أحمد الشرقاوي
سقــوط محــور و صعــود آخـــر..
ها هي نظرية ‘ابن خلدون’ حول “سقوط الحضارات وصعود أخرى” تتجسد اليوم في المنطقة بالصوت والصورة، من خلال الكلمة المباشرة التي ألقاها سماحة السيد حسن نصر الله من مجمع الشهداء بالضاحية الجنوبية بمناسبة عاشوراء، إلاّ أن من يهمهم الأمر من المحور الآيل إلى السقوط لم يستوعبوها، وذهبوا يبحثون عن تفسير لها في واشنطن والعواصم الغربية بل وفي تل أبيب أيضا.. لكن دون جدوى.. لأن الرئيس ‘أوباما’ ختم الملف هذه المرة بالشمع الأحمر بعد أن كتب على ظهره “سري للغاية”، عملا بمقولة “واستعينوا على قضاء أموركم بالتكتّم”.
كل من تناولوا كلمة سماحة السيد بالتعليق من أقلام الزيت، عبّروا عن إستغرابهم لما حملته من مضمون في كيمياء تركيبتها المشفرة، على غير الصورة التي كانوا يروجون لها من قبل.. الجميع شعر بأن هناك طبخة كبيرة قد تمت على حساب مشيخات الخليج، وأن أوراق اللعبة قد تغيّرت، وأن محور المقاومة بصدد التلميح لإنتصار سياسي حاسم بعد أن بدأت معالم الإنتصار العسكري تلوح في سماء سورية.. لكن لا يزال الغموض سيّد الموقف، لأن لا أحد استطاع بعد فك شيفرة المعادلة الجديدة التي هي بصدد التشكّل في المنطقة في غياب المعلومات الدقيقة.
ظهور سماحة السيد علنا وسط الضاحية الجنوبية وإلقائه لكلماته ليلة وصبيحة عاشوراء والطيران الإسرائيلي يحلق في سماء لبنان، رسالة معناها أن زمن التخفي قد انتهى، وأن موازين القوى الجديدة قد أسفرت عن إتفاق أمريكي إيراني برعاية روسية وفق معادلات جيوسياسية مغايرة للتي كانت قائمة حتى الآن في الشرق الأوسط.. هذا ما أشار إليه ‘سعيد جليلي’ الأسبوع المنصرم من دون أن يفصح عن التفاصيل.
وهذا معناه، أن حزب الله الذي غيّر المعادلة في المنطقة بانتصاره بمعية الجيش العربي السوري في معركة القصير الإستراتيجية التي قسمت ظهر البعير، لم يعد لاعبا صغيرا في لبنان فحسب، بل تحول إلى لاعب إقليمي يْقارع الكبار، وأن بلد الأرز لن يكون جائزة ترضية للملكة الوهابية بأي حال من الأحوال.
هذا معناه أن سماحة السيد أصبح يشعر بثقة أكبر بعد أن حصل على ضمانات حاسمة تلجم إسرائيل عن أية مغامرة أمنية متهورة قد تكلفها وجودها.. إسرائيل بالنهاية تحولت إلى كلب ضل الطريق، يعوي ليخيف، لكنه لا يستطيع عض سوى ذيله.
المشهد السوري اليوم..
الجيش العربي السوري ومعه حزب الله وكتائب أبو الفضل العباس وكتائب الحرس الثوري الإيراني يتحرّكون اليوم على كامل التراب السوري في كل الإتجاهات، يقضمون الأرض والمدن والقرى بقوة وسرعة وثبات، ويقطفون أرواح التكفيريين فرادا وجماعات بعد أن سقطت كل الخطوط الحمر في ريف دمشق وحلب وإدلب والقلمون وغيرها.. وساعة نهاية معركة حلب ستكون ساعة إعلان الإنتصار التاريخي والإستراتيجي الكبير الذي تحدث عنه سماحة السيد..
هل سمعتم أحدا في الغرب يحتج على ما يقوم به الجيش العربي السوري وحلفائه في مناطق كانت تعتبر خطا أحمرا لمعادلة التوازنات على الأرض بين النظام السوري وما كان يسمى بـ”المعارضة المسلحة”؟..
