بقلم يامن أحمد حمدي
بعد طول انتظار وبعد تجاذب و”تدافع” تمّ عقد مؤتمر العنف يومي الثلاثاء والأربعاء الفارطين (18 و19 جوان 2013) وكانت الغاية منه محاولة الالتقاء بين الأحزاب والجمعيّات والقوى المدنيّة والسياسيّة والنقابيّة من أجل الاتفاق على نبذ الاختلاف المعبّر عنه بشكل عنيف.
وكعادة توقعاتنا الفاشلة ونظرتنا المنقوصة، وكعادتنا في النظر بعين واحدة والكيل بمكيالين، وقع ما لا نريد أن نحسب له حساب: انفجر نوع مقيت من العنف تجاه بعض الحاضرين من شخوص وجمعيّات وأحزاب، وكأنّ مؤتمر مناهضة العنف لم يكن سوى فرصة للبعض لاستعراض قدرتهم على ممارسة العنف ضدّ الآخرين.
توقـّعنا العنف في القيروان فاندلع في الأحياء الشعبيّة بحيّ التضامن وروافده والتي تركت لقمة سائغة للجريمة والمخدّرات والتطرّف، وتوقعنا العنف من لحى وجلابيب “الظلاميّة فبرز من “الصدور العارية” الحداثويّة”، وتوقعنا العنف من “الدولة الموزاية” والإمارات الإسلام فظهر في المجلس التأسيسي “الشرعي”، وتوقعنا العنف أمام المساجد وداخل المصليّات فظهر في قاعات الاجتماعات الحواريّة، وتوقعنا العنف في الساحات العامّة فاندلع في اللقاءات الإعلاميّة النخبويّة، ولم تكن ألغام الشعانبي أعنف من ألغام نقاشات الحوار الوطني أو أشدّ فتكـًا من بعض فصول الدستور…
ثمّ جاءت خاتمة الخواتم في مؤتمر لمناهضة العنف الذي ابتدأت أشغاله بالعنف من قبل رافضي العنف تجاه من يُتـّهم بالعنف… وكان التدافع من قبل روافض التدافع لا من قبل المنظـّرين له…و أذكر مرّة، في هذا السّياق، أنّ أحد “الرفاق” قد قال لي، في تفسيره البسيط لمعنى التدافع الاجتماعي: “التدافع هو أن نكون على شفا هاوية فإمّا أن تدفعني …و إمّا أن أدفعك”. لقد أغضيت الطرف على كلمة “أدفعك” وركزّت أشدّ التركيز على لفظة “تدفعني”، وتخوّفت منها وأخفت النـّاس من أولئك الذين “سيدفعوننا إلى الهاوية” وتناسينا جميعًا أنـّنا قد “ندفعهم إلى الهاوية”… وأغفلنا الانتباه إلى أنـّنا نتجّه جميعًا وطوعًا وبخطى حثيثة نحو دوّامة العنف…
في مؤتمر مناهضة العنف انفجر صمّام العنف من حيث غفلنا، بدا العنف في شكل شعارات اتهام وتحوّل إلى سباب وشتائم انحدرت إلى البذاءة وزاد غلوّا في وجه من لا أظنّ أنـّه دعا إلى العنف، وإن تلبّست أقواله بما يشبه العنف، وهو الشيخ الجليل عادل العلمي الذي حاصروه بالسبّ والشتم ولم يجد من مهرب سوى الارتماء على الأرض في تمثيليّة فاشلة، في حين استبق “الأذكياء” الأمر فغادروا المكان بنفس سرعة إصدارهم لبيانات متناغمة تستنكر وتدين وتقيم الحجّة على من يتباهى دومًا بمناهضة العنف. في حين أصدر نداء تونس، الأكثر ذكاءًا، بيانـًا داهية أدان فيه ممارسي العنف والذين تعرّضوا له دون ذكر الأسماء و بلا إفراط ولا تفريط.
