هدى القرماني
أحي الاتحاد الجهوي للشغل بسوسة، يوم الجمعة، الذكرى 76 لأحداث 26 جانفي 1978 أو ما يعرف بـ “الخميس الأسود” مستعرضا السياقات التاريخية والعوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي كانت سببا في إقرار الاضراب العام في كامل البلاد مع تسليط الضوء على الوقائع التي شهدته مدينة سوسة بوصفها محطة هامة في تلك الأحداث.
وحضر هذا الملتقى الذي ترأسه الكاتب العام الجهوي للشغل بسوسة، قاسم الزمني، رؤساء الفروع الجهوية للمنظمات الوطنية من الاتحاد الجهوي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، علي بن يحي، وعميد الفرع الجهوي للمحامين بسوسة، الصحبي بن عبد الجليل، والنائبة الجهوية للاتحاد الوطني للمرأة، نجوى المستيري، وممثل عن الفرع الجهوي للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان وكذلك عبد الجليل بوراوي أحد المحامين الذين رافعوا عن الموقوفين في تلك الأحداث بالإضافة إلى عدد من النقابيين الذين شاركوا في هذه المحطة.
واعتبر المؤرخ والأستاذ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بسوسة، عادل بن يوسف، خلال مداخلته بهذه المناسبة، أنّ “هذه الذكرى مأساة تأبى النسيان وتفرض نفسها بمرّها وحلوها وبمعاناة عائلات النقابيين ومحاكمات الموقوفين في كامل أنحاء البلاد” على حدّ قوله.
وأضاف أنّه لابد من الإشارة إلى أنّ “الخميس الأسود” أزمة مزّقت المركزية النقابية وكانت انعكاساتها نفسية، اجتماعية ومادية لاسيما على عائلات الموقوفين خاصة وقد تمت محاكمة ما يقارب عن 1200 نقابي في كامل البلاد، الأمر الّذي سيترك شرخا كبيرا في الذاكرة الجماعية حسب تعبيره.
السياقات التاريخية وجذور هذه الأزمة
وصف بن يوسف شهر جانفي بـ “جانفي العظيم” وأنّه ليس كبقية الأشهر بسوسة وبتونس عموما مذكرا بأنه يتعلق بذكرى تأسيس الاتحاد العام التونسي للشغل في 20 جانفي 1946 وبأحداث الخبز في 3 جانفي 1984 وأحداث 26 جانفي 1978 وأحداث قفصة في الليلة الفاصلة بين 26 و27 جانفي 1980 وأيضا بـ 14 جانفي 2011 ذكرى سقوط الرئيس التونسي الراحل زين العابدين بن علي.
وذكر المؤرخ أنّ لهذه الأحداث جذور عميقة وأخرى مباشرة. وعن الأسباب العميقة قال بن يوسف لا بد أن نعود إلى سنة 1970 مع تعيين الهادي نويرة وزيرا أوّلا وتغيير المقاربة الاقتصادية في تونس من النظام الاشتراكي التعاضدي إلى النظام الليبيرالي الّذي اعتمد على جملة من التشريعات وفي مقدمتها مجلّة الاستثمار في 1974 وقانون أفريل 1972 الداعم للمؤسسات المصدرة والمساهم في انتصاب شركات أجنبية في البلاد التونسية ودخول الرأسمالية التي اعتبرها البعض رأسمالية متوحشة إذ توسعت القاعدة العمالية بعقود تشغيل هشّ دون ضمانات وتأمين لحوادث الشغل وللمرض مع الطرد التعسفي لعدد من العملة وفقا لرواية بن يوسف.
وتابع أنّ هذه التجربة خلقت فوارق اجتماعية بين فئة أصبحت تمتلك أموالا طائلة وقاعدة عريضة داخل المجتمع انكمشت وتقلصت مواردها وهو ما ولّد انفجارا اجتماعيا ترجم في أحداث 26 جانفي 1978.
وارتفعت وتيرة الإضرابات نتيجة السياسة التعاقدية الهشة وتنامي التفاوت الاجتماعي بين الجهات ففي تونس الكبرى مثلت نسبة الاستثمارات 37 بالمائة ونسبة التشغيل 34 بالمائة أما جهة الساحل (سوسة والمنستير والمهدية ونابل وبنزرت) فاستأثرت بـ 44 بالمائة من الاستثمارات وبـ 52 بالمائة من التشغيل فيما بقية الجهات لا تحظى سوى بـ 17 بالمائة من الاستثمارات و14 بالمائة من التشغيل. وهو ما أدّى إلى زيادة البطالة في المناطق الداخلية المهمشة “مناطق الظل”، وبروز ظاهرة الهجرة الداخلية ونشأة الأحياء الشعبية.