ألم يقل ‘جون كيري’ لتاجر المخدرات وعميل السعودية المدعو ‘الجربا’ بمناسبة مؤتمر أصدقاء سورية الأخير في لندن، عندما عبّر له ‘الجربا’ عن مخاوفه من يأثر الحسم العسكري للجيش العربي السوري على مؤتمر جنيف للتسوية السياسية في سورية؟.. فأجابه ‘كيري’: “اصمت يا ولد..هذه لعبة كبار”.
هذا يعني أن الرئيس السوري حصل على الضوء الأخضر لسحق فلول الإرهابيين دون رحمة.. لن يرفع أحد الصوت بعد اليوم ليقول أن “بشار الأسد يقتل شعبه”، فالإعلام العالمي تكفّل بتسويق حقيقة ما يفعله الإرهاب الوهابي بسورية من قتل وذبح وخراب وإغتصاب.. الغرب مجمع اليوم على أن الخطر الذي يتهدد العالم هو الإرهاب، وأن لا أحد يستطيع سحقه سوى الجيش العربي السوري وحلفائه.. والأسد سيتوج قريبا كأول رئيس في العالم انتصر على الإرهاب فيما فشل الإتحاد السوفياتي وأمريكا في ذلك من قبل.. نحن في الربع ساعة الأخيرة من الحرب.. قالها نصر الله، صدّق السعودي أم لم يصدّق، هذا شأن يعنيه ويتحمل وحده مرارة تبعاته.
تباشير انتصار بمساحة المنطقة..
سماحته قال كذلك: “إذا كنتم تنتظرون أن تنتصروا في سورية فلن تنتصروا… وإذا حصل تفاهم نووي ففريقنا سيكون أقوى وأفضل حالاً محلياً وإقليمياً”.. هذا كلام كبير وخطير يضمر في كيميائه معادلات كبيرة وجديدة رْسمت للمنطقة ولا يعلم سرّها إلا ‘أوباما’ و ‘بوتين’ و’روحاني’، وبالتالي، الأسد وحسن نصر الله تبلّغوا تفاصيلها دون شك، فيما لا زالت إسرائيل وحلفائها من عربان الزيت آخر من يعلم..
صحيح أن أمراء الوهابية هم أكثر من يعانون ويصرخون غضبا ويأنون ألما، بعد أن استشعروا قرب الهزيمة، وأن في الجو رائحة مؤامرة أمريكية روسية إيرانية تحاك ضدهم، وأن هناك معادلات جديدة ترسم على حسابهم، لكنهم يجهلون تفاصيلها.. حتى نتنياهو لم يكتشف بعد أسرارها وسيذهب إلى موسكو للإجتماع بالقيصر عساه يعرف منه ما الذي يحدث في إدارة ‘أوباما ‘ بواشنطن.. إنها حقا مهزلة.. هل تحوّل ‘حسين أوباما’ من “سلفي وهابي” إلى “شيعي معتدل”؟.. لا أحد يعلم، لكنه بالتأكيد قبل بالخطة الروسية لإعادة توزيع النفوذ وجغرافيا المصالح في المنطقة بالتعاون والتشاور والتوافق بعيدا عن الصراع والتصادم بمنطق عقلية الحرب الباردة.. وبالتالي، فالمراهنون على التناقض بين أمريكا وروسيا إنما يراهنون على الوهم.. هذا ما قلناه من قبل وبدأ يظهر واضحا جليّا اليوم.
وحيث أن الأمن هو أول شرط لتحقيق الإزدهار وإعادة تنشيط الدورة الإقتصاد العالمية التي دخلت مرحلة الركود، فقد اتخذ الرجلان قرارا إستراتيجيا بمحاربة الإرهاب الوهابي بالوكالة، وهناك حديث عن رغبة إدارة ‘أوباما’ في الحوار مع حزب الله، وقد يكون محور اللقاء المعادلة الجديدة في لبنان، لكن لا معلومات حتى الآن تفيد إن كان الحزب سيقبل في هذه المرحلة بهذا الحوار أم لا.. هذا مقلق جدا للسعودية، وهو ما يفسر الحملة الهستيرية المسعورة التي شنها ‘سعود الفيصل’ و ‘بندر بوش’ ضد الإدارة الأمريكية مؤخرا.. لكن، هل يصلح العطّار ما أفسده الدّهر؟.
