسرة والعمران البشري بسوسة أنّ هذا المشروع فرصة للنساء المنتفعات حتى يصبحن مدعومات نفسيا ويكتسبن الثقة في النفس وقوّة الإرادة والاعتماد على الذات والاستقلالية المادية ويتحولن الى صاحبات أهداف يطمحن إلى تحقيقها كما أنّ نجاحهن في الدراسة ونيل الشهادة سينعكس إيجابا على تعاملهن مع أطفالهن في جانب التربية والتعلّم.
من أجل تطوير منظومة تعليم الكبار
واستئناسا بالتجارب الناجحة، فمحو الأمية على مستوى وزارة الشؤون الاجتماعية تجاوز اليوم مرحلة القرائية نحو بناء مشروع حياة ويكون متاحا للجميع وفقا لما صرّح به مؤخّرا هشام بوعبدة المدير العام للمركز الوطني لتعليم الكبار.
ولفت الى أنّ تعليم الكبار ليس حكرا على كبار السنّ بل كمفهوم عالمي يأخذ بعين الاعتبار تعزيز القدرات القرائية والكتابية والمهارات الحياتية من سنّ العاشرة الى آخر العمر.
وأضاف أنّ العمل قد بدأ منذ سنوات على تطوير هذه المنظومة في مستوى المضامين وفي مستوى الهيكلة والتشريعات وخاصة في مستوى الشراكات “والجديد هذه السنة سوف لن نكتفي بالقراءة والكتابة والحساب بل قمنا بتعزيز المراكز النموذجية أين يمكن للدارسين التكوين في مادة الإعلامية وصناعة المرطبات والحلاقة والخياطة وغيرها وكذلك وفّرنا دروسا في التنمية البشرية وثقافة المواطنة” حسب قوله.
وتابع “لأوّل مرة منذ انطلاق البرنامج خصّصنا حيزا كبيرا في إطار ما يسمى بمرحلة الاستقطاب أو الترغيب في التعلّم لرسم خطة تنفيذية قام بوضعها المنسقون الجهويون اعتمادا على مؤشرات الأميّة على مستوى محليّ وفي مستوى الأحياء.
وتتضمّن هذه الخطة أهدافا ومؤشرات دقيقة وأنشطة ميدانية تحسيسية لضمان استقطاب الدارسين فالعملية صعبة وتتطلب تظافر جهود الجميع من قطاع عام وخاص ومجتمع مدني حسب تقديره.
لا تزال معضلة الأميّة تمثل عائقا للتنمية البشرية والاجتماعية والاقتصادية ببلادنا وبرنامج تعليم الكبار من بين الاستراتيجيات الوطنية التي وضعتها الدولة منذ أكثر من عقدين للقضاء على هذه الآفة ولكنّه لم يستطع الحدّ منها وظلّت نسبة الأميّة مرتفعة وعدد الدارسين المستفيدين من هذا البرنامج يظلّ هزيلا كلّ سنة أمام اجمالي عدد الأميين في تونس وهو ما يطرح معضلة الاستقطاب وسياسة الحكومات المتعاقبة الغير موفّقة خاصة أمام ضعف الميزانية المخصصة لهذا البرنامج حسب ما يراه العديد من الخبراء.
كما أنه على مستوى المضامين لم يستطع هذا البرنامج النهوض بهذه الفئة خاصة أمام التطور التكنولوجي والمتغيرات على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والثقافي واستيعابه أيضا للمنقطعين عن الدراسة مبكّرا وهو ما يستوجب تطويرا أكبر وتجديد منظومة تعليم الكبار في تونس عموما.
وتبقى بسمة مثل آلاف من النساء يعانين عائق الأميّة المنتشرة خاصة في صفوف النساء الريفيات واللائي وجدنا في تعليم الكبار، رغم نقائصه، فرصة ثانية لهنّ لإخراجهن من العتمة نحو الضوء وتحويل العاطلات إلى فاعلات منتجات.