ولئن سمح النظام الاقتصادي الجديد باتساع القاعدة العمالية وارتفاع عدد الأجراء إلى 500 ألف عامل سنة 1970 مقابل 150 ألف عامل سنة 1956 وزيادة عدد المنخرطين في الاتحاد من 40 ألف منخرط سنة 1970 إلى 550 ألف منخرط سنة 1977، فعدد الإضرابات قد تطوّر من 150 اضرابا سنة 1970 إلى 301 إضراب سنة 1975 فـ 372 إضرابا سنة 1976 وسجلت سنة 1977 نحو 452 إضرابا، خاصة إضراب النقل الّذي شلّ حركة البلاد.
هذه التحركات العمالية أجبرت الحكومة على ابرام “العقد الاجتماعي أو ما يسمى أيضا بـ “الميثاق الاجتماعي” وكان مهندسه محمد الناصر في مارس 1977 وكان من بين فصوله الزيادة في الأجور إذا ما ارتفعت الأسعار إلى أكثر من 5 بالمائة.
ومع بداية 1977 غيّر الحزب الحاكم من لهجة خطابه تجاه المنظمة الشغيلة وأمينها العام آنذاك الحبيب عاشور الذي أجبرته الهياكل والمكتب التنفيذي للاتحاد على تقديم استقالته من الديوان السياسي وتصاعدت الأمور نحو المواجهة خاصة مع زيارة وفد من الاتّحاد الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي وما راج حول ذلك اللقاء من حديث حول خلافة الرئيس الحبيب بورقيبة.
وبدورها اتخذت المركزية النقابية لهجة تصعيدية نتيجة الزيادة بأكثر من 5 بالمائة في الأسعار خاصة مع نهاية 1977 وأقرت بأنه لا يمكن الإبقاء على العقد الاجتماعي.
لكلّ هذه العوامل سيقرّ المكتب التنفيذي للاتّحاد في اجتماعه أيام 8 و9 و10 الاضراب العام يوم الخميس 26 جانفي 1978 ولهذا سميّ بالخميس الأسود ومنيت محاولات الإثناء عن هذا الإضراب بالفشل حتى أنّ ياسر عرفات تدخّل بنفسه من أجل ذلك ولكنّ الوزير الأول الهادي نويرة رفض مساعدة عرفات بتوفير الأموال من المملكة العربية السعودية لتسديد الزيادة التي طالب بها الاتّحاد.
وما زاد من إصرار المنظمة الشغيلة على هذا الإضراب، حسب رواية المؤرخ، ذهاب الوزير عبد الله فرحات إلى قرقنة لصيد الأرانب و”الحجل” ما اعتبره الأمين العام للاتحاد، الحبيب عاشور، والمنظمة العمالية عموما تحديّا واستفزازا لهم.
كذلك من الأحداث الأخرى التي حسمت في اتّخاذ هذا القرار حادثة نزل القصر في أكتوبر 1977 حين استّل عبد الله المبروك “الورداني” مسدسه وأعلن أنه سيقتل به الحبيب عاشور مثلما قتل به صالح بن يوسف ووصلت هذه المعلومة إلى القيادة النقابية ما زاد من توتر العلاقة مع الحزب الحاكم والدخول إثرها في مواجهة.
وتدخلت على الخط عديد القوى الأخرى الطلابية والسياسية الرافضة لسياسة الحزب الحاكم خاصة مع غياب الديمقراطية داخل الحزب الاشتراكي الدستوري وتكوّنت نواة المعارضة مع تأسيس حركة الوحدة الشعبية بقيادة أحمد بن صالح وكذلك بعث حركة الديمقراطيين بقيادة أحمد المستيري. كما تكونت الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان سنة 1977 واتخاذ كذلك الهيئة الوطنية للمحامين موقفا نقديا من الحزب الحاكم كما جاء على لسان المؤرخ.
وتعرّض المؤرخ كذلك إلى الصراعات التي اعترت الحزب الحاكم وبروز من يطلق عليهم بـ “الصقور” وهم كل من رئيس الوزراء الهادي نويرة ووزير الدفاع عبد الله فرحات والذي استخدم لأول مرة الرصاص الحي في مواجهة الطبقة الشغيلة، بالإضافة إلى محمد الصياح الأمين العام للحزب الاشتراكي الدستوري آنذاك.
وقد أعلن الهادي نويرة، بمناسبة مناقشة ميزانية سنة 1978، انتهاجهم خيار التصلب والقوة كأسلوب لمواجهة الأوضاع.
