“الماجل الأزرق” و”خزان السُّفرة”.. معالم مائية تاريخية تصارع من أجل البقاء

ماهر جعيدان

لم يكن “الماجل الأزرق” حوضًا واسعًا عميقًا لجمع المياه للمزارعين فحسب، بل كان أيضًا حوضًا لسقاية أهالي “حضرماتوم” على الطريق التجارية الرومانية القديمة، وحلقة الوصل بين المرابطين في حصون سوسة الدفاعية والقيروان عاصمة الدولة الأغلبية.

هذا المعلم المائي الصامد عبر العصور أمام نوازل الدهر يروي لنا قصة الأرض والإنسان والماء في الآن ذاته، يقع اليوم في حي الرياض على مسافة 6 كلم جنوب غرب أسوار المدينة العتيقة بسوسة. شُيد منذ العهد الروماني على أرض منخفضة داخل غابة زيتون، وتحلى بنمط العمارة الإسلامية الأغلبية فيما بعد على غرار “فسقية القيروان”. ويتألف “الماجل الأزرق” من ثلاثة عناصر مكونة له هي حوض لتصفية المياه، وآخر للخزن إضافة لصهريج مغطى.

على الطريق الرئيسية بحي الرياض، وهو أحد أحياء سوسة الكبيرة، لا يزال “الماجل الأزرق” يصارع من أجل البقاء، وقد أحاط به الزحف العمراني، وهزت أسسه العميقة حركة العربات على الطريق المجانبة له فتسببت له في تصدعات على الجدران.

ولولا عمقه التاريخي وجماليته العمرانية لما بقي إلى اليوم صامدًا، وهو ما دفع جمعية البحوث والدراسات في ذاكرة سوسة إلى إطلاق حملة “أنقذوا الماجل الأزرق” حتى يقف نزيف الاعتداءات المتكررة التي لحقت أهم معالم الحضارة الإنسانية في الجهة.

وتتعدد في المنطقة معالم البناءات المائية والتصرف في الموارد المائية، ونظام الخزانات والصهاريج ومسارب المياه والتصرف في المياه الجوفية ومياه الأمطار التي تبين كيفية تزويد المناطق الحضرية والزراعية بالمياه.

وتكشف هذه الفسقيات والمواجل بالخصوص عن نمط العيش في القرون الغابرة وما انتهت إليه “علوم الريافة” وهي علوم خاصة بالمياه، وأيضًا “علوم العمائر المائية” وكيفية صرف الماء في المساقي.

مكوّنات “الماجل الأزرق”

يُصنف “الماجل الأزرق” ضمن المعالم الأثرية، وهو يُعتبر من الشواهد الأثرية النادرة التي تعود للفترة الوسيطة خارج المدينة العتيقة بسوسة، ويشبه في تخطيطه “فسقية القيروان”. وشيّد فيه حوض تصفية المياه حسب تخطيط دائري إذ يبلغ قطر الدائرة الداخلية 5 أمتار فيما يبلغ قطر الدائرة الخارجية 6.3 مترًا فيما يبلغ سمك الجدار 1.3 مترًا.

وتدعم 6 أكتاف سميكة الجدار من الخارج، وهي تتكون من أنصاف اسطوانية تنتهي في الأعلى بشكل نصف كروي، ويبلغ شعاع الدائرة المركزية لهذه الأسطوانات قرابة المتر الواحد حسب المقاييس المدرجة ضمن منشورات المعهد الوطني للتراث المشرف على هذا المعلم.

ويشتمل الحوض الصغير من الداخل على أربعة أكتاف متساوية من حيث الشكل والحجم، أما عمقه يبلغ 7 أمتار فيما تقدر سعته بـ500 متر مكعب وتمرّ المياه من الحوض الصغير إلى الحوض الكبير من خلال قناة اتصال يبلغ عرضها 1.4 مترًا” حسب ما ورد في البطاقة التعريفية بهذا المعلم.

أما جدار الحوض الكبير فهو متعدد الأضلاع، ويضمّ 14 ضلعًا ويبلغ شعاع دائرته من الداخل 18 مترًا ومن الخارج 19.3 مترًا، وتدعّم أكتافًا داخلية كل الزوايا التي تكونها الأضلاع وأخرى خارجية متقابلة فيما بينها وتصل سعته إلى 2300 مترًا مكعبًا.

أما صهريج الضخ، فهو بمثابة قاعة مستطيلة الشكل مسقوفة بقبو برميلي تتخلله من الأعلى فتحات لغرف المياه. وقد تعرض هذا الصهريج إلى الهدم والاندثار أثناء عملية توسعة الطريق الرئيسية المحاذية.

حملة من أجل إنقاذ “الماجل الأزرق”

“انقذوا الماجل الأزرق” لم يكن شعارًا رفعه ناشطون في المجتمع المدني المحلي بسوسة فحسب، بل ارتقى إلى طلب رسمي وُجّه إلى سلطة الاشراف من أجل هذا المعلم وتسييجه وأيضًا من أجل إحداث منتزه على مساحة 6000 مترًا مربعًا.

التقى “الترا تونس” رئيس جمعية الدراسات والبحوث في ذاكرة سوسة خالد عيسى الذي أكد على تضرر بعض مرافق “الماجل الأزرق” نتيجة التصرف العشوائي للمتعهدين بأشغال عمومية دون مراعاة الخصوصية التاريخية للمعلم.

