التحصين من الأخبار المضللة و آليات تحرير العقول

ماهر جعيدان

قصة “التحصين” لم تكن حديثة العهد في موروثنا الثقافي و إنما هي قديمة قدم “الغول و العنقاء”  و قصة “البوم وأم الصغار” و روايات السحرة و المشعوذين ، التحصين وصفة دوائية للمصاب في الروح و الفكر يقدمها الرجل النبيل و العجوز الحكيم  لمن يصيبه مكروه التوجيه و السيطرة عبر بث المعلومة الزائفة  .

التحصين وقاية من ضرر و درء لشرور ” الإنس و الجان” بالمفهوم الديني و شفاء من المرض و السقم بالمفهوم الصحي  و أسوار حماية من تلاعب بالعقول في المفهوم الفكري  و كشف عن أمر قد خفي و عدو مستور بالمفهوم الحربي و استغلال عاطفي و حماية من فكر تآمري بالمفهوم النفسي .

على هذا النحو كانت الإنسانية تعيش بين ثنائية الحقيقة و التزييف منذ بدء الخليقة و تحتوي التضليل قبل أن يتفشى فيصيب الحياة المطمئنة و يهز كيان الحقيقة في مقتل فينتشر الظلام و يخبو النور في عوالم كاذبة و يتلبس الحق بالباطل.

التحصين مبحث قديم تجدد اليوم مع تطور المجتمع و آليات تواصله و تعدد وسائطه الإعلامية و انقسام المؤثرين فيه و تعدد الأقطاب  و الخضوع إلى منطق القوي و الضعيف و اختلاف وسائل الهيمنة انطلاقا من الدوائر الاجتماعية الضيقة وصولا إلى دوائر الاستقطاب العالمي بين الشعوب و الدول .

و في كل ذلك اختزلنا مفهوم “الحقيقة و الكذب” فكلاهما قوة جذب و دفع نحو سياسات و مصالح محددة يدفع بها طرف نحو التصديق أو التضليل من أجل غاية أو فكرة تخدم منشأها و تستأثر بعقل مستهلكها .

كان الأولون يتحصنون من الشرور و التضليل  بالاستعانة بالحجة الغيبية و آخرون يدرؤون الكذب و التضليل بالحجة العقلية و كانت الفلسفة عين الحكمة فجابه سقراط الفيلسوف السفسطائيين بعلم المنطق، و قيل في اللغة نفسها تكذب لأنها لا تهب المعنى الكامل لما يقوله الإنسان، وبما أنها تكذب فلا يمكن للإنسان أن يكون صادقًا بالتمام والكمال”وفق الأستاذ عبد العزيز شبيل .

 

التضليل و اسكات العقل المستنير

 

أما اليوم فتعدد الكلاميون و المتكلمون و تعددت وسائطهم فانتشروا بين الشفا هي و المكتوب و السمعي و البصري و الالكتروني و اختلفت الوسائل الإعلامية و تشعبت طرق التواصل في خدمة ” المعلومة ” التي صنفها البعض انطولوجيا و فسرها آخر انثروبولوجيا و صنفها آخر طبقيا و عالجها آخر سياسيا فصارت ” الحقيقة” حقائق و التفحص آلية بحث و التحصين وسيلة من وسائل تبين الخطأ من الصواب ،و الحقيقة من الكذب و الزيف.

التضليل الإعلامي بني على صناعة المضامين ، تلك المضامين التي انبنت في باطنها على أساس الاختيار الفردي و الحريات الذي ينزع نحو الفردانية و حماية الملكية الخاصة و الفردية على حساب الآخر “فحقوق الفرد تبطل حقوق الجماعة  و توفر أساس التنظيم الاجتماعي” وفق ما ذكره هربرت شيللر.

إن التضليل الإعلامي ينبني على إخفاء الأدلة و يصنع الواقع الزائف و يؤسس إلى حياد واهم و يخفي صراعات حقيقية ليبرز أخرى مضللة و تظهر اخلالات الصحافة في موقع “الخطأ الإنساني” و ليس في موقع “العيوب الجوهرية” التي تهدد سلامة المعلومة  و تصيب القيم الأخلاقوية في مقتل.

