بقلم يامن أحمد حمدي
و كم ذا بـ”تونس” من المضحكات و لكنـّه ضحك كالبكاء حكمة من حكم أبي الطيّب المتنبـّي أسوقها مع تعديل صغير من “مصر” إلى “تونس”، لأعبّر عن حالة الضحك المبكي أو البكاء المضحك الذي تعيشه تونس اليوم، إذ يوجد نوع من الشبه بين تونس غدًا ومصر بالأمس: الاختيار الخطير والإجباري الذي اضطرّ إليه الناخب المصري، في الانتخابات الرئاسيّة الفارطة، بين الأسوأ والأسوأ أي بين محمّد مرسي عن الإسلاميّين الجدد وأحمد شفيق عن الليبراليّين القدامى أو بين مستقبل مجهول وماضي مغرق في الفساد، في حين سقط الأحسن والأشرف والأنظف حمدين صباحي.
قد يجد المواطن أو الناخب التونسي نفسه غدًا، إذا ما نزلت إشارات ربّانيّة للقيام بانتخابات، قد يجد التونسي نفسه مورّطا بين خيارين أحلاهما استبداد وشرّ لابدّ منه: إمّا أن يختار “الشيخ” أو يضطرّ إلى “العجوز” حين يتراجع الأنظف وطنيّة ويسقط الأكثر نضاليّة… ولأنّ التوضيح ضروري تلافيـًا للقيل والقال فإنّ الشيخ هو المرشد التائه في التاريخ الضائع في الجغرافيا راشد الغنوشي، أمّا العجوز فهو سليل البلديّة نسخة غير مطابقة للأصل للحبيب بورقيبة الباجي قايد السبسي… للشيخ والعجوز سمات مشتركة وخصال متقاربة، فقد عادا بعد 23 سنة: أحدهما من غياب عن الوطن والآخر من غيبوبة وطنيّة، وكلاهما تقلـّد مناصب سياسيّة“شرفيّة نوفمبريّة”، وكلاهما عاد كما ذهب بنفس الصحّة البدنيّة والقدرة الذهنيّة ولكن بنفس تفكير ما قبل الغياب أو ما قبل الغيبوبة، وكلاهما أغفل أنّ مياهًا كثيرة جرت تحت الجسور التونسيّة وأنّ الأمس ليس اليوم… كلاهما عاد بأفواج من المهاجرين القادمين من المنافي أو من غياهب النسيان، وجيوش من الأنصار من أهل البيت التجمعيّ القديم، وجحافل من المنافقين الصالحين لكلّ زمان ولكلّ نظام ولكلّ حزب، وتشكيلة من الوزراء ما تطيب له النفس، وكلاهما يتمترسان وراء مثقفين وجامعيّين ومنظرين ورجال أعمال ورجال اقتصاد وشعراء… كلاهما يطلبان حكم شعب لم يعرفاه ولم يعرفهم…كلاهما يطلبان حقّ تونس باطلا: “الشيخ” يظـّن أنّ تونس في حالة نوم ديني فيستنهضها… و”العجوز” يظن تونس في حالة ضياع فيناديها… كلاهما عرف نفس المسار ولكن بشكل عكسي فـ”الشيخ” جعل من حزبه حكومة و”العجوز” حوّل حكومته إلى حزب… و”الشيخ” سطـّر برنامج الحزب من أجل الهيمنة على الدولة و”العجوز” زرع الدولة برجال يدعمون حزبه… و”الشيخ” تأتيه الرّسل والوفود من الشرق و”العجوز” يسافر برسائل التودّد نحو “الغرب“.. أجمل ما فيهما أنّ لا أحدهما ذكر الآخر يومـًا علانيّة أو سمّاه باسمه أو هاجمه في شخصه بل أوكلا مهمّة النقد والانتقاد والشتم لناطقين مكلفين بالهجوم الكلامي، فلا يذكران بعضهما إلا تلميحًا وإيحاءًا ولا يلتقـيان في أيّ محفل أو في أيّ اجتماع أو في أيّ قاعة انتظار شرفيّة في أيّ مطار أو في أيّ بهو في أيّة سفارة أجنبيّة… وأسوأ ما فيهما أنـّهما لا يذكران “ثورة الشباب” إلاّ عندما يعتبر “الشيخ” أنّ “العجوز” “ارتداد عن الثورة” وأنـّه مكـلـّف بقدرة ما ورائيّة إلاهيّة للسير بثورة الشباب نحو أهدافها، أو عندما يؤكـّد “العجوز” أنّ “الشيخ” “حياد عن الثورة” وأنـّه مكلـّف برسالة حداثيّة واقعيّة للسير بشباب الثورة نحو مستقبله… أمّا قمّة الضحك فتكمن في لقاءاتهما التي تثير الجدل في المغزى والمكان والزمان والغايات والكلام الذي دار بينهما، بين من يراها ضحكـًا على الذقون ومن يراها ذرًّا للرّماد في العيون ومن يراها لعبـًا من وراء الظهر ومن يراها رقصـًا بالقضيّة…، لكن الأهمّ أنـّهما تركا الشعب كلـّه بمعتصميه وجبهته و يساره في التسلل… ولا عزاء للمغفلين في السياسة ولا عزاء في وقود الثورة ولا عزاء في حطب الاحتجاجات… كلّ ما سبق هو الضحك المبكي، أمّا البكاء المضحك فهو أكثر من أن يُحصى: مثل أنّ العديد من المواطنين المفترضين قد ألغوا العقول وارتموا في أحضان “الشيخ”، وأنّ الكثير من الناخبين الافتراضيّين قد أقفلوا أبواب الذاكرة و اقتربوا من “العجوز”،… وأنّ عددًا من المثـقـفـين والجامعـيّين قد اصطفوا وراء “العجوز” في حين اختار مثقفون وجامعيّون آخرون (ولكن بلحية خفيفة !!) الجلوس مقرفصين في حلقة “الشيخ”، وأنّ بعض سماسرة الإعلام “النزيه” وبعض تجّار الأقلام “الحرّة” قد تفرقوا بين مكبـّر ومزغـرد ومنشد ومدّاح وهجـّاء، وأنّ الأجدر بتونس مغيّب وأنّ الأحقّ بالثورة مقصيّ… ولا عزاء لنا في هذا الامر كلـّه سوى أن نضحك أو نبـكي على تونس…