في شهر رمضان من كل سنة ولأكثر من نصف قرن مضى، تجوب شوارع المدينة القديمة بسوسة، شرقي تونس، عربات بيع الحلوى البيضاء المزينة بالفواكه الجافة، أو ما يحلو أن يطلق عليها سكان الساحل التونسي بـ”النوقا”.
“النوقا” حلوى ناصعة البياض مزيّنة بالفواكه الجافة المقلية أو ما يسمى محلياً بـ(المكسرات)، ويحضّر هذا النوع من الحلوى من السكر وعصير الليمون وبياض البيض، وتزيّن بالـ”جلجلان”(السمسم) المحمص، أو اللوز، أو خليط من الفواكه الأخرى، كالبندق والفستق.
يقصد الزبائن من كل البلدات المجاورة سوسة ليقفوا أمام العربات البيضاء لاقتناء كل ما طاب من “النوقا”، التي تميز المدينة عن غيرها من مدن تونس.
قد تجد نفسك عندما تزور المدينة العتيقة في الطريق المؤدية إلى تلك العربات بجانب مسجد “الحنفية”، أو مرورا من “سبط الظلمة”( ممر مسقوف)، المؤدي إلى دكاكين بيع المصاغ، وتسمع من بعيد طقطقات لأدوات التي تقطع الحلوى البيضاء، وتقسمها إلى قطع صغيرة.
وخلف تلك العربات يصطف الباعة صفا واحدا، كل منهمك بزبائنه، يزن له كمية من الحلوى حسب طلبه، فمن الزبائن من يشتري لأهله بعضا من حلوى يتلذذ بها الصغار والكبار على حد سواء في سهراته الرمضانية، و منهم من يشتري كميات يهديها لأقاربه بمناسبة الأعياد.
هذه الحلوى “اقترن بياضها بصفاء القلب، واتصل مذاقها بحلو العيشة، وحسن العشرة بين الأزواج”، بحسب ما يروّج لها بائعوها، لذلك يصر كل من يزور أهله في الأيام الأخيرة من رمضان أن يصطحب معه شيئا من هذه الحلوى، لتغدو تقليدا دأبت عليه الأسر في الساحل( تسمية تطلق في تونس على محافظات سوسة، والمنستير، والمهدية، شرق تونس، وهي مطلة على البحر).
فارس غنيم، أحد باعة “النوقا” ورث المهنة عن أبيه، حدّث مراسل “الأناضول” عن تاريخ صنع هذه الحلوى، التي تعود لأكثر من ستين سنة، حيث يقول إن أحد أجداده يدعى “عامر غنيم” ابتدعها أواسط القرن الماضي.
ومضى قائلا “كان جدي يجلس هنا في هذا المكان ذاته، يضع طاولة قصيرة، عليها خشبة، ويحمل صدرية معلقة إلى عنقه، ويضع قطعا من هذه الحلوى أمامه، ويبيع بعض الكيلوغرامات في كل يوم من شهر رمضان”.
وأضاف غنيم “اعتاد أهل المدينة طعم هذه الحلوى، ودخلت كل بيت هنا، وصارت تقليدا، هذا ما رواه لي أبي عن جدي، وهذا ما سنرويه لأبنائنا”.
أما الهادي، أحد سكان مدينة سوسة العتيقة، فقد روى لنا مشاهداته أيام الطفولة، لمّا كان يشاهد الحاج “عامر غنيم” يجلس أمام هذا الجدار(مشيراً بيده إلى جدار أمامه)، أواسط السبعينات، وقد بدأت حينها تزدهر تجارته، خاصة عندما انضم إليه أبناؤه، يبيعون معه “النوقا”، فيشهد المكان ازدحاما في “ليلة القدر” على سبيل المثال، واليوم الذي يسبق العيد، فلا ترى غير طوابير من الزبائن، ومع مرور الزمن توارث الأبناء المهنة عن أبيهم، وتعددت عرباتهم، وقد حافظوا على خصائص الحلوى نفسها، من حيث المكونات.
قيس الرخيص، أحد المشتغلين في صناعة هذه الحلوى، تحدث لمراسل “الأناضول” عن طريقة صنع “النوقا”، التي تطورت بمرور الزمن، حسب قوله، ويضيف”كان الحاج عامر يصنعها بطرق بسيطة وتقليدية، كان يضع السكر وعصير الليمون وبياض البيض في وعاء نحاسي كبير على الموقد في درجة حرارة عالية، وكانت أسرته تعينه على الخلط يدويا، حتى يتكثف السائل، ثم يضعونا على قطعة من القماش، ريثما تبرد الحلوى، ليجري بعدها تقطيعها وبيعها”.
وأردف قيس قائلا “مع الزمن تطورت طرق صناعة النوقا، فصار الوعاء النحاسي أكبر، وتخلط مكونات الحلوى بمحرك آلي، كما تطورت كميات الإنتاج لتصل إلى أطنان خلال شهر رمضان المبارك، كما يحفظ المخزون في ثلاجات كبيرة، ولفترات مختلفة قد تزيد عن سنة”.
وبحسب رصد مراسل “الاناضول”، فإن حلوى “النوقا” يختلف سعرها باختلاف مكوناتها فالمزينة بالجلجلان(السمسم)، سعرها حوالي 14 دينارا تونسيا للكيلوغرام الواحد(حوالي 7 دولار)، في حين أن تلك المزينة باللوز يبلغ سعر الكيلو غرام 22 دينارا(حوالي 11 دولار)، أما المرصعة باللوز والفستق والبوفريوة(البندق)، فإن سعر الكيلو غرام الواحد يتجاوز 32 دينارا(حوالي 16 دولار).
ويعود سر غلاء هذه الحلوى إلى ارتفاع أسعار الفواكه الجافة المقلية في السوق التونسية.
مدينة سوسة، تكشف بهذه الحلوى البيضاء المرصعة، عن خصوصية لها تضاهي “المقروض” القيرواني(القيروان)، و”المخارق” الباجية (باجة، شمال غربي تونس)، حتى صار الوافدون على الساحل يزورون المدينة العتيقة لكي يحملوا معهم شيئا من “النوقا”، ذات الخصوصية الساحلية صنعا ومذاقا، رغم انتشار هذا النوع من الحلوى في أماكن أخرى داخل البلاد وحتى خارجها.
سوسة(تونس)/ ماهر جعيدان/ الأناضول