القدس في القانون الدولي

كثيراً ما كانت القدس محور قرارات عديدة صدرت عن الأمم المتحدة اعتباراً من قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 لسنة 1947 وما تبعه من قرارات ذات صلة بالصراع الفلسطيني / العربي ـ الإسرائيلي؛ وهي كمنطقة محتلة، تخضع بالتالي للقانون الدولي والقانون الدولي لحقوق الإنسان، اللذين يجرّما الإجراءات الإسرائيلية، وينقضا قرارَي الرئيس الأميركي دونالد ترامب الأخيرَين باعتبار “القدس الموحدة” عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأميركية إلى المدينة المحتلة. 

لمدينة القدس أهمية استثنائية على عدة مستويات؛ فهي ذات قيمة دينية لدى المسلمين والمسيحيين واليهود، فضلاً عن كونها مدينة تاريخية بارزة، وتتعلق بأطر قانونية أصيلة. وهي، إلى ذلك كله، عاصمة فلسطين ومحور تجاذب لكثير من الدول والشعوب.

واستناداً إلى ما للقدس من أهمية متعددة الوجوه والجوانب، يهمنا في هذا البحث المختصر أن نركز على الأوضاع القانونية التي رافقت القدس، أو شكلت لها الإطار القانوني الدولي منذ أربعينيات القرن الماضي حتى الآن. ومع أن هذا الإطار القانوني يشتمل على بنود بنيوية ووظيفية كثيرة، إلاّ إننا مضطرون إلى اختيار المحطات القانونية فيه، وهي المحطات التي اتسمت بإلزامية دولية لجميع الدول وفقاً لأحكام الشرعية الدولية.

وعلى هذا الأساس سنوزع هذا البحث على:

1 ـ الوضع القانوني للقدس في إطار الشرعية الدولية قبل سنة 1980، أي منذ صدور القرار الدولي 181 في سنة 1947، الذي قضى بتقسيم فلسطين إلى دولة عربية وأُخرى يهودية، وبإعطاء صيغة دولية لرعاية مدينة القدس، ثم التطورات اللاحقة لهذا التاريخ.

2 ـ الوضع القانوني ـ الدولي للقدس بعد سنة 1980، أي بعد إعلان إسرائيل أن القدس الموحدة (أي بعد ضم القدس الشرقية) هي عاصمة الدولة اليهودية. ويشمل هذا الجزء الثاني أيضاً، التوصيف القانوني ـ الدولي لإعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب الأخير، أن القدس الموحدة هي عاصمة إسرائيل، وأنه سينقل السفارة الأميركية لدى إسرائيل إلى هذه العاصمة، ثم شرح تداعيات هذا الإعلان الأميركي في ضوء قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في هذا الصدد.

وعلى أي حال، فإن معالجة هذين الجزأين ستنحصر في الأطر القانونية ـ الدولية المتعلقة بالقدس دون سواها من بنود أُخرى تتعلق بفلسطين ككل، ومن دون التطرق إلى أمور سياسية وتاريخية أو سواها.

I ـ الوضع القانوني ـ الدولي للقدس قبل سنة 1980

أولاً ـ كانت إسرائيل قد احتلت الجزء الغربي من مدينة القدس في سنة 1948، مخالفة، بالتالي، أحكام الشرعية الدولية في كل ما يتعلق بنظام الانتداب (في عهد عصبة الأمم المتحدة ـ المادة 22، ونظام الوصاية لمجلس الوصاية الدولية للأمم المتحدة)، ومتجاوزة مسؤولية الدولة المنتدبة …إلخ. إلاّ إن إسرائيل قُبلت عضواً في المنظمة الدولية في سنة 1949، بعد أن تعهدت خطياً بالعمل على، أو المساعدة في تنفيذ القرار 181 (الذي قضى بتقسيم فلسطين)، والقرار 194 (الذي قضى بعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى بيوتهم to their homes).