ما الدافع إلى حالة التفائل هذه إذن، والتي عبّر عنها سماحة السيد بنبرة الواثق من الإنتصار؟ وهل لذلك علاقة باطمئنان نصرالله إلى وضعه كنتيجة للتسويات التي تقوم إدارة ‘باراك حسين أوباما’ بطبخها مع الروسي للمنطقة، والتي يبدو أن سماحته مقتنع بأن حزبه لن يدفع ثمنها لا في التسوية السورية ولا في المسألة الإيرانية؟
أن يقول سماحة السيد أن “فريقنا سيكون أقوى وأفضل حالاً محلياً وإقليمياً”، هذا معناه أن رهان السعودية على لبنان هو رهان على الوهم، وأن كلام ‘كيري’ لـ’سعود الفيصل’ خلال زيارته الأخيرة للسعودية كان مجرد مسكّن لتمرير الوقت في انتظار أن تستوي الطبخة الإقليمية وتحل الكارثة بأمراء الوهابية.. ألم يقل سماحة السيد بأن السعودية رفضت خسارة صغيرة وستْمنى بهزيمة كبيرة؟.. لكنها رفضت النصيحة، وأخذتها العزة بالإثم حتى بدأت ترى في الأفق معالم الهزيمة رؤية العين.
الديمقراطية تحل ضيفة غير مرغوب فيها بالخليج..
هناك معلومات مؤكدة تتحدث عن خطة أمريكية لإجراء تعديلات جوهرية على أنظمة الحكم في الخليج، بحيث سيم الإحتفاظ بولي العهد ووزير الداخلية، وسيوضع دستور للبلاد، وقانون للأحزاب، وستجرى إنتخابات تشريعية و محلية، وسيشكل البرلمان ومجلس الوزراء من التركيبة الطائفية الممثلة للنسيج المجتمعي السعودي حيث المكون الشعي يمثل حوالي 18 إلى 20% من السكان. والحديث هنا عن مملكة دستورية برلمانية لا مكان فيها لتحالف الوهابية التكفيرية مع التركيبة السياسية الحاكمة في البلاد. هذا يعني، فصل الديني عن السياسي لا الدين عن السياسة كما قد يعتقد البعض لضرورة المحافظة على لمسة إسلامية على طبيعة الدولة الجديدة، ما سيفتح المجال لحرية العبادة واحترام الإختلاف والتنوع، مع وضع نظام خاص بإدارة مستقلة بالنسبة للمقدسات الإسلامية بمكة والمدينة، وبذلك، يتم نزع الورقة الدينية من معادلة الصراع السياسي في المنطقة والعالم، والتي يحتكرها ويلوح بها من حين لآخر نظام آل سعود التيوقراطي المتخلف الذي يقدم نفسه كوصي على أهل السنة في العالم والسنة منه براء.
نفس التغييرات ستشمل البحرين، بحيث سيستغنى عن رئيس الوزراء المثير للجدل، ليتولى هذا المنصب ولي العهد المنفتح على المعارضة، وستشكل الغالبية الشيعية القوة الأولى في البرلمان بـ 22 نائبا من أصل 40 فتأسس بالتالي الحكومة بالتحالف مع القوى الجديدة.
المعلومات تتحدث عن أن الربيع العربي الذي لم يصل إلى مشيخات الخليج تم إستبداله بخريف أمريكي سيغير تركيبة الأنظمة الرجعية العتيقة في هذه المنطقة من خلال إدخال جرعات متواصلة من سيروم الحرية والديمقراطية، بهدف ضمان الإستقرار والمشاركة الشعبية الواسعة في القرار وتطوير الحياة المدنية في المنطقة.. هذا معناه بالنسبة لشعوب المنطقة وضع حد لعهود من الظلم والفساد والإستبداد والإستفراد بالحكم، ومعناه بالنسبة للعالم تغيير البيئة الحاضنة للفكر الوهابي التكفيري، و وضع حد لسلطة أمراء الدم وصناع الإرهاب وداعميه في المنطقة والعالم، وعلى رأسهم المجرم بندر بن سلطان.
