طارق رمضان
أثار تحليلي الأخير للثورات العربية وما أعقبها من أزمة طاحنة في تونس ومصر الكثير من الانتقادات. وقد سبق أن عبّرتُ عن موقفي من الانتفاضة العربية وتاريخها والمشكلات التي أثارتها بوضوح في كتاب لي بعنوان “Islam and the Arab Uprising” أو“الإسلام والانتفاضات العربية”. وأكدت الأحداث الأخيرة صحة موقفي : وعلى كل من يرغب في مزيد من التوضيح قراءة هذا الكتاب.
أما من يزعم أن رؤيتي النقدية للإسلام السياسي وتطوره التاريخي هي رؤية جديدة لم تظهر إلا مؤخرا، فأحيلهم إلى عملين من أعمالي السابقة (علاوة على كتابي الأخير) وهما : “Islam, The West and the Challenges of Modernity” أو “الإسلام والغرب وتحديات الحداثة” (1995)، وكذلك Radical Reform أو “الإصلاح الجذري” (2007)، وقد ظهرا قبل اندلاع الثورات العربية مما يوضح بشكل قطعي موقفي من السياسة والتحرر وأهداف القوى المضادة الاقتصادية والاجتماعية. وغالبية مقالاتي الحديثة هي خلاصة ما تناولته الكتابات السابقة وإعادة تأكيد وتوضيح لموقفي في ضوء الأحداث الأخيرة. ومنذ أواخر الثمانينيات، وحول الشأن في السودان ثم الجزائر ومصر وفلسطين، عدت إلى تناول هذا الموضوع مراراً متبنياً الخط التحليلي ذاته طوال هذه الفترة.
وفي الوقت نفسه قدمت نقدا تفصيلياً لحالة الاستقطاب والجدل بين العلمانيين والإسلاميين خاصة في مصر وتونس. إلا أنه بعد موقفي الأخير من الانقلاب العسكري، اتهمني بعض المثقفين والنشطاء المعارضين لمرسي أنّي مؤيد لمرسي وللإخوان المسلمين والإسلاميين وأطلقوا ماكينة التشويه الإعلامي ضدي. وليت الأمور تجري على هذا النحو من البساطة ! أقولها بكل أدب ووضوح لا يُعقل بأي حال من الأحوال أن يُوجّه النقد لي بأني أفتقد الرؤية الواضحة بشأن ما فعلته حكومة مرسي والانحرافات الإيديولوجية للإخوان المسلمين. قلتها من قبل وهآنذا أعيدها مرة أخرى لكن المدافعين عن الانقلاب العسكري من النخب الليبرالية ومؤيدي العسكر الذين يتظاهرون بأنهم لم يسمعوا أو يقرؤوا شيئا، ويرفضون كل معارض لهم ويصنفونه بأنه إسلامي أو إرهابي، أولى بهم أن يهتموا بجوهر المسألة ويقدموا لنا بعض الإجابات عن مجموعة من الأسئلة الأساسية.
هؤلاء النساء والرجال الذين واصلوا تظاهراتهم لمدة تزيد عن خمسة أسابيع، يتم تصويرهم الآن على أنهم مؤيدو مرسي من أعضاء الإخوان المسلمين، هذا التصنيف خاطئ ومغرض : بل هو نسيج من الأكاذيب غزلته وسائل الإعلام وتناقلته 80% من وكالات الأنباء الغربية، التي توظّف نفس الكلمات في تناولها للمظاهرات الحاشدة التي تخرج في الشوارع. في الحقيقة إن هؤلاء المتظاهرين يخرجون للشوارع تحت مظلة رفض الانقلاب العسكري، ومنهم رجال ونساء لا علاقة لهم بجماعة الإخوان المسلمين، ولا السلفيين ولا التيار الإسلامي، بل من بينهم بعض شباب المدونين والعلمانيين والأقباط.