التضليل الإعلامي ينبني على  إسكات “العقل المستنير” و الإبقاء عليه في حالة غيبوبة و يكرس مبدأ انعدام الثقة و يتلذذ بتلك الغيبوبة التي تصيب المتلقي و ترضخه إلى الإدمان على العوالم المزيفة ، كما يعمل التضليل على تغييب الصراع الاجتماعي و الطبقي و يخفت من ذاك الجانب الثوري و يجبره على التراجع و الانكماش .

كما يقضي التضليل الإعلامي على التعدد في وسائط التواصل و يتجه نحو ” توجيه العقول” نحو مسار واحد معتمدا على الفكر السطحي و عدم التدبر و توهم بالتنوع و حرية الاختيار و كذا نعيش حالات من “القصف الإعلامي ” الذي يكرس الدوائر الخفية في التوجيه تحت عناوين “التعدد” و “الاختلاف ” في حين هي تكريس لأحادية و مركزية القرار خاصة في المجالات السياسية و الاختيارات الاقتصادية و التوجهات الاجتماعية .

 

نماذج من التضليل في غياب التعديل و التحصين

 

من هنا وجب  الإيمان بفكرة ” التحصين” في معالجة التضليل الإعلامي ، تحصين يقوم على مبدأ الاستباق و التوعية و تغيير سلوك المتقبل و تنمية بذرة النقد و التحري قبل استهلاك أي معلومة منشورة وقع بثها إعلاميا بشتى الوسائل المتاحة.

 و أنا أتصفح مجلات و جرائد قديمة بين سنوات 1996 و 2012 اعترضتني بعض العناوين الصحفية البارزة و يافطات عريضة لمقالات رأي أو أخبار أو تحاليل سياسية أردت أن أسوق بعضا منها بطريقة انتقائية حتى نتبين مدى صدقيتها أو زيفها بعد سنوات من نشرها ، فالإعلام التونسي بعد الثورة اهتز بشكل جذري فانتقل من الإغلاق الشامل للحريات إلى الانفتاح الكلي على الوضع الثوري الجديد ، و قد رافق هذا الانتقال موجة عارمة من التضليل و التزييف الإعلامي و تم توظيف الصحف و المنصات السمعية البصرية إما لمباركة الوضع الجديد و تقمص جلباب التغيير و إظهاره في ثوب البديل الثوري الحتمي الذي سيقود البلاد نحو الديمقراطية و تكريس الحريات أو لمناهضة الوضع القائم و السياسات الحكومية الجديدة في ظل فوز حزب سياسي بانتخابات المجلس التأسيسي و استئثاره بمقاليد السلطة و إدارة دفة الحكم .

و في خضم التجاذبات السياسية الحادة انخرطت العديد من وسائل الإعلام في حملة التضليل و تزامن ذلك مع فقدان آليات التعديل الذاتي و مؤسسات مستقلة قائمة على تقييم المادة الإعلامية فكانت الفوضى الإعلامية العارمة و اختلطت الحقيقة بالزيف و التبس الحق بالباطل و من بين ما نشر من عناوين اخترت ما يلي من اليافطات التي ترتكز أساسا على التوجيه العاطفي و تقوم على فكرة المؤامرة و كبش الفداء و القائمة على ثنائية الخيارات الزائفة و الهجوم الشخصي :

” بن علي سرّع عمليات التنمية لتحريك سواكن المستقبل” ،”التسامح و هارون الرشيد و المأمون” ( مقال في مجلة العهد في 27 أفريل 1995 ) ، “أحداث شارع بورقيبة : استعراض للقوة أم تطبيق لقرار وزير الداخلية” ( الجمهورية 12- 18 أفريل 2012 ) ، “السبسي ممنوع في صفاقس ؟” ( الجمهورية 12 أفريل 2012 ) ، “القصرين تحترق” ( الصريح الاثنين 16 أفريل 2012 ، ” هل عادت “الثورة” من حيث بدأت؟ عصيان مدني في منزل بوزيان دون توقف و حديث عن بوليس سياسي في الرقاب ؟” ( الصريح  الجمعة 20 أفريل 2012 ) ، تونس في مفترق الطرق : ساق في الديمقراطية و أخرى في الدكتاتورية ؟ الحريات مهددة..و الاستقرار مهدد كذلك ( الصريح 11 أفريل 2012 ) ، برنامج ضخم لتونس الجديدة ( الفجر 6 أفريل 2012 ) ، من يحرك صفحات الفايس بوك ضد اتحاد الشغل ؟ من غزوة الزبلة إلى غزوة الفايسبوك ( الشروق 5 جوان 2012 ) ، القصرين تختنق ؟ ( الشروق 16 أفريل 2012 ) ، “السبسي ممنوع في صفاقس ؟ ( الجمهورية 12 أفريل 2012 ) . ( ملاحظة : يمكن العودة بالتفصيل إلى المواضيع المذكورة )