دخول المنطقة سوق النخاسة السياسية..
الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، سمح لنفسه هذه المرة بالتهكّْم على عْربان الزيت، مذكّرا إيّاهم بحقيقة تاريخية طالما رفضوا التسليم بها، فوضعوا بيضهم كله في سلة الأمريكي، فكان لزاما أن يذكرهم سماحته مرة أخرى، من باب وذكّر ثم كرّر التذكير لأن بالتكرار وحده يتعلم الحمار.. ومفاد العبرة، أن الولايات المتحدة سرعان ما تتخلى عن حلفائها وتبيعهم دون رحمة في سوق النخاسة السياسية لحساب مصالحها الكبرى فيما أصبح يُعرَف بسْمعة “الخيانة”.
وبالمناسبة، تباهى سيد المقاومة بتحالفه القوي مع إيران وسورية فيما أصبح يُعرَف بسْمعة ‘الوفاء” حيث قال: “عندما تحصل تسويات كبرى في العالم، حلفاء وأصدقاء هذا الطرف وذاك يقلقون، لكن نحن لا نقلق من حليفنا. كان وما زال لدينا حليفان أساسيان، إيران وسورية. قولوا لي هل في يوم من الأيام باعنا حليفنا وهل سلّمنا حليفنا في أي يوم أو طعننا في الظهر؟…نحن واثقون بعلاقتنا مع حليفينا، لكن هل تريدون أن نعد كم مرة تخلّى عنكم حلفاؤكم وتركوكم في قارعة الطريق؟”.. والخطاب هنا موجه مباشرة لحكام الخليج الذين وثقوا في الأمريكي فخانهم مرة أخرى وتركهم كالأيتام ضائعين لا يعرفون ما يقدمون ولا ما يؤخرون.
لكن المْلفت في كلام سماحة السيد، هو دفاع نصر الله عن التفاهم بين إيران والدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة محذراً من “أن البديل” من التفاهم والتسوية الإيرانية – الغربية هو “الحرب”. وهو ما تساوق مع التحذير الذي صدر في نفس الأسبوع من إدارة ‘أوباما’ للكونغرس، من أن عدم الاتفاق مع طهران في المسألة النووية وعدم تشجيعها برفع تدريجي للعقوبات هو “الحرب”، والشعب الأمريكي لا يرغب في الذهاب إلى حرب جديدة. وللإشارة، فصدى الإنذار من الحرب تردد أيضا في طهران كبديل لعدم خضوع الغرب لمطالب إيران في الملف النووي.. هذا معناه، أن الجميع أصبح يتحدث عن أبيض أو أسود، عن إتفاق أو حرب، ولا مكان لمنطقة رمادية يلعب فيها المقامرون الصغار دور المْعطّل.
وبهذا المعنى، فالتخويف بالحرب هي اللغة المشتركة التي أصبح يتحدثها الأمريكي والإيراني وحزب الله، ما جعل أوروبا تهرول لخطب ود إيران لأنها لا ترغب في حرب جديدة لأنها غير مستعدة لها، وشعوبها لن تساندها بعد ما حصل في مجلس العموم البريطاني بمناسبة مناقشة قرار ‘كامرون’ بالمشاركة في العدوان على سورية، كما أن ألمانيا وإيطاليا وغيرها عارضوا الحرب وجنحوا إلى التقارب مع إيران وسورية، باستثناء فرنسا.
لكن ما سر الموقف الفرنسي المعاند؟..
المعلومات الواردة من إيران تتحدث عن غضب الفرنسي من الحليف الأمريكي، ليس بسبب إلغاء الحرب على سورية أو الهرولة الأمريكية تجاه إيران، بل لأن فرنسا فقدت مصالحها في سورية وهي على وشك فقدانها في إيران أيضا، لأن أمريكا اتفقت مع إيران سرا على استبدال صناعة السيارات الفرنسية (سيتروين) الأكثر رواجا في الجمهورية الإسلامية، وتعويضها بما تنتجه شركة “جينرال موتورز” الأمريكية. هذه ضربة قاسية لفرنسا لم يتقبلها الرئيس هولاند الذي نزلت شعبيته لأدنى مستوى عرفته فرنسا منذ سنة 1958.