وعلى الرغم من هذا التعهد الخطي الإسرائيلي، فإن الجمعية العامة للأمم المتحدة كانت تقوم أحياناً بتذكير إسرائيل بوجوب التقيد بهذا التعهد، إلى أن طالبت في سنة 1982، بعزل إسرائيل لأنها أصبحت دولة “غير محبّة للسلام” بسبب انتهاكها أحكام ميثاق الأمم المتحدة، وبسبب عدم تنفيذها القرارَين 181 و194، كما سنرى في الجزء الثاني من هذا البحث.

وكان لهذا التعهد الإسرائيلي الخطّي في سنة 1949، أهمية قانونية منها:

● أن إسرائيل، بشهادة الأمم المتحدة، كانت الدولة الأولى التي اعترفت بالدولة الفلسطينية وفقاً لاستنادها إلى القرار 181 / 1947، وتعهّدها بالمساهمة في تنفيذه. وقد أعلن بن ـ غوريون، مع إعلان استقلال إسرائيل، أن القرار 181 قرار دولي ملزم لا يجوز التنازل عنه.

● أن القرار 181 / 1947 أرفق في متنه خريطة تفصيلية بالحدود المقررة للدولة العربية وأسماء القرى التابعة لها. وبالتالي فإنه وضع حدوداً واضحة لكل من الدولتين العربية واليهودية، الأمر الذي يعني أن مقولة إسرائيل ليس لها حدود واضحة منذ إنشائها، مقولة غير صحيحة، وأن كل ما تجاوز هذه الحدود يُعتبر أيضاً مخالفاً للقانون الدولي أصلاً.

● أن القرار 181 لا يزال يُعتبر المرجعية القانونية الدولية للدولة الفلسطينية. وأكد ذلك الرئيس ياسر عرفات في سياق إعلانه الدولة الفلسطينية في سنة 1988، فقد قال إن هذا القرار “لا يزال يوفر شروطاً للشرعية الدولية تضمن حق الشعب العربي الفلسطيني في السيادة والاستقلال الوطني.” وفي إثر هذا الإعلان بشأن الدولة الفلسطينية، رحبت الجمعية العامة للأمم المتحدة به انطلاقاً من قاعدة القرار 181 / 1947.

● المعروف، أن هذا الترحيب الدولي يشمل أيضاً الاعتراف بإعلان الدولة الفلسطينية “وعاصمتها القدس الشريف”، كما ورد في الإعلان ذاته، وقد اعترفت بهذه الدولة، آنذاك، أكثر من مئة دولة أُخرى في العالم.

● المعروف أيضاً أن القانون الدولي يقرر في صدد الاعتراف بالدول:

أ ـ أنه غير مشروط، وغير قابل للتراجع.

ب ـ أن الدولة، سواء اعترفت بها الدول الأُخرى أم لا، تملك الحق في الدفاع عن نفسها.

ج ـ أنه بعد هذا الاعتراف، يمكن للدولة المعترف بها أن تقيم علاقات دبلوماسية مع الدول المعترفة على قاعدة الرضا المتبادل.

د ـ أنها، حتى إذا كانت خاضعة لاحتلال دولة أُخرى، كلياً أو جزئياً، لا تفقد صفتها كدولة لها مقوماتها الأساسية من الناحية الدستورية.

ثانياً ـ إن هذا التعهد الإسرائيلي المحفوظ لدى أرشيف الأمم المتحدة، والذي كانت المنظمة الدولية تطالب إسرائيل بتنفيذه، لم ينفَّذ، وإنما عملت إسرائيل على نقضه وتفريغه من معناه وجدواه منذ اليوم الأول لتأسيسها. وقد استعانت إسرائيل، في ذلك، بتغاضي سلطات الانتداب البريطاني عن مخالفاتها المتكررة من جهة، وبعجز الجانب العربي (والفلسطيني ضمناً) من جهة أُخرى، وبتراخي المجتمع الدولي من جهة ثالثة.

ثالثاً ـ في 5 جوان 1967، أي في إثر العدوان الإسرائيلي على بعض الدول العربية، قامت إسرائيل باحتلال الشطر الشرقي من القدس، فوقعت المدينة بكاملها تحت السيطرة الإسرائيلية. وقد فاخر اليهود بهذا الإنجاز، أي “بتوحيد المدينة الأكثر قدسية والتي لن نبارحها أبداً.”