أمّا الشق الديمقراطي داخل الحكومة فعارض النهج المتصلّب للحزب ولذلك خيّر6 أعضاء الاستقالة كما تمّ إعفاء وزير الداخلية الطاهر بلخوجة واسناد هذا المنصب إلى وزير الدفاع عبد الله فرحات في 23 ديسمبر 1977.
المشهد النقابي والأوضاع في سوسة
يقول المؤرخ عادل بن يوسف إنّ الأجواء في سوسة قبل 26 جانفي 1978 تميّزت بالتوتر وكانت الجهة تجمع قاعدة عمالية هامّة إذ تضم المعامل الآلية بالساحل ” Les AMS ” 1500 عامل والشركة التونسية لصناعة السيارات سوسة “Le STIA” 1200 عامل ونقابة التعليم الابتدائي أكثر من 1000 عامل ونقابة التعليم الثانوي 900 عامل وقطاع الصحة ما يزيد عن 500 عامل بالإضافة إلى القطاعات الأخرى وخاصة جامعة النسيج.
ويشير بن يوسف إلى أنّ الإضراب العام سبقه إضراب واسع شنّه نقابيو الشركة العامة لصناعة النسيج (سوجيتاكس) بقصر هلال يوم 10 أكتوبر 1977 ووجد العمال المضربون مساندة من أهالي القرى المجاورة في كل من صيادة ولمطة وبوحجر والمكنين. ولأوّل مرّة يتدخّل الجيش للسيطرة على الوضع وتمّ اعتقال عدد كبير من العمال والمتظاهرين وأحيلت المحاكمات مباشرة على الاستئناف بتهمة التحريض على الاضراب وتعطيل حريات العمل. وهذا الأمر اعتبره أهالي قصر هلال نقطة سوداء خاصة أمام ما تمثله هذه المدينة من رمزية للحزب الدستوري الجديد.
ولفت المؤرخ إلى أنّ الهيئة الإدارية للاتحاد الجهوي للشغل بسوسة أقرت الاضراب في اجتماعها يوم 9 نوفمبر 1977 احتجاجا على التهديد بقتل الحبيب عاشور وجاءت التعليمات بإعلانها الإضراب العام.
ويواصل المؤرخ أنّه بمناسبة إحياء الذكرى 32 لتأسيس المنظمة الشغيلة التأم اجتماع كبير بمقر الاتحاد الجهوي للشغل ووقع الاعتداء على عدد من النقابيين من قبل مليشيات الحزب وتتالت الهجومات على مقرات الاتحاد بالقيروان وتوزر وتونس وزغوان على مرأى من قوات الأمن ما دفع النقابيين إلى المرابطة بهذه المقرات.
ويذكر المؤرخ أنّ نحو 200 نقابي قد رابطوا بالمقر الجهوي للاتحاد بسوسة من 20 إلى 26 جانفي لحمايته من اعتداءات الميليشيات وتمّ قطع الهاتف والماء ثم الكهرباء عن المقر.
وتحوّل حوالي 3500 عامل في ولاية سوسة يوم 26 جانفي من مقرات عملهم نحو مقرّ المنظمة الشغيلة من نقابات المعادن، الميكانيك، المعامل الآلية بالساحل، الشركة التونسية لصناعة السيارات ونقابات التعليم الابتدائي والتقني والثانوي وقطاعي السياحة والبنوك. وفي الطريق بدأت المواجهات مع أعوان الأمن الذين حاولوا منعهم وتمّ اشعال الإطارات المطاطية والتحم بهؤلاء المتظاهرين، سكان الأحياء الشعبية والطلبة والتلاميذ.
الإيقافات والمحاكمات
دام الاجتماع، وفقا للمؤرخ، كامل اليوم وفي المساء تمّ منع مغادرة أيّ شخص للمكان وبقي أكثر من 200 نقابي داخل المقر وما ميّز هذه المحطة الهامة في تاريخ الاتحاد، حسب المتحدث، حضور العنصر النسوي على غرار منيرة جمال الدين المحضي التي كانت حاملا حينها.
ويتابع بن يوسف أنّه تمت محاصرة المجموعة وتمكن البعض منهم من الخروج ومن ضمنهم عبد المجيد الصحراوي. وتمّ اقتياد 101 نقابي إلى غرفة الإيقاف بإقليم الأمن بسوسة، وهو على بعد أمتار قليلة من مقرّ الاتحاد، ومن بينهم 10 نساء.
وعانى جلّهم من التعذيب في الإيقاف بمن فيهم النساء وتمّ اقتلاع أظافر النقابي محسن الشاوش وتعرضوا، وفقا للشهادات، إلى مختلف وضعيات التعذيب من وضع الدجاجة إلى وضعية الكهرباء والزجاجة البلورية كما منع الأهالي من زيارتهم.