الحقيقة أن الجيش المصري لم يغادر المشهد السياسي مطلقاً. وتعكس استراتيجية القمع التي يتبناها رغبته الواضحة في الحفاظ على مصالحه السياسية والاقتصادية والمالية وعلاقته الوثيقة بالحكومة الأمريكية. وهي استراتيجية تروق لبعض العواصم الأوربية وإسرائيل. إن الإدانة الغربية المترددة وتصريحات الرئيس الأمريكي باراك أوباما الفاترة (إلغاء المناورات العسكرية المشتركة والتأكيد على الدعم المالي الأمريكي بل والتضامن مع الانقلاب العسكري) علاوة على القصف الإعلامي المتواصل قد منح العسكر تفويضاً مطلقاً لممارسة القمع على نطاق واسع تحت ستار حالة الطوارئ التي تم الإعلان عنها مؤخراً. وأصبح القتل والتعذيب والسجن الجماعي في انتظار العديد من المصريين.
وللأسف ليس هناك جديد، فالإعلام الحكومي يبث الأكاذيب ويشوه الحقائق : وهي أساليب تكتيكية مجربة أثبتت فعاليتها على مر الزمان. تزعم قوات الشرطة والجيش أنها تدافع عن نفسها، وبالتالي تستخدم الذخيرة الحية لاستهداف المتظاهرين مع التعتيم على أعداد القتلى الحقيقية. ويتم إحراق المساجد التي تضم أجساد القتلى لإخفاء الأدلة علاوة على حصار مساجد أخرى، كمسجد الإيمان، الذي احتشد به الأهالي لاستلام جثث ذويهم. وحتى يُسمح لهم باستلام الجثث والمضي في إجراءات الدفن، أجبروا هؤلاء الأهالي الذين فجعوا في ذويهم على قبول تقارير طبية تشير إلى أن سبب الوفاة هو الانتحار، أو حتى تأخير تاريخ الوفاة عن وقته الفعلي. إنه رعب جديد، بوسائل قديمة. ولم تكن مفاجأة لنا أن نشاهد مخابئ الأسلحة يتم كشفها وتصويرها وبثها للعالم أجمع.بينما لم يجد المتظاهرون الحمقى، بعد ستة أسابيع من المظاهرات الحاشدة، وأسبوع من التهديد المتواصل بالتدخل العسكري، لم يجدوا الوقت لاستخدام هذه الأسلحة ! تماما مثلما تذكّرنا استراتيجية إحراق الكنائس بأساليب من سبقوا السيسي : تأليب الناس ضد بعضهم البعض وتصوير “الإرهابيين الإسلاميين” كأعداء للأقباط. وبهذا يضربون عصفورين بحجر واحد : يبررون القمع ويحظون بتأييد الغرب. كل معارضي الانقلاب العسكري يتم تصويرهم كما لو كانوا في منتهى الحماقة : قد التزموا بالسلمية والانضباط لأسابيع، حتى في أعقاب مذبحة الثامن من يوليو ثم تحولوا إلى العنف لإعطاء العسكر الفرصة التي يريدونها. من يخدعون؟ ومن يتظاهر بتصديق هذا الخداع؟
لا شك أن القضية المحورية كانت ولا تزال هي الحرية والديمقراطية للشعب المصري. ما يحدث اليوم في مصر هو مهزلة ورعب بكل ما تحتمله الكلمة. فالبلد اليوم تحت رحمة القوات المسلحة، وسوف تشهد مصر حالات إعدام فورية واعتقال عشوائي وتعذيب وكذب على أعلى مستوى. إن الجنرالات يحظون بدعم كامل من الغرب والولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل. هذه هي الحقيقة الوحيدة. وهؤلاء الذين يدفعهم الحقد والبغض للإسلاميين إلى تأييد العسكر والشرطة اليوم وهم يقتلون ويقمعون الناس حتما سيدفعون الثمن في يوم من الأيام. وعليهم الآن أن يقدموا لنا تحليلهم، وبرنامجهم السياسي “الديمقراطي” المعدّ داخل ثكنات العسكر، في قلب الفساد، في مركز العاصفة لشرق أوسط ينجرف نحو الطوفان. وهؤلاء تقع على عاتقهم مسؤولية كبيرة فوق مسؤوليتهم عن مرارة الكلمات التي يستخدمونها لتبرير هذا القمع العنيف للمدنيين غير المسلحين. يا لهم من ليبراليين بائسين وتقدميين مثيرين للشفقة.