بذلك، انتهى الوضع القانوني للقدس فيما يتعلق بوجوب الوصاية الدولية عليها، وتعطلت قسراً هذه النصوص الدولية كلها، وبدأت منذ ذلك الحين النغمة اليهودية باعتبار القدس الموحدة عاصمة لإسرائيل.

هذا السلوك الإسرائيلي دفع مجلس الأمن في الأمم المتحدة إلى التعجيل في اعتبار قرار ضم القدس الشرقية لاغياً كأنه لم يكن، لأنه مخالف للأحكام الملزمة في اتفاقية جنيف الرابعة لسنة 1949، والمتعلقة بحماية المدنيين الواقعين تحت الاحتلال. وبذلك أصدر مجلس الأمن القرار 237 في 11 / 6 / 1967 الذي قام بتوصيف الأراضي الفلسطينية التي سيطرت عليها إسرائيل بالقوة، بما فيها القدس الشرقية، على أنها من الأراضي المحتلة، وأنها من التي تنطبق عليها أحكام اتفاقية جنيف الرابعة. ومن بنود هذه الاتفاقية، على سبيل المثال لا الحصر:

ـ المادة 146 التي تفرض على الدول المتعاقدة، أي الدول التي وقّعت الاتفاقية، وعلى الأشخاص الذين يقترفون أو يأمرون باقتراف إحدى “المخالفات الجسيمة” لهذه الاتفاقية، عقوبات جزائية فعّالة.

ـ المادة 147 من هذه الاتفاقية تنص على أن هذه المخالفات الجسيمة تشمل: القتل العمد، أو التعذيب، أو المعاملة اللاإنسانية بما في ذلك التجارب الخاصة بعلم الحياة، أو تعمّد إحداث آلام شديدة، أو الإضرار الخطير بالسلامة البدنية أو بالصحة، والنفي أو النقل غير المشروع، والحجز غير المشروع، وإكراه الشخص على الخدمة في القوات المسلحة للدولة المعادية، أو حرمانه من حقه في أن يحاكَم بصورة قانونية وغير متحيزة وفقاً للتعليمات الواردة في هذه الاتفاقية، وأخذ الرهائن، وتدمير واغتصاب الممتلكات على نحو لا تبرره ضرورات حربية، وعلى نطاق كبير بطريقة غير مشروعة وتعسفية.

هذا فضلاً عن الموجبات المترتبة على القوة القائمة بالاحتلال مثل عدم التغيير الديموغرافي أو السياسي للأراضي المحتلة، وعدم نقل مواطني هذه القوة إليها، وعدم ضمها إلى إقليمها، وعدم التعرض للقوانين والأنظمة التي ترعاهم… إلخ.

رابعاً ـ في المسألة المتعلقة بالقدس مباشرة، فإن المدينة بكاملها وقعت تحت الاحتلال الإسرائيلي في سنة 1967، وقد تصدّت الأمم المتحدة لهذا الاحتلال:

1 ـ الجمعية العامة أصدرت قرارَيها 2253 و2254 في 4 / 7 / 1967، و14 / 7 / 1967، وذلك في جلستَين استثنائيتين طارئتين. والمعروف في الفقه الدولي، أن جلسة الطوارئ الخاصة (special emergency session)، أي التي تعقدها الجمعية العامة خارج دورتها السنوية، استجابة لأي طارئ، تتسم بالطابع الإلزامي، أسوة في ذلك بقرارات مجلس الأمن. وأيّدت الجمعية في هذين القرارين إلغاء التدابير التي اتخذتها إسرائيل لتغيير وضع مدينة القدس.

2 ـ أمّا مجلس الأمن فأصدر القرار 252 في 21 / 5 / 1968، وقضى بموجبه، بـ “إبطال جميع الإجراءات والأعمال التي قامت بها إسرائيل والتي من شأنها أن تؤدي إلى تغيير في الوضع القانوني للقدس. وقرر مجلس الأمن أن هذه الإجراءات الباطلة لا يمكن أن تغيّر في وضع القدس.” ثم أصدر مجلس الأمن القرار 298 في 25 / 9 / 1971 في السياق ذاته، وقرر أن “جميع الأعمال التشريعية والإدارية التي قامت بها إسرائيل لتغيير وضع مدينة القدس، ومن ضمنها مصادرة الأراضي والممتلكات ونقل السكان والتشريع الذي يهدف إلى ضمّ القطاع المحتل في القدس، لاغية ولا يمكن أن تغير ذلك الوضع.”