 

 

هذه النبذة من العناوين التي تخفي مضامين مضللة في أغلبها انبنت على فورية التعامل الاعلامي مع المعلومة و صناعة رأي عام و توجيهه في غياب آليات استباقية في التحصين من المعلومات الزائفة مما ساهم في تكريس واقع “الفوضى الاعلامية التي تميزت بها تلك الفترة و تزامن ذلك غياب التشريعات القانونية  و الهياكل التعديلية ( أخص بالذكر سنة 2012 ) .

 

 

و قد تمدد ذلك الزيف مع تطور وسائل التواصل الاجتماعي و انتشار الفايسبوك على نطاق واسع فشمل الصورة و الفيديو و تعددت الأطراف الباثة للخبر ، و فاق عدد المتلقين الملايين من التونسيين مما دفع نحو مأسسة عملية التحصين المعلوماتية و بروز مدارس للكشف عن مواطن التضليل و التزييف و بات “التحصين” بمثابة اللقاح الذي يجب ارساؤه كثقافة بين كل المتلقين للمعلومة مهما كان موقعه أو جنسه أو عرقه أو ثقافته و تنويع الطرق المنهجية و التربوية للتمكين من آلياته .

 

آليات و وسائط للتحصين

 ( نموذج انتاجي من أجل التوعية و اليقضة من الاخبار المضللة )

و لعل إيمانا مني بقيمة “التحصين ” ارتأيت التنويع في خطط و آليات مقاومة الأخبار الزائفة و المضللة و ذلك باعتماد أساليب تعليمية تصل إلى أكبر شريحة من المجتمع ( أطفال – شباب – كهول)  و ذلك من خلال اختيار شخصية خيالية سميتها ” الفايق ” – EL FAKE”  و استغلالها في مقطع فيديو تستهدف فئات عمرية مختلفة باعتبار أن المادة موجهة لكل من يتلقى المعلومات في مواقع التواصل الاجتماعي أو وسائل الاعلام بجميع أنواعها (الكترونية، مكتوبة،مسموع، مرئية ).

 

 

و الهدف من البرنامج المتمثل في سلسلة مصورة إلى عدم الوثوق التام و التسليم بالمعلومات المنشورة و توجيه الرأي العام نحو التحصين من طبيعة المعلومة المضللة و  الضارة و ذلك بكشف تقنيات التضليل.

هذا المشروع ينطلق أساسا من بث نماذج من معلومات مضللة و تفكيك عناصرها التضليلية ( بمعدل نموذجين أو ثلاثة متجانسين في المحتوى و قد يكونون مختلفين في الشكل ) و المواضيع تهم الرأي العام و تساهم في بناء وعي فردي و جماعي بضرورة التحصن من كل زيف أو تضليل. و بالتالي يمكن التداول في حصة مصورة معارف و مهارات جديدة و تغيير سلوك عبر 3 فقرات قصيرة و هادفة ).

من أهم النتائج التي أسعى إلى تحقيقها تفنيد التقنيات المستعملة للتضليل و تفكيكها بطريقة علمية و كشف التكتيكات المستعملة في ذلك في ظل التدفق الكبير للمعلومات  بشكل يومي و الأهم  منها ما يساهم مباشرة في التأثير على الجمهور و يمس من أمنه و وعيه الايجابي تجاه القضايا الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية و الصحية..

تعليقات

عن Houda Karmani

شاهد أيضاً

المعهد العربي لرؤساء المؤسسات: إغلاق معبر رأس جدير تسبب في خسائر اقتصادية لتونس بنحو 180 مليون دينار

أكد المعهد العربي لرؤساء المؤسسات أنّ إغلاق معبر رأس جدير خلال الفترة الممتدة من شهر …