هذا في اليوم الأوّل، أمّا في اليوم الثاني فقد اختار محمّد المنصف المرزوقي، كعادته، إخفاء رأسه في رمال قرطاج والتغيّب باختلاق أعذار لا معنى لها، في حين اختار مصطفى بن جعفر الحضور لتبيان أنـّه الشخصيّة الأكثر توافقـًا وأنـّه أهل لرئاسة المجلس الوطني التأسيسي اليوم ورئاسة الجمهوريّة غدًا، وحضرت النهضة لتدعيم براءتها من العنف وإظهار يدها النظيفة وعدم إعطاء مبرّر لـ”صائدي الماء العكر”، وحضرت الجبهة في شكل اعتذار لما قام به صبيانها ومراهقوها السياسيّون في اليوم السّابق، أمّا بقيّة الأحزاب فجاءت لتسجيل حضورها وضمان مقاعد لها في الصفوف الأماميّة وفي الصور الفوتوغرافيّة، وحضر الاتحاد العام التونسي للشغل للقول أنـّه ما يزال نقطة التقاء الفرقاء وما يزال الصوت الهادئ في زمن العاصفة، لذلك كانت كلمات حسين العبّاسي التقريعيّة الماء البارد الذي أطفأ الجمرات الملتهبة في الصّدور، ووضع حدًّا للمهزلة التي كادت تتكرّر لليوم الثاني.
أمّا القائمون بفعاليّات المؤتمر فقد كانوا كرة تتقاذها أرجل اللاعبين في الساحة السياسيّة، لذلك اكتفوا في اليوم الأوّل بالاستنكار الحادّ لما وقع من “تدافع” وإلقاء التبريرات في ضرورة استدعاء الجميع لحضور المؤتمر دون إقصاء.
وإن يكن الأمر فإنّ ما حدث في اليوم الأوّل لم يكن سوى خطأ قاتل وعنف لا معنى له، وكما أخطأ البعض بتبرير العنف والتحريض عليه في منابر المساجد ومنابر الاجتماعات العامّة، فقد أخطأ أيضـًا بعض السياسيّين الذين اتخذوا من دماء شكري بلعيد قميص عثمان جديد لتبرير العنف المضادّ وتشريع القتل ضدّ من أسموهم بـ”قتلة الأرواح”، وما يعتبرونه حقّا في الثأر تحوّل إلى نقمة لا تؤدّي إلا إلى الخراب المهدّد للثروة وللدولة وللشعب…
لم يكن من اللائق أن يترك كبار السّاسة الأمر بين أيدي صبيان السياسة ومراهقي الايدولوجيا، ليصرخوا بلا سبب ويسبّوا كما شاؤوا… فما هكذا تكون مناهضة العنف، وما هكذا تـُستأصل شأفة الاستبداد وما هكذا تـُقطع شجرة الفتنة التي أظلـّت بأغصانها كامل تراب الجمهوريّة.
هل نعالج العنف بالعنف؟ هل نـُصادم الإرهاب بالإرهاب؟ هل نغيّر عنفـًا شرعيّـًا بعنف ثوري؟ ونبدّل عنفـًا مفترضـًا بعنف محقـّق؟ هل نسير بثورتنا السلميّة (على الرغم من شهدائها وجرحاها وضحاياها) إلى فوضى دمويّة؟
طالبت الثورة بالخبز والشغل والحريّة والكرامة والعدالة، فتشوّهت مطالبنا، بفضل العاجزين من النخب الفاشلة و”الثورجيّة” والمرتزقة، لقد أصبح العنف خبز يومنا وكفاف ليلنا، وشغلنا الذي لا نتلقى مقابله أجرًا وحريّتنا المريضة، وكرامتنا المهدورة في كلّ اجتماع وفي كلّ مؤتمر، وفوق ذلك نتعادل في أمر العنف من اللفظ إلى الفعل، إلى درجة استسهل البعض القتل واستساغ البعض الآخر التهديد بحمّام دم وبالقتال وبالحرب الأهليّة…، وصولا إلى التهديد بالسّحل ضدّ التونسيّين من قبل مرتزق يدّعي حماية ثروة لم يشارك فيها إلا بالنهب ربّما.
وبعد هذا وذلك فالقادم أخطر وأعنف: لقد أصبح العنف عنصرًا فاعلا في ساحتنا السياسيّة التي تفترض الحوار والديمقراطيّة والهدوء والتهدئة والفهم والتفهّم والكياسة والمرونة واللين للمرور سريعًا من عنق الزجاجة، أمّا وهذه هي الحال فسوف تـُنهك جميع القوى بتبادل العنف الرخيص وينتهي الأمر إلى أن نسلـّم أمرنا إلى نظام أكثر عنفـًا ودولة أكثر استبدادًا…
وتصبحون على وطن