3 ـ المجلس الاقتصادي والاجتماعي ذكّر أيضاً في قراره 1336 في 21 / 5 / 1968 بـ “ضرورة احترام حقوق الإنسان الأساسية وغير القابلة للتصرف حتى خلال تقلبات الحرب.” ودعا المجلس إسرائيل إلى تسهيل عودة السكان الذين رحلوا عن المناطق التي جرت فيها العمليات الحربية.

4 ـ أمّا لجنة حقوق الإنسان فكانت الأكثر صرامة في هذا المجال، وقد أصدرت القرار 10 في 23 / 2 / 1970، الذي أكدت فيه أن اتفاقية جنيف الرابعة ملزمة لإسرائيل التي ارتكبت “جرائم حرب موجهة إلى الإنسانية، بالإضافة إلى كونها جرائم.” وأن اللجنة تدين إسرائيل لانتهاكها هذه الاتفاقية، ولا سيما لجهة تدمير المناطق وإقامة المستوطنات وترحيل وطرد السكان المدنيين، وإلغاء القوانين القائمة، وسوء معاملة وقتل المدنيين، وتدمير الممتلكات وغيرها من الانتهاكات العديدة لاتفاقية جنيف الرابعة.

II ـ الوضع القانوني للقدس بعد سنة 1980

أولاً ـ كان لإعلان ضم القدس الشرقية إلى إسرائيل في سنة 1980 بموجب قانون صادر عن الكنيست الإسرائيلي، الأثر الحاسم لدى مجلس الأمن في هيئة الأمم المتحدة. فقد أصدر هذا المجلس القرار 478 في 20 / 8 / 1980 الذي قضى باعتبار القانون الإسرائيلي لاغياً، وأنه لن يغيّر وضع الأراضي المحتلة بما فيها القدس الشرقية.

وكانت الفرصة الملائمة للقضية الفلسطينية، والقدس ضمنها، عندما أُعلنت “الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف” في سنة 1988. وقد قوبل هذا الإعلان بترحيب دولي كبير شمل أكثر من مئة دولة اعترفت، آنذاك، بالدولة الفلسطينية كما ورد في إعلان استقلالها.

وانسجاماً مع هذا الموقف المؤيد لاستقلال الدولة الفلسطينية والشطر الشرقي من القدس، وذلك بموجب قرار الجمعية العامة 43 / 177 الذي صدر في 15 / 12 / 1988 بأكثرية 101 صوت. ولم تعترض، يومها، على هذا القرار سوى الولايات المتحدة وإسرائيل.

ولعل أهمية القرار الدولي أنه اعتمد اسم “فلسطين” كمراقب في الأمم المتحدة، وأنه شمل في ذلك الترحيب بالقدس الشرقية عاصمة لفلسطين.

إلاّ إن هذا الإنجاز التاريخي لفلسطين بدأ يتقلص ثم يتبدد مع تطور الأحداث اللاحقة، وذلك بسبب:

1 ـ الجهود الإسرائيلية المدعومة أميركياً في إجهاض هذه الاعترافات، وفي إضاعة نتائجها السلبية على إسرائيل.

2 ـ اتفاق أوسلو وتداعياته المتدحرجة على القضية الفلسطينية عامة.

ثانياً ـ يبدو أن القرن الواحد والعشرين شهد، لغاية الآن، بعض التطورات السياسية ـ العملية وكذلك القانونية المتعلقة بالقدس، إلاّ إننا نعرض باختصار ثلاثة منها:

أ ـ تهويد القدس بشتى الوسائل الإسرائيلية وطرد الفلسطينيين منها.

ب ـ الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية بشأن الأراضي الفلسطينية المحتلة بما فيها القدس الشرقية واعتبارها من “الأراضي المحتلة”.