فرنسا غيّرت أخيرا من توجهها حتى لا تفقد ما تبقى لها من مصالح في إفريقيا جنوب الصحراء، بسبب قرار الأمريكي والروسي الدخول إلى المنطقة من البوابة المغربية لمحاربة الإرهاب، وهو الأمر الذي سنخصص له مقالا مستقلا بعد الزيارة التي يقوم بها العاهل المغربي للولايات المتحدة في إطار إتفاق إستراتيجي أمريكي – روسي لمحاربة الإرهاب في منطقة الساحل جنوب الصحراء.
كما أن ما كشفته الصحافة الإسرائيلية الإثنين بمناسبة زيارة الرئيس الفرنسي لتل أبيب اليوم، يؤكد أن فرنسا بدأت في العمق تْغيّر موقفها من الإتفاق الغربي – الإيراني، حيث أخبر الرئيس الفرنسي ‘بنيامين نتنياهو’ بعدم قدرته الإستمرار في عرقلة الحل الدولي إلى ما لا نهاية، لما قد يترتب عن مثل هذا النهج من إضرار بمصالح فرنسا الدولية، ما أثار موجة من الغضب في إسرائيل ترجمت إنتقادات لـ’هولاند’، وبلغ الأمر حد إمتناع عدد كبير من الوزراء حضور لقاء ‘نتنياهو’ – ‘هولاند’. في حين حاولت بعض القنوات الصهيونية التخفيف من الصدمة وتصوير الموقف الفرنسي بأنه لا يزال داعما للموقف الصهيوني والسعودي بشأن لملف النووي الإيراني.
ملامح المشد الجديد في الشرق الأوسط وآسيا..
من هنا يفهم كلام سماحة السيد بأن المحور الذي ينتمي إليه (محور المقاومة) سيصبح عما قريب “أقوى وأفضل حالاً محلياً وإقليمياً” على حساب المحور الخليجي القديم الذي فقد دوره ووظيفته، وهو اليوم ينازع في الربع ساعة الأخير قبل السقوط المريع، ليحل محله نظام خليجي جديد منفتح على الإيراني وعلى محيطه الإقليمي بحجم قوته وطبيعة دوره الذي لا يجب أن يتجاوز الإطار المحلي، ولا يكون مكلفا للأمريكي لجهة تواجد القواعد العسكرية التي أرهقت إقتصاد الولايات المتحدة، ما دام الإيراني سيؤمن تدفق النفط من مضيق هرمز، والروسي سيتكفّل بإقامة توازن المصالح في المنطقة بعد أن تم تقسيم جغرافيتها بين الأمريكي والروسي والإيراني.
وهذا ما يفسر هرولة التركي للتقارب مع الإيراني وتحسين علاقته مع العراقي ومحاولة التصالح مع الكردي وانسحابه التدريجي من الصراع السوري، بعد أن خسرت تركيا 40 مليار دولار سنويا بسبب انخراطها في الصراع السوري. كما أن تركيا تطمح لأن تكون الممر الإستراتيجي لأنابيب النفط والغاز الروسي واللبناني والسوري والقطري والإسرائيلي إلى أوروبا، خصوصا بعد أن تنازلت الولايات المتحدة عن 60% من حصتها في أبار الغاز الإسرائيلي المكتشفة حديثا حتى تضمن عدم تعرض هذه الآبار للقصف من قبل حزب الله.
