بقلم يامن أحمد حمدي
شاءت الصدفة، غير السعيدة على ما أظنّ، أن أجول وأصول في بعض أروقة المجلس الوطني التأسيسي، في محاولة لمعرفة بعض ما يجري حقيقة في قاعات هذه المؤسّسة الدستوريّة التشريعيّة الشرعيّة العليا الأعلى في البلاد، بعيدًا عن ما أشاهده من سجال وعراك وإغارات وافتكاك وابتذال على شاشات الإعلام وصفحاته، تجوّلت وجلست ودخـّنت (أسوة ببعض النوّاب تحت إشارة ممنوع التدخين التي لا يحترمها صنـّاع القانون ومهندسو الدستور)، وسمعت ورأيت في صمت وحزن وأسى وربّما قهر، تحت وقع الصدمة التي لم تكلـّفني أكثر من ساعة لمعرفة أنـّنا نعيش أزمات وندور في حلقات مفرغة من المتاهات ضيّعت الأهداف والآمال والطموحات التي فتحتها الثورة وأغلقها حماة الثورة.
وإذا كان لابدّ من الوصف فماذا سأصف؟ وإذا كان من نقل ما رأيته فماذا أقول؟ سوف أصف وسوف أنقل،… و لكن عن ماذا أتحدّث؟؟
هل أتحدّث عن الجنود المرهقين بملابسهم الخضراء المهترئة في شاحناتهم المركونة عند الباب؟ أم عن رجال الأمن المنهكين الذين يترصّدون الظلال، هربًا من الشمس الحارقة، تحت الأشجار الذابلة في حديقة المجلس؟ أم عن إداريّي المجلس الذين يدورون بين كلّ المكاتب وكلّ قاعات “الحوار” وصالونات “الاجتماع” حاملين نفس الأوراق ونفس الحقائب؟
هل أتحدّث عن الصحافيّين الذين يملؤون البهو بكاميراتهم وحواسيبهم، وقد أدمنوا التوافد كلّ يوم من أجل الأنترنات المجانيّة، ينفقون ساعات نهارهم في الإبحار في الفايسبوك بحثـًا عن فضيحة كلاميّة وسبق صحفي، وينقـّبون أخبار المجلس وهم بداخله؟
هل أتحدّث عن محدثي النعمة والقطط السّمان الذي نقلتهم الأجور المرتفعة من حضيض المجتمع وفقره (الاجتماعي والثقافي أيضا وربّما العلمي) إلى طبقة “أثرياء الثورة”، وهم يتنقلون في ملابسهم الفخمة غير المنسجمة مع الأجسام “المتكرّشة”، والأجساد المترهّلة والوجوه المصبوغة ب«المكياج»، مع مراعاة الفوارق بين اللحى والوجوه الحلقية بعناية، والفوراق بين السفور والتحجّب، والفوارق بين طول الجلباب و قصر الروب؟
هل أتحدّث عن النوّاب الذين يتبخترون في الرّواق، في صلف غبيّ، طوال اليوم بين الأرائك المهترئة من كثرة الجلوس عليها، وهم يمازحون أعوان المجلس، أو يقهقون مع الصحافيّين (الذين هم بالمناسبة أكثر من النوّاب)، أو يتعبون نساء التنظيف بكثرة ما يلقونه من رماد السّجائر ونتف الأوراق؟
هل أتحدّث عن النوّاب الذين يقفزون بين الكراسي طيلة اليوم جيئة وذهابًا، يضيّعون الوقت بالهواتف والثرثرة والنميمة، والهزل بينهم مع لباس قناع الجديّة أمام الكاميراوات، وملء جداول أوقاتهم الفارغة بالمواعيد مع البرامج الإذاعيّة والتلفزيونيّة واللقاءات في أفخم المقاهي، والجولة على مختلف مشروبات مشربة المجلس، في انتظار فطور منتصف النهار بمطعم المجلس، قبل العودة إلى المشربة والثرثرة؟
هل أتحدّث عن هوايتهم المشتركة: إلقاء النكت السمجة، اختلاق الضحك بصوت عال، التجاهر بالاختلاف والتسرّي بالودّ فيما بينهم، توزيع الابتسامات في كلّ اتجاه، الجلوس على طرف الأرائك كالأطفال (وإلى الآن لم أفهم المغزى من هذا الإصرار على الإقعاء على طرف الأريكة حتى وإن كانت فارغة !!)، كلماتهم المتشابهة حول الثورة والشعب والمستقبل والديمقراطيّة والعدالة و…و..،
هل أتحدّث عن الحوارات التي سمعتها، في كلّ المواضيع: عشاء الليلة الفارطة، لباس اليوم، برنامج الغد، طرائف الزملاء، حالة الطقس، حالة السيّر،..إلاّ موضوع الدستور وتوطئته وفصوله وحريّاته وحقوقه؟
