بقلم يامن أحمد حمدي
للتونسي، مع تأكيد التنسيب لا التعميم، مميّزات عديدة منها حبّ الهريسة وعشق اللبلابي والولع بالكسكسي، والهيام بالنميمة في المقاهي، وتصديق الإشاعة، والتجمهر حول حوادث السير أو عند نشوب عراك، وسهولة حلق اللحى بنفس سهولة إطالتها،…
لكن للتونسي أيضا صفة أخرى فارقة تميّزه عن جميع شعوب الأرض من عُرب ومن عَجم، وهي إتقانه لفنّ الكلام البذيء فأينما تجوّلت في أرجاء هذا الوطن وأركانه وزواياه فإنك لابدّ مستمع إلى الألفاظ البذيئة في كلّ مكان: في السّوق، في الشارع، في المقهى، في المطعم، في المدرسة، في المعهد، في الكليّة، في الإدارة، في ملاعب كرة القدم وكلّ الكرات الأخرى، في الحدائق العموميّة، في وسائل النقل العمومي، أمام المسجد، خلف الجامع، قرب المصلـّى، وحتـّى في المنزل،… وفي كلّ زمان: صباحًا، مساءًا وليلا وفجرًا وعصرًا،… وفي كلّ حالة: عند الفرح والغضب، عند الانتشاء أو الاكتئاب، في ساعات الصفاء أوالعراك، في الصوم والإفطار، في الجدّ أو اللغو، عند الحوار البيزنطي أوالتحليل السياسي أوالنقاش الرياضي،…أينما تشاء وساعة تشاء تصمّ أذنيك أنواع شتـّى من الألفاظ البذيئة ذات الإشارات الجنسيّة، في مساواة غريبة بين الذكر والأنثى، وفي استعمال لغوي لا يخلو من إبداع وابتداع، باعتماد كلّ أشكال الصرف والنحو والتشبيه والاستعارة والاستنكار والاستفهام والإعجاب والمدح والهجاء والفخر…، كلّ ذلك في توظيف لغوي عبقري عجز عـن فهمه علماء اللغة واللسانيّات… قد يقول البعض أنّ لهذا الأمر امتدادًا في مجتمعات اخرى مغاربيّة أو عربيّة أو متوسطيّة، غير أنّ لهذا الامتداد حدود، فلا أحد أكـّد وجود هذه الظاهرة في دول أخرى بهذا الحجم وبهذا الشكل. ولئن كان لعلماء النفس تفسيراتهم الفرويديّة وعمليّات التصعيد لعقد مستبطنة منذ الصغر، وكان لعلماء الاجتماع تحليلاتهم المرتبطة بتعقيدات المجتمع العربي وتناقضات الذهنيّة الإسلاميّة ومركـّبات العقليّة المشرقيّة، فإنّ لعلماء التاريخ توضيحًا وحيدًا: وهو تاريخيّة هذه الظاهرة وتواصلها وتـلوّنها مع مقتضيات كلّ عصر وكلّ أوان، وبهذا أعود إلى ما كتبه محمود بيرم التونسي، والذي رغم تجوّله بين حانات المتوسّط ومدنه التائهة وأحيائه المهمشـّة، رغم ذلك كلـّه فقد أبدى استنكارًا كبيرًا لما عاينه في تونس، من انتشار للبذاءة والشتائم في لغة التخاطب لدى المجتمع التونسي، في مقال عنونه بـ”مدينة الشتائم” لتوصيف مدينة تونس(سنة 1934)، يقول فيه: “…تسمع في كلّ مكان حناجر تنطلق بذكر أعضاء التناسل، وتقليبها على كلّ وجود الاستعارات والمجازات، ولا يقتصر ذكرها على ساعات الخصام ولكن نسمعها في البيع والشراء والجدل والمزح…وتكاد تكون تونس الوحيدة في العالم التي لا يراعي أوباشها آداب السّير والحديث،…فقد انغمست كلّ ألسنة سكـّانها في البذاءة وأصبحت كأنها من علامات الرجولة والفتوّة“. نتمنـّى، من جملة أمنيات كثيرة، أن “يفقد” التونسي هذه الميزة وإلى الأبد، وإن كانت هذه الأمنية صعبة المنال، فلا أحد يقدر على تغيير هذا الوضع، (في المستقبل القريب على الأقلّ)، لا مربّي بتربيته، ولا ثورة بثوّارها، ولا حكومة بشُرطتها، ولا “سلفي” بلسانه أو بيده أو حتى بسيفه،…