ماهر جعيدان
حملات نظافة وتلوين وتزويق تجتاح، منذ أيام، ربوع تونس من شمالها إلى جنوبها ضمن ما سُميت “حالة وعي” غير مسبوقة تقاطعت مع فوز قيس سعيّد، الشخصية المستقلة، في الانتخابات الرئاسية في زلزال انتخابي بفضل تأييد واسع في صفوف الشباب، فيما اُعتبر انتصارًا على “السيستام” الذي أسس لنمط حياة سياسية على مر عقود مستنجدًا بترسانة من تقاليد الحكم، والذي اندلعت ثورة 17 ديسمبر/14 جانفي لإسقاطه.
وقد انتشرت بالخصوص، مؤخرًا على مواقع التواصل الاجتماعي، هذه الحملات المواطنية التي مست المجالات الحياتية والسياسية والبيئية من بينها “نحبو بلادنا نظيفة” و”اخدم وإلا شد دارك”، في تعبئة شبابية عفوية مرتبطة بالشعور بالمسؤولية تجاه الوطن.
هي حركة جماعية تلقائية اتخذت صبغة تنظميّة في مواقع التواصل الاجتماعي عبر مجموعات شبابية تحت شعار الاستقلالية ولا تحمل العلامات الحزبية والجمعياتية ثم التحقت بالركب مجموعات أخرى ذات انتماءات حزبية وجمعياتية، لحقتها أيضًا السلطات الرسمية بإشراك البلديات في حملات النظافة. هي، إجمالًا، حركة مواطنية تعكس أملًا شبابيًا بعد تسع سنوات من ثورة تاهت في منعرجات الثورة المضادة والالتفاف على مكاسبها من حرية وكرامة وتنمية وديمقراطية تكرّس سيادة الشعب.
بيد أن هذه الحملات المواطنية، تحديدًا المتعلقة بحملات التلوين والتزويق، واجهت بعض الانتقادات لفقدانها التأطير من ذوي الخبرة، إضافة لتحفظات من بعض مؤسسات الدولة مثل المعهد الوطني للتراث ولجان المجالس البلدية كلجنة جمالية المدن ولجنة التراث والسياحة، وذلك في علاقة ببعض عمليات التلوين التي مست مناطق ذات صبغة تراثية مثل بلاط المدينة العتيقة ومدرج فسقية الأغالبة بالقيروان.
كما تجندت صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي لبث رسائل إحباط معتبرة “حالة الوعي” أنها حالة استقطاب سياسي، تبخيسًا لدور الشباب في قيادة مبادرات مجتمعية دون تأطير. وقد قلّت، في نفس الإطار، تغطية الإعلام التقليدي لهذه المبادرات المواطنية، بل عمدت بعض وسائل الإعلام على التركيز فقط على الوجه السلبي في علاقة بتلوين بعض المعالم التاريخية.
وإن “حالة الوعي” كما سُميّت من النشطاء كانت، في جوهرها، في مواجهة الوعي المعلب الذي رسّخته السلطة منذ عقود مستعملة وسائلها الاتصالية، وقد حافظت بعد الثورة على آلياتها في نشر خطابها للحفاظ على مصالحها وتوجيه العقول عبر تعليب التصورات والأفكار للتأثير على الرأي العام. فيما مثلت “حالة الوعي، في الأثناء، بديلًا عن ماكينات صناعة الوعي التي تعتمد على طرق مختلفة منها التضليل الإعلامي الذي يعزز أنماط السلوك المؤسساتية القائمة.
أشرف عمامو (ناشط شبابي): الشباب اليوم يعرف ماذا يريد
في هذا الإطار، اتصلنا بأشرف عمامو (31 سنة)، وهو أحد الشباب الناشطين في حملة قيس سعيّد، ليحدثنا عن حملة النظافة والتزويق، وهو يعتبر أن دافعها هو “التغيير والتجديد وكنس الغبار عن طاقات الشباب المخفية وتربية الناشئة على حب الوطن من خلال تحملهم المسؤولية في حماية المحيط ونظافته”.
وقال إن حركة “حالة وعي” مسّت كل شرائح المجتمع وهي فرصة للشباب للمشاركة في الشأن العام والتعبير عن تطلعاته ومشاغله من خلال الرسائل المكتوبة على الجدران ولوحات “الغرافيتي” والتعبير عن تحرّره من الماضي والتطلع الى مستقبل أفضل يساهم في بنائه، على حد تعبيره.
واعتبر عمامو أن مهمة تأطير الشباب صعبة بحكم أنّ الشاب اليوم يتملكه إحساس متضخم بالحرية والقدرة على فعل كل شيء وفق قوله، مشيرًا إلى وجود فئة من الشباب الواعي الذي يتقلد ويشارك في التظاهرات المحلية والوطنية. وقال “إن الشباب المسؤول والواعي دائمًا في الموعد ينصت للشباب المتحمس الذي تنقصه التجربة ويوجّهه” ذاكرًا مثال تكوين إدارة لحملة نظافة مدينة الساحلين مع تأكيده على قدرة الشباب على إدارة حملاته بنفسه.