ج ـ إعلان الرئيس الأميركي (دونالد ترامب) بشأن القدس الموحدة عاصمة لدولة إسرائيل ونقل السفارة الأميركية إليها، وتداعيات هذا الإعلان.

أ ـ تهويد القدس

قامت إسرائيل في جوان 1967 باحتلال القدس الشرقية، وبذلك وقعت مدينة القدس بكاملها في القبضة الإسرائيلية. إلاّ إن إسرائيل لم تعلن رسمياً القدس “الموحدة” عاصمة لها وتدعو الدول الأُخرى إلى نقل بعثاتها إليها إلاّ في سنة 1980. وقد بدأت العملية الإسرائيلية في التهويد منذ ذلك الوقت. والواقع أن هذا التهويد اتخذ عدة أشكال وصيغ منها:

ـ الإصرار على أن فلسطين هي دولة تحقيق الحلم الإسرائيلي القديم.

ـ أن “قانون العودة” هو الوسيلة الأكثر جدوى في تحقيق هذا الحلم.

ـ أن إسرائيل “دولة الشعب اليهودي”. والعمل جارٍ لتشريع ذلك الأمر وتنفيذه عملياً، حتى إن إسرائيل تطالب السلطة الفلسطينية بالاعتراف به كشرط مسبق للمفاوضات.

واليوم تزداد وتيرة التهجير القسري في القدس، الأمر المخالف لجميع أحكام الشرعية الدولية ولحقوق الإنسان في آن. وقد ذكرنا هذه الأحكام الدولية الملزمة.

فالتقارير الراهنة تشير، في هذا الصدد، إلى أن دولة إسرائيل تتبنّى المخطط الهيكلي للقدس لسنة 2020، وفيه أن إسرائيل تتبنّى ثلاثة حلول استراتيجية:

ـ تفعيل سياسة طرد السكان العرب من القدس.

ـ تفعيل إجراءات استقدام السكان اليهود إليها.

ـ تعديل الحدود البلدية للقدس كي تتطابق مع مسار الجدار العازل.

هذا، فضلاً عن استكمال أساليب الحصار والترحيل والمصادرات.

وتلجأ إسرائيل، من أجل تحقيق غرضها الهادف إلى تدمير المسجد الأقصى من دون أي اعتراضات معلنة، إلى أسلوب مراوغ وغير مباشر يتمثل في القيام بحفريات، فقد شهدت الفترة بين 21 / 8 / 2008 و21 / 8 / 2009 الكشف عن خمسة مواقع جديدة، علاوة على الحفريات القائمة سابقاً.

هذا مع العلم بأن التهجير من القدس لا يقتصر على المسلمين فقط، بل يتناول السكان غير المسلمين، أي المسيحيين أيضاً.

وتترافق هذه المساعي التهجيرية والتدميرية والتهويدية مع بناء المستوطنات اليهودية في القدس، بتمويل حكومي إسرائيلي، وبتبرعات يهودية من الخارج ـ غالباً أميركية، وباستثمار شركات يهودية أيضاً.

ب ـ رأي محكمة العدل الدولية

المعروف أن محكمة العدل الدولية تشكل السلطة القضائية الدولية في العالم، وهي تقوم بعملها من خلال قرارات قضائية بناء على إحالة مشتركة من الدولتين المعنيتين، أو من خلال رأي استشاري بناء على طلب الجمعية العامة أو مجلس الأمن في الأمم المتحدة.

والمعروف أيضاً أن القرار القضائي ملزم للدول المعنية به، وذلك تحت طائلة أحكام المادة 94 من الميثاق. أمّا الرأي الاستشاري، أو الفتوى، فغير ملزمَين إلاّ للجمعية أو لمجلس الأمن اللذين يطلبان هذا الرأي.

واستناداً إلى ما تقدم، تجدر الإشارة إلى الرأي الاستشاري الذي صدر عن محكمة العدل الدولية في سنة 2004 بشأن مسألة الجدار الذي أقامته إسرائيل في بعض الأراضي الفلسطينية المحتلة من طرفها في أعقاب حرب جوان 1967. وكان لهذا الرأي أهمية ملحوظة، منها:

ـ أنه صدر عن أعلى سلطة قضائية في العالم. وفحوى هذا الرأي أن الجدار جاء مخالفاً لأحكام اتفاقية جنيف لسنة 1949، لأنه أُقيم ـ في بعض وصلاته ـ على الأرض الفلسطينية المحتلة. ولذلك يجب تفكيك هذه الوصلات ودفع تعويض للفلاحين الفلسطينيين المتضررين.