المعلومات تتحدث كذلك عن إتفاق روسي – صني – إيراني يؤمن الإنسحاب الأمريكي من أفغانستان وإزالة كل القواعد الأمريكية المكلفة والمرهقة للإقتصاد الأمريكي من الدول الإسلامية الأسيوية في المحيط الروسي، ما سيجعل باكستان في قلب معادلة الصراع والتحول بسبب عدائها للهند وإيران، وخضوع سياساتها للإملاءات السعودية في محاولة لزعزعة إستقرار المنطقة الأسيوية (إعتقال 17 إرهابيا باكستانيا في إيران مؤخرا وقبله تفجيرات الهند دليل على هذه السياسة العدوانية)، وهو الأمر الذي تعتبره روسيا والصين وإيران ودول “البركس” خطا أحمر. وستكتفي أمريكا بنشر بوارجها الحربية وحاملات طائراتها في بحر الصين لحماية حلفائها ومصالحها في المنطقة (كوريا الجنوبية، اليابان، فيتنام، تايلاند…).
الإستدارة التركية الجديدة، بالإضافة لتوتر العلاقات بينها وبين السعودية ومصر، ووضع باكستان في الكماشة الإيرانية الهندية الروسية لمحاصرة مغامراتها الهادفة إلى زعزعة الإستقرار في المنطقة، جعل تركيا تتخلى عن البعد الإديولوجي في سياستها الدولية لصالح البعد الإقتصادي الذي يحقق مصالحها ويضمن أمنها المهدد من المكون الكردي، فأصبحت بالتالي جزءا مكملا من التحالف الأمريكي الروسي الإيراني لحفظ الأمن والإستقرار في منطقة الشرق الأوسط وآسيا، ما ينعكس إيجابا على الأمن الأوروبي كذلك.
هذه المعادلة الجديدة خلقت فراغا إستراتيجيا كبيرا على مستوى ما كان يعرف بالمحور “العربي السني”.. لهذا السبب تخلت السعودية عن التركي واستبدلت الباكيستاني بالمصري والأردني في محاولتها الجديدة لخلق ما تسميه بـ”جيش محمد” من 50 ألف مقاتل، لمواجهة الفزاعة التي خلقتها وسمتها التهديد “الشيعي” الإيراني وخطر تمدده في المنطقة العربية. اليوم لم يعد هناك شيىء إسمه عالم عربي، هذا الصنم انهار وانتهى، لكن لأمريكا تصور آخر لتعديل موازين القوى في الشرق الأوسط يمر حتما عبر القطب “الإسرائيلي”.
المحور الإسرائيلي – العربي الهجين..
بقدر ما هناك إتفاق بين الأمريكي والروسي حول ضرورة الحفاظ على أمن واستقرار إسرائيل، هناك إختلاف جذري مع الإيراني حول هذه المسألة الشائكة، حيث تعتبر إيران وحلف المقاومة عموما أن قضية “الكيان الصهيوني” لا تدخل في إطار الخلاف السياسي الذي يمكن تسويته، بل يتعلق الأمر بخلاف معقّد يختلط فيه السياسي بالعقائدي، وأن حله لا يمكن أن يكون إلا في إطار رؤية فلسطينية وعربية وإسلامية موحدة. لذلك فستضل المناوشات العسكرية قائمة في المنطقة في إنتظار تبلور مثل هذه الرؤية التي تضمن للمكون الفلسطيني والعربي حقوقه المشروعة في أرضه (البعد السياسي)، وتضمن للمكون الإسلامي والمسيحي حقه في مقدساته في أرض الحرب والسلام (البعد العقائدي).
وبسبب ما يمكن أن تشعر به إسرائيل من تهديد، إرتأت الإدارة الأمريكية اللعب على الهاجس الأمني الخليجي، فأسست لما أصبح يعرف اليوم بالتحالف “السرّي” الذي لم يعد سرّيا بين إسرائيل ومشيخات الخليج بعد أن كشفت تفاصيله صحيفة ‘الصانداي تايمز البريطانية اليوم (الإثنين)، ما دفع بالمملكة الوهابية لإصدار بيان تكذيب رسمي، تنكر فيه جملة وتفصيلا أية علاقة تربطها بإسرائيل.. لكن، من يصدّق السعودية وبندر بوش وأمراء العهر والبورديل في السعودية وقطر والبحرين حوّلوا تل أبيب إلى مزار مقدس لهم.