وأشار الشاب في حديثه لـ”ألترا تونس” إلى وجود ما وصفها ببعض حالات الانفلات في الحملات الأخيرة مثل طلاء أرضية المدينة العتيقة بتونس العاصمة بالألوان مما استدعى تدخل المعهد الوطني للتراث، ولكنه قال “يجب أن ننظر للجزء الممتلئ من الكأس إذ أن الشباب اليوم خرج من الصمت وابتعد عن العالم الافتراضي وألعاب الفيديو و قرّر أن يغيّر. فالمهم هي المشاركة لأن الطفل أو الشاب المساهم في حملة النظافة اليوم من الصعب أن يفسد ما قام به في الغد، ولا نخفي أن هناك من يريد أن يعود بنا إلى الوراء من خلال منشورات استهزاء على مواقع التواصل الاجتماعي لكن نقول له أن الشباب انطلق ولن يرضى بالعودة إلى الوراء”.
أما عن استقلالية المبادرات الشبابية، اعتبر أشرف عمامو أن “أي محاولة سياسية للركوب أو توجيه تحركات الشباب من طرف الأحزاب هي محاولة غبيّة ستُقابل بالرفض والانتحار السياسي” مؤكدًا على أهمية تكوين حكومة “تلبّي طموحات الشباب وتساهم في تغيير الواقع البائس”، مضيفًا “المهم أن الشباب اليوم يعرف ماذا يريد وسيحقّق ماذا يريد”.
جهاد صويد (متفقد جهوي للتراث): من المهمّ تأطير الموجة الشبابية الصادقة
ونظرًا للجدل القائم حول تلوين المعالم الأثرية خلال حملة التلوين والتزويق، اتصلنا بالمتفقد الجهوي للتراث بالوسط الباحث في الآثار الاسلامية جهاد صويد الذي أثرنا معه مسألة الإحاطة وترشيد الشباب حول أهمية الحفاظ على هوية المعالم الأثرية، فأكد، بداية، أن الموضوع “حساس بشكل كبير”.
وقال إن “وجهة نظر المعهد الوطني للتراث واضحة بحكم طبيعة المعالم، فنحن نتحدث عن خطر داهم أكثر من حديث على وسائل أخرى، وهو خطر يهدد هذه المعالم الأثرية باعتبارها ذات خصوصية على مستوى مواد البناء وتقنياته وعليه كل تدخل يجب أن يكون مدروسًا بضرورة استشارة المعهد الوطني للتراث الذي يضم فنيين ومهندسين وباحثين مختصّين”.
وأضاف أن “الخطر المحدق مؤخرًا يتعلق باستعمال ألوان غريبة في تلوين المعالم التاريخية. فالمتجول مثلًا في مدينة تونس أو القيروان وفي المدن التاريخية عمومًا يلاحظ اللون الأبيض أو اللون الأخضر، وتوجد في معالم أخرى لون الحجارة وهو من لون التربة أو حجر الكذال، ولذلك لا يجب استعمال مواد كيميائية غريبة عن مواد البناء تضر بهذه المعالم”.
وأكد محدثنا، في نفس الإطار، أن “كل حضارة لها ألوانها المميزة وكل فضاء له خصوصيته، والألوان المعتمدة في تونس على مر الحضارات أغلبها متأتية من الحجارة الكلسية ومن اعتماد الجير الطبيعي وألوان هادئة” مبينًا أن بعض مبادرات التلوين تهددّ المعالم التاريخية.
ولكن أكد الباحث في الآثار الإسلامية، في الأثناء، أن هذه الموجة “صادقة وليس فيها نية مبيتة” منبهًا في نفس الوقت لحساسية المسألة قائلًا “هذا قطاع يهم تاريخنا وحضارتنا وأرى أن التدخل يجب أن يكون بالتنسيق مع المعهد الوطني للتراث لتكون عمليات الطلاء بطريقة مدروسة ولتكون الموجة هادئة وبألوان متناغمة”.
من جهته، دعا المستشار البلدي مراد البحري، في تصريح لـ”ألترا تونس” إلى وجوب تفعيل مشروع مخبر المدينة بكافة البلديات وتشريك جميع الفاعلين من خبراء ومهندسين وفنانين وشباب فاعل من أجل إرساء منظومة تحافظ على التراث المادي واللامادي، وتضمن تأطيرًا لكافة المتدخلين في المواقع والمعالم الأثرية في إطار تشاركية مقننة بعيدًا عن الفوضى أو الاستئثار بالسلطة، وفق تعبيره.
المصدر: الترا تونس