ـ أنه، بشهادة محكمة العدل الدولية، لا يجوز تغيير الوضع القانوني لهذه الأراضي المحتلة ـ بما فيها القدس الشرقية ـ وفقاً لأحكام الشرعية الدولية.

والمعروف، أن جميع النصوص الدولية ـ كالقرارات والاتجاهات ـ تؤكد ذلك الموقف الدولي الملزم.

ج ـ إعلان الرئيس الأميركي (دونالد ترامب) بشأن القدس

لم يكن إعلان الرئيس دونالد ترامب هو الأول في شأن القدس من جانب الولايات المتحدة، إذ كان هذا الإعلان قد صدر منذ التسعينيات، إلاّ إن الرؤساء الأميركيين السابقين آثروا التريث في تنفيذه لأسباب تتعلق بإمكان التقدم في المفاوضات الإسرائيلية ـ الفلسطينية، وبالتخوف من الانعكاسات السلبية في الأوساط العربية والإسلامية وفي ردات فعلها.

وبهذا، فإن القرار سبق الرئيس الأميركي الحالي، لكن الأخير لم يشارك مَن سبقه في التريث في تنفيذه، وإنما قام بذلك ربما بسبب الضغوط اليهودية التي طالبته بتنفيذ ما وعد به كمرشح رئاسي أميركي، أو بسبب اقتناعه بأن ردات الفعل لن تبلغ هذا المدى من التشنج والاعتراض.

وفي جميع الأحوال نرى أن إعلان الرئيس ترامب تضمّن بعض الأخطاء التاريخية والمخالفات الجسيمة للشرعية الدولية، وفوجىء برفض دولي عربي وإسلامي وأوروبي وآسيوي… إلخ، من دون استثناء. والواقع أن هذا الإعلان وقع في عدد من الأخطاء والمخالفات، منها أنه مناقض للحقائق التاريخية. فالرئيس الأميركي أعلن أن القدس كانت المركز الديني والسياسي التاريخي لليهود، وأنهم بتوحيدها أنجزوا ما كان أصلاً من حقوقهم التاريخية، وهذا القول مناقض للحقائق التاريخية والسياسية والدينية والاجتماعية معاً.

وإذا كان المجال هنا لا يسمح بضرورة تصويب هذا الزعم الأميركي غير المدروس أصلاً، فإن الوقائع التاريخية والقانونية تشير إلى أن اليهود في فلسطين حتى أيام الانتداب البريطاني كانوا يحملون الجنسية الفلسطينية منذ سنة 1925، وحتى صدور “قانون الجنسية” الإسرائيلي الذي قُدم إلى الكنيست في سنة 1950، وأُقر في سنة 1952، واعتبره بن ـ غوريون مكملاً لقانون العودة (المُقر في سنة 1950). وكانت إسرائيل التي نالت استقلالها في سنة 1948، قد دخلت في سنة 1949 إلى الأمم المتحدة بشرط مسبق يقضي بالمساعدة في تنفيذ القرار 181 الذي يلحظ، إلى جانبها، دولة عربية في فلسطين، وكذلك بموجب القرار 181 ذاته، الالتزام بالقدس تحت رعاية دولية. وبذلك كانت إسرائيل الدولة الوحيدة التي انضمت إلى الأمم المتحدة بشروط.

أمّا عن مخالفات إعلان الرئيس الأميركي للسلوك الأميركي ذاته في شأن القدس، فيمكن عرض بعض الأمثلة فقط:

ـ إن الإدارة الأميركية ذاتها أصرت منذ فترة بعيدة على أن تواظب على دور الوسيط بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني، وكان الطرفان يقبلان بهذا الدور، باعتباره “الوسيط النزيه” في بعض الأحيان. أمّا اليوم فلم تعد هذه الإدارة قادرة على القيام بالدور ذاته، الأمر الذي أسفر عن خسارة دبلوماسية للجانب الأميركي.