ومن المعروف اليوم، أن السعودية والإمارات وإسرائيل ركبوا الثورة المصرية الأخيرة على “الإخوان” لتوسيع الحلف الصهيوعربي الجديد المرشح للعب دور الدفاع عن الإسلام “السلفي الوهابي” ضد الإسلام “الشيعي”. ألم يقل سماحة السيد أن رئيس وزراء الكيان الصهيوني ‘بنيامين نتنياهو’ تحول إلى خبير في الإسلام السياسي، يْنظر بمسقبل الصراع السني – الشيعي في المنطقة؟.. هذه حقيقة قائمة جاء كلام السيد ليؤكدها.
ووفق هذا السيناريو الجديد، يتم “نظريا” خلق نوع من توازن القوى في منطقة الشرق الأوسط، من دون الإعتماد على المضلة الأمريكية للتدخل كلما حدث طارىء بين دول المنطقة. وقد كان الرئيس ‘أوباما’ واضحا عندما رفض إمضاء تعهد للأمير ‘سعودي الفيصل’ على هامش إجتماعات نيويورك الأخيرة، تتعهد بموجبه الولايات المتحدة بحفظ أمن السعودية ومشيخات الخليج. وحديث ‘أوباما’ عن عدم تخلي الولايات المتحدة الأمريكية عن حلفائها يعني بوضوح، مساعدتهم على الإلتئام في هذا الحلف الجديد ليتولوا الدفاع عن أنفسهم دون حاجة لتدخل أمريكا مباشرة في أية حرب مقبلة.. لقد انتهى عهد التدخل الأمريكي المباشر في الصراعات المحلية والإقليمية، وعلى الجميع بعد الإتفاق الروسي الأمريكي الإعتماد على نفسه وما ملكت يمينه من قوة.
إن ما نشهده اليوم من تحالف سعودي، إماراتي، مصري، أردني، إسرائيلي، يدخل في صلب هذا التوجه. ودخول الروسي على خط التسليح العسكري المصري بتمويل سعودي لا يعني أن مصر استبدلت أمريكا بروسيا، هذا وهم لا يقول به إلا من لا يفقه في أبجديات السياسة الدولية، دخول الروسي جاء بمباركة أمريكية، كما أن توجه العراقي للتسلح نحو روسيا مؤخرا كان بمباركة أمريكية بسبب عرقلة الكونجرس الأمريكي لصفقة السلاح الأمريكية العراقية خدمة لمصالح إسرائيل. وهذا معناه أن الإدارة الأمريكية أصبحت اليوم تتجاوز قيود الكونجرس الذي يتحكم في توجهاته اليهود الصهاينة والمسيحيين الصهاينة، وتركز على الصفقات الكبرى التي تخدم المجال الإقتصادي، ما سيجعل لوبي مصانع السلاح الأمريكي ضحية للتدخل الصهيوني السافر في السياسة الداخلية الأمريكية بعد إن إستفادت منه لعقود طويلة مضت.
هذه “ثورة ناعمة” يقوم بها الرئيس ‘أوباما’ ليحدث تغييرا على هذا المستوى الخطير والحساس، بعد أن أدرك أن سبب إنهيار إقتصاد أمريكا وتراجع قوتها وانهيار سمعتها في العالم يعود بالأساس إلى التأثير الصهيوني في القرار السياسي الأمريكي الداخلي، لدرجة لم يعد معها واضحا حدود الأمن القومي الأمريكي من الأمن القومي الإسرائيلي.
وبموازات سياسة “ما حك جلدك مثل ظفرك” التي فهمها رئيس الوزراء الصهيوني ‘بنيامين نتنياهو’ وعبر عنها قبل أسابيع بمقولة مستوحاة من التوراة “إذا لم أكن لنفسي فمن يكون لي”، يراهن الرئيس ‘أوباما’ على أن تكون لشعوب الشرق الأوسط وفق الإصلاحات الديمقراطية الجديدة المقرر فرضها في الخليج، الكلمة في مستقبل الأمن والإستقرار في المنطقة، بدل أن يظل قرار السلم والحرب في يد حفنة من الأمراء المغامرين الذين يتصرفون وفق أهوائهم ومن منطلق أحقادهم..