وتوفي الكاتب العام لنقابة البنوك والتأمينات بسوسة، حسين الكوكي، جرّاء التعذيب وكان يعاني من الربو ولكن رفضت السلطات نقله إلى المستشفى فمات أمام الجميع يوم 15 فيفري 1978وفق قوله.
وفي شهادة لعدد من المحامين على غرار الناصر بن عامر والأزهر القروي الشابي عومل النقابيون الموقوفون بأسوء أشكال المعاملة كـ “مجرمي حرب” وفق توصيفهم.
وفي ما يتعلق بالمحاكمة، يروي بن يوسف أنّ وزارة العدل كانت اتخذت قرارا بإعفاء القاضي محمود القروي بتعلّة أنّ الأحكام التي صدرت في حقّ عملة النسيج الذين تمّ ايقافهم بقصر هلال والقرى المجاورة تراوحت بين عدم سماع الدعوى وبضعة أشهر وهو ما لم يعجب السلطة الحاكمة فتم استبعاد القاضي واستبداله بالقاضي الزيتوني يوسف بن يوسف أصيل أكودة.
واعتبر القاضي بن يوسف هذه المحاكمة سياسية بامتياز وكان يشكو من عدّة أمراض فقرّر ترحيل القضية إلى محكمة أمن الدولة وتمّ نقل عدد من الموقوفين إلى سجن 9 أفريل بتونس أين وجدوا الحبيب عاشور في إحدى الزنزانات هناك.
وأحيل النقابيون الموقوفون على الدائرة الجنائية بمحكمة الاستئناف بسوسة بمقتضى قرار الاتهام 72022 المؤرخ في 22 جويلية 1978 بتهمة حمل السكان على مهاجمة بعضهم لبعض بالسلاح، التحريض على حمل السلاح واستخدامه في الطريق العام، مسك مستودع من الأسلحة والذخيرة، تعكير الراحة العامة، الاعتداء على حريّة الشغل، منع الغير من العمل، المشاركة في الاضراب، الإضرار بملك الغير، التحريض على التجمّع طبقا لأحكام الفصول 72، 74، 79 و118 من القانون الجزائي والفصلين 42 و43 من قانون الصحافة والفقرة الثانية من الفصل 20 من قانون 12 جوان 1969 والفصل 31 من قانون عدد 4 المؤرخ في 24 جانفي 1969.
ورافع عدد من المحامين من ولاية سوسة ومن خارج الولاية مجانا عن المتهمين وشملت قائمة المحامين كلّ من رئيس فرع هيئة المحامين عبد الجليل بوراوي، عبد الرؤوف بوكر، حاتم بن رمضان، الصحبي القروي، ناصر بن عامر، محمد الحبيب الكناني، عبادة الكافي، البشير خنتوش، أحمد شطورو، الهاشمي بللونة، عبد الستار بن موسى، رؤوف النجار، عبد الوهاب الباهي، الهادي بوفارس، الأزهر القروي الشابي وراضية النصراوي التي كانت متربصة في ذلك الوقت.
وقد تنقل وفد من الاتحاد العالمي للنقابات الحرّة “السيزل” إلى السجون وبداية من صائفة 1978 بدأت بوادر الانفراج تتضح على إثر التقرير الذي قامت به هذه المنظمة وتمّ الافراج عن نقابي اتحاد سوسة وصدرت أحكام في حقهم بعدم سماع الدعوى رغم بقائهم أكثر من سنة رهن الإيقاف والسجن خلافا لنقابيي تونس وتوزر والقيروان وصفاقس الّذين تراوحت الأحكام ضدّهم بين 10 سنوات والمؤبد، وهو استثناء في تاريخ المحاكمات السياسية وفقا للمؤرخ بن يوسف.
وفي 3 أوت 1980 وتزامنا مع تقبّل الرئيس الحبيب بورقيبة للتهاني بمناسبة عيد ميلاده صدر قرار بالإفراج عن الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل، الحبيب عاشور، مع إبقائه رهن الإقامة الجبرية بمنزله.
هذا القرار لم يحض بقبول النقابيين وطالبوا بسقف أعلى إلّا أنّ الوضع سيبقى على ما هو عليه خاصة مع وقوع عديد الاستقالات من المكتب التنفيذي وسيتمّ لمّ الشمل لا سيما بعد أحداث قفصة، ومحاولة زعزعة النظام، إذ تمّ تعيين الطيب البكوش أمينا عاما، في مؤتمر قفصة أفريل 1980، وعاد التقارب من جديد وطيّ صفحة الماضي كما عاد بن عاشور إلى ساحة محمد علي ولكن الأزمات والعلاقة الصدامية ستتواصل فيما بعد بين الحزب الحاكم والمنظمة الشغيلة في عديد المناسبات الأخرى.