ـ كانت الإدارة الأميركية، بدءاً من مطلع هذا القرن تحرص فعلاً على تسهيل الحلول للعقدة الفلسطينية، وكانت، فعلاً، وراء صدور القرار 1397 الذي لحظ “رؤية” الدولتين في فلسطين. كما كانت هذه الإدارة وراء تشكيل اللجنة الرباعية (الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة) لتفعيل هذه المسألة لمصلحة الدولتين (الفلسطينية والإسرائيلية في فلسطين)، وذلك اعتباراً من سنة 2002.

وعلى الرغم من تعثّر هذه اللجنة ثم تجميدها، فإن الإدارة الأميركية كانت بصدد تكوين الدولة الفلسطينية وعاصمتها “القدس الشريف”، أو القدس الشرقية على الأقل، لكن إعلان الرئيس الأميركي أطاح بهذا المشروع.

ـ إن القرار 478 / 1980 الذي أصدره مجلس الأمن، والذي قضى باعتبار القانون الإسرائيلي بضم القدس الشرقية باطلاً، وأنه لا يغير الوضع القانوني لتوصيفها كأرض محتلة، لم يكن صدوره ممكناً لو قامت الولايات المتحدة بوضع فيتو على مشروع ذلك القرار. والواقع أنها امتنعت من التصويت كأنها أرادت تمريره، ذلك بأن الامتناع من التصويت لا يمنع صدور القرار الدولي.

ـ ومثلما فعلت أميركا إزاء هذا القرار، فإنها اتخذت أيضاً الموقف ذاته في بعض القرارات الأُخرى السابقة.

أمّا مخالفات إعلان الرئيس دونالد ترامب الأخير ضد الشرعية الدولية، فيمكن ذكر بعضها:

ـ خالف هذا الإعلان للرئيس ترامب أحكام اتفاقية جنيف الرابعة لسنة 1949، وتعديلاتها المتعلقة بحماية المدنيين الواقعين تحت الاحتلال. وقد شرحنا بعض هذه الأحكام.

ـ خالف عدداً من القرارات الدولية الصادرة عن الجمعية العامة ومجلس الأمن ومحكمة العدل الدولية وغيرها بشأن التوصيف القانوني للأراضي المحتلة. وهذه الأحكام ملزمة ليس فقط لإسرائيل، بل لجميع لدول الأُخرى أيضاً.

ـ خالف الحقوق الإنسانية المعترف بها دولياً للشعب الفلسطيني. وهذه الحقوق تصنَّف، عادة، على أنها من “الحقوق غير القابلة للتنازل”، ومنها حق تقرير المصير، وحق العودة، وحق الاستقلال، وحق العيش بسلام… إلخ، وهي محفوظة للشعب الفلسطيني منذ سنة 1969 (بموجب قرارات أكدتها الجمعية العامة تكراراً).

ـ خالف القرارات الدولية التي أصدرها مجلس الأمن ـ وهي ملزمة مبدئياً ـ بشأن القدس الشرقية (ولا سيما القرارَين 478 و479) في سنة 1980. وهذه القرارات صدرت بقبول صريح أو ضمني من الولايات المتحدة.

ـ خالف بعض “القواعد الآمرة” في القانون الدولي التي تعني المساواة المطلقة بين الشعوب (كحق تقرير المصير، وحق العيش بسلام، وضرورة احترام الكرامة الإنسانية، إلخ)، وقد أشرنا إلى بعضها في هذا البحث.

ـ إعلان الرئيس الأميركي يخالف أيضاً مبادىء حقوق الإنسان بصورة عامة، والمبادىء الأميركية لحقوق الإنسان ومبادىء الدستور الأميركي في بعض نقاطه أيضاً.

المصدر: موقع جدلية

تعليقات

عن Houda Karmani

شاهد أيضاً

قرابة 70% من قتلى حرب غزة من النساء والأطفال وفق تقرير للأمم المتحدة

استنادا على تحليل تفصيلي لعينة ممثلة للضحايا، كشف تقرير للأمم المتحدة أن النساء والأطفال يشكّلون …