هل أتحدّث عن النائب الذي ينافق زميله بالسلام والحبّ ويمزّق ظهره بالنميمة ما إن يلتفت مغادرًا؟ هل أتحدّث عن النائب الذّي هلـّل لرؤية زائر من جهته طالبًا بالدعاء أن يكثره وأمثاله في تونس.. قبل أن يلتفت إليّ في حذر خشية أن أكتشف عنصريّته الجهويّة؟ هل أتحدّث عن نائب يغادر قاعة الاجتماع متسلّلا إلى حيث يقضي شؤونه الخاصّة هربًا من نقاشات لا يتقنها ودستور لا يتقن حتى نطقه؟ هل أتحدّث عن النائب المتصابي الذي يحلو له اختلاق أيّ موضوع مع أيّ صحفيّة تتجوّل في المكان في لهفة غريبة؟
هل أتحدّث عن النائب الشابّ الذي لا همّ له سوى تصفيف شعره كلـّما مرّ أمام مرآة أو شبّاك، وهندمة ملابسه كلّ دقيقة؟ أم أتحدّث عن الكهل متجهّم الوجه دائمًا كأنـّما العبوس فضيلة، الغاضب دائمًا كأنـّما الغضب فريضة؟ المسرع دائمًا بلا هدف؟ أم أتحدّث عن الشيّخ الذي ضمن تقاعدًا مريحًا فاكتفى بالمشاغبة وحرق أعصاب محاوريه بكلّ أنواع الجدال العقيم؟
هل أتحدّث عن النائبة المتحرّرة، والتي لا تخشى في الحريّة الفرديّة لومة لائم، وهي تخفي سيجارتها تحت الطاولة كلـّما مرّ وجه غريب عنها؟ هل أتحدّث عن النائبة المحافظة التي تستجوب كلّ زميلة لها عن مدى جمال لباسها المحتشم وابتداعها في لفّ الحجاب حول رأسها بطريقة جديدة مبتكرة؟
أرى كلّ ذلك و تتقاذف بخيالي كلّ الصور خارج الأسور المسيّجة للمجلس والأسلاك الشائكة حوله: فتى ينتهز فرصة مظاهرة للنهب وإرضاء نفسه بامتلاك ما يحلم به طول حياته، مراهق يقطع الطريق لسلب المارّة وربّما قتلهم من أجل تحصيل ثمن علبة سيجارة وقارورة خمر آخر الليل، كهل يعتصم مع أبنائه أصحاب الشهائد بحثـًا عن عمل يحمي شبابهم الضائع وتضمن شيخوخته الصعبة، شابّ يهترئ
في مقهى يفكـّر ولا يفكـّر ويتكلـّم ولا يقول شيئـًا، أمّ تحلم بعودة ابنها الذي أبحر شمالاً للعمل أو شرقـًا للجهاد، موظـّف يفكـّر خلف مقعده في تطويع أجرته لأسعار العيش، فلاّح يتضرّع الماء من السماء والدعم من الحكومة والسعر المناسب من الشاري، عامل أرهقه ربّ عمله بالعمل فيرهقه بالاعتصام والإضراب، مواطن يمشي في الطرقات يكلـّم نفسه من هموم حياته ومآسيها، مواطن آخر يهرول بحذر غير آمن على نفسه من مواطن آخر يمشي قربه، مواطن آخر أتعبته الحياة فركن للحانة يبذّر دنياه أو أطال لحيته طمعًا في آخرة أقلّ تعبًا…
أرى كلّ ذلك وأنا أتذكر بالتفصيل نصّا وصفيّا لمجلس العموم البريطاني، في منتصف القرن التاسع عشر، وانقلترا تشهد تحوّلات سياسيّة وفكريّة عميقة نتيجة جهد (وإن شئت جهاد) السياسيّين ونوّاب الشعب الانقليزي، إليكم النصّ ولكم المقارنة والتفكير :” في مجلس العموم من الساعة العاشرة صباحًا حتـّى منتصف الليل…القاعة مكتظـة.. ولم يكن للنوّاب الجالسين على المقاعد بضيق و لو طاولة للكتابة إذ كانوا يأخذون الملاحظات على ركبهم ويشربون كأس ماء يضعونه في نفس المكان الذي يجلسون عليه…وكان كلّ واحد يتكلـّم واقفـًا في مكانه، بأسلوب طبيعي وبقليل من الحركات، حقـّـًا إنّ القاعة ضيّقة، غير ملائمة وغير مناسبة لصحّة الإنسان إذ هي شديدة الحرارة في الصيّف وخاصّة أثناء الحصص الليليّة…ولكن هذه البساطة تدلّ على أنّ هؤلاء الرّجال قد ألغوا تشريفاتهم لإنجاز مهامّهم بسرعة..” (تان: ملاحظات عن انقلترا، نشرّات هاشات).. وكما قلت إليكم النصّ ولكم المقارنة والتفكير..
وتصبحون على وطن.