اليوم لم يعد من المعقول أن تقبل واشنطن على نفسها إملاءات حفنة من أثرياء الخليج لما يجب وما لا يجب عليها فعله سواء في سورية أو إيران أو غيرهما. هذا معناه، سعي واشنطن لإضفاء نوع من العقلانية على القرارات الإستراتيجية المتعلقة بمستقبل الصراع بين دول الشرق الأوسط على المدى المتوسط والبعيد، من دون أن يمنع ذلك من نشوب حروب محلية محدودة ومتحكم بها في المدى المنظور، مثل ما يحدث في اليمن بين السلفيين والحوثيين، وما يمكن أن يحدث في مناطق أخرى بين دول المنطقة، قبل أن تستقر صورة الوضع الإقليمي الجديد.. هذا من طبيعة التحولات الكبرى في تاريخ الدول والشعوب.
لكن السؤال اليوم بالنسبة لمصر خصوصا هو التالي: هل يقبل الشعب المصري العظيم بحكم العسكر الذي يدّعي أنه سيكون أمينا على ثورة الشعب، في الوقت الذي يتحالف فيه مع أبشع نظام في العالم (السعودية) بسبب حفنة من الدولارات، ويرفض إعادة العلاقات مع سورية، ولا يجرأ حتى التقارب من إيران، ناهيك عن إستحالة إقدامه على تعليق إتفاقية الذل والعار مع الكيان الصهيوني الذي تحول اليوم بقدرة قادر إلى حليف إستراتيجي في مواجهة محور المقاومة والتحرير؟…
الجواب بسيط، ونجده في ما نشرته صحيفة ‘يديعوت أحرونوت’ الصهيونية اليوم الإثنين حيث يقول الكاتب ‘سمدار بيري’ في مقال له بعنوان “مصر تترنح على مسار لغم متفجر بين السياستين الامريكية والروسية”: “لكن النكتة الأحدث، أطلقت منذ الآن لحية لأسبوعين: يتحدثون عن الدستور الجديد الذي يأتي ليطرح نموذجا واعدا من الديمقراطية وحقوق الانسان في مصر، ويعد بولايتين للرئيس. ولاية أولى في القصر، و ولاية ثانية في السجن. وكلّفت هذه النكتة غاليا النجم التلفزيوني المصري ‘باسم يوسف’ الذي يدير برنامجا ساخرا حطم ارقاما قياسية في المشاهدة، ليس فقط في مصر بل وفي كل ارجاء العالم العربي”.
بعض المتهكّمين يشرحون التحول المصري بالقول: “إن مصر تصعد على مسار درب الخيانة، من جارية أمريكية تلقّت ركلة قويّة على مؤخّرتها الكبيرة، الى جارية روسية في حفّاضات تْصدر رائحة نتنة تزكم الأنوف” (والتعبير لمصريين على الفيسبوك).. وبعبارة أخرى، هل مليارين من الدولارات أو أكثر تدفعها مملكة الشر الوهابية لتسليح مصر التي باع العسكر شرفها لأمراء الزيت في الخليج، ستجعل روسيا تبيع حليفها الإيراني لصالح ترجيح الكفة العسكرية المصرية؟..
على الإنسان أن يكون غبيا لتصديق مثل هذا الهراء…
وخلاصة القول ياسادة يا كرام، أن النكتة في أرض الكنانة أبلغ وقعا وأصدق نبئا من أي تحليل أو تعبير.. فانتظروا ثورة ثالثة قادمة لا محالة، لكن بعد تنصيب “السيسي” فرعونا جديدا لمصر وقضائه سنة على الأقل على رأس سدة الفساد والإستبداد في البلاد، ليكون مصيره كمصير أسلافه “مبارك” و “مرسي” المنعّمين في غرف محروسة وراء القضبان بعيدا عن نور القمر وضوء الشمس..
فعن أي عودة لدور مصر القومي والعربي يتحدث الطيبون؟… لحسن الحظ أن شعب مصر أصبح محترف ثورات.
أحمد الشرقاوي- بانوراما الشرق الأوسط