وأشار محدثنا أنه يوجد في الساحل مثيل لـ”الماجل الأزرق” يوجد بمنطقة “وادي لاية” بالقلعة الصغرى، وأنه كان يوجد مثيل له أيضًا بالـ”موردين” قرب مدينة مساكن ولكنه اندثر بعد تشييد دار شباب على أنقاضه ففقدت المنطقة إحدى أهم معالمها الحضارية والتاريخية في حين لا تزال فسقية أخرى موجودة في “سانية المقرون” في جهة سيدي الهاني القريبة من القيروان.

وأضاف خالد عيسى أن الماجل الأزرق يقع على طريق القيروان-سوسة، وهو ينخرط ضمن سلسلة من المنشآت المائية التي تتواصل عبر مساقي أرضية لتصل إلى المدينة العتيقة بسوسة مرورًا بصهريج تحت القصبة.

رئيس جمعية البحوث والدراسات في ذاكرة سوسة تحدث إلينا عن تعرض “الماجل الأزرق” للاعتداء في أكثر من مرة نتيجة ما يعتبره تجاهل المصالح المتداخلة على مرّ السنين وعدم تعهد المعهد الوطني للتراث بالتدخل إضافة للتشويه الذي لحق بعض الترميمات بمادة الإسمنت غير المناسبة لعملية الصيانة، كما أشار أن الضرر اللاحق أثناء الأشغال بالطريق العمومية قد تسبب في تصدعات بليغة وتهديم أجزاء مهمة منه.

واعتبر عيسى أن انخراط هذا المعلم التاريخي ضمن المسلك السياحي بعد القيام بأشغال التسييج والصيانة هو من أوكد الأولويات، مشيرًا إلى أن تعهد جمعيته بالشراكة مع معهد الدراسات الفلاحية بشط مريم بإحداث منتزه ترفيهي بالمكان قد يمنح قيمة مضافة للجهة.

“السُفرة” تعتبر أيضًا من أهم المنشآت المائية داخل المدينة العتيقة بسوسة، ويرجح أنها ذات علاقة بـ”الماجل الأزرق”. وقد اُنشأ “خزّان السُفرة” في العهد الأغلبي عام 270 هجري/883 ميلادي بأمر الأمير ابراهيم الثاني، وهو عبارة عن خزان عظيم لتموين المدينة العتيقة بالماء الصالح للشراب.

وكان هذا الخزان قبل تأسيسه دواميس ضخمة مقامة على أقواس يرجع عهد بنائها إلى زمن الرومان، حسب الباحث في التاريخ حمادي الملولي الذي أكد على أن تاريخ بناء “السُفرة” يعود إلى العهد الروماني وقد اُستعمل سجنًا في أوائل حكم الأغالبة.

وكتب عنه حسن حسني عبد الوهاب في الجزء الثاني من مؤلفه “ورقات عن الحضارة العربية بإفريقية التونسية” قائلًا: “صهريج السفرة بداخل البلد لم يزل على حاله و جلاله.. وهو من المآثر الفخرية لدولة الأغالبة التي حرصت طيلة مدتها على تعمير البلاد وتجهيزها بالمعالم ذات النفع العمومي وخصوصًا بمصانع المياه وخزنها في جهات إمارتهم”.

وفي وصف “خزان السُفرة”، يفيد الباحث حمادي الملولي أن هذا الخزان الموجود بوسط المدينة بين نهجي “سيدي سليمان” هو بناء شامخ محصن تحصينًا محكمًا مقام على 12 اسطوانة مربعة الشكل سمكها 1.5 مترًا و طولها 11 مترًا، أصلها ثابت على أرض سميكة البناء والطلاء، فيما يصل فرعها إلى سقف مقوّس نصف دائري مستطيل تعلوه فوهات للتهوئة والأعمدة مرتبطة ببعضها ويفصل بينها بناء رابط مقوس.

ويضيف أن شكل هذا الخزان مستطيل طوله 25 مترًا وعرضه 19 مترًا وعمقه 6 أمتار له مفتح شرقي ضيق ينحدر منه إلى أسفل 29 درجًا، و8 أمتار من سطح الأرض في الزاوية القبلية. ويحد السفرة قبلة مسجد “سيدي سليمان” الذي تمرّ به قناة تحتية آتية من خزان قرب “سيدي الظاهر” غربي جنوب سور المدينة، مشيرًا أنه يستوعب من الماء ما قدره 2800 متر مكعب.

وحسب وثائق بحث منجزة في الحقبة الاستعمارية سنة 1919، كانت تُستغل “السُفرة” من طرف 35 ألف ساكن، وينحدر الماء إلى هذا الخزان من ثلاثة موارد هي “الماجل الأزرق” غربي المدينة، والخزان الحديث العهد بسيدي الظاهر إضافة لمورد مائي ثالث على مسافة 120 كلم من المدينة.

وبعد هذه اللمحة حول المنشآت المائية بمدينة سوسة عبر العصور، تتبيّن أهمية “الماجل الأزرق” و”خزان السُفرة” في الكشف عن الموارد المائية للسكان وبعض أسرار الحضارة في العهدين الروماني والإسلامي، كما تنكشف قيمة الهندسة المعمارية للفسقيات والمواجل والخزانات التي تضمن مقومات العيش الحضري وتساهم في تشكل التجمعات السكانية وسبل الإمداد بالغذاء وتنمية المناطق الزراعية.

الترا تونس

تعليقات

عن Houda Karmani

شاهد أيضاً

وزيرة الشؤون الثقافية : «نأمل أن لا تتخطى أشغال تركيز المركز الإقليمي العربي للتراث الثقافي المغمور بالمياه العام»

عبرت وزير الشؤون الثقافية حياة قطاط القرمازي، السبت بالمهدية، عن أملها في أن « لا تتجاوز …