زهير اسماعيل
النتائج الأولية
قراءة في النتائج
التحالفات المنتظرة
تأتي الانتخابات التشريعية في تونس تتويجا لمسار انتقالي عسير عرفته البلاد مع ثورة الحرية والكرامة. وكانت انتخابات 23 أكتوبر/تشرين الأول 2011 منطلقا لمرحلة تأسيسية امتدت على مدى ثلاث سنوات عرفت صراعا مريرا بين القديم والجديد كاد يعصف بالتجربة.
واعتبرت تجربة تونس استثناء في المجال العربي قياسا إلى باقي دول الربيع التي انتهت فيها حركة الحرية والكرامة بعد إطاحتها برؤوس بارزة من رموز الاستبداد في النظام العربي إلى اقتتال داخلي في بعض الأقطار، وإلى عودة النظام القديم بواسطة الانقلاب العسكري الدامي مثلما هو الحال في مصر.
في تونس نجحت الترويكا والطبقة السياسية ومنظمات المجتمع المدني في الوصول بالبلاد إلى انتخابات 26 أكتوبر/تشرين الأول 2014 للخروج من المؤقت إلى وضع دائم تستقر فيه المؤسسات ويُتفرغ فيه للملفات الكبرى وأهمها التنمية والتشغيل والعدالة الاجتماعية.
النتائج الأولية
بعد يومين من الانتخابات، بدأت تتوضح نسبيا نتائج الاقتراع العام يوم 26 أكتوبر/تشرين الأول 2014. وقد أظهرت النتائج الأولية تقدما لحزب نداء تونس الذي يقوده الباجي قائد السبسي أحد رموز النظام القديم. ويمثل الحزب عنوانا سياسيا للمنظومة القديمة وائتلافا جمع خليطا من اليسار الثقافي والتجمع المنحل.
وقد حصل الحزب على حوالي 80 مقعدا من بين 217 مقعدا تشكل البرلمان، وهو ما يعادل 37% من مجموع المقاعد، في حين جاءت حركة النهضة التي قادت بواسطة الترويكا المرحلة التأسيسية في المرتبة الثانية بحوالي 70 مقعدا أي ما يعادل 31%، وجاء حزب الاتحاد الوطني الحر بقيادة سليم الرياحي في المرتبة الثالثة بـ17 مقعدا أي بنسبة 7.8%، ويمثل صعود هذا الحزب إحدى مفاجآت هذه الانتخابات.
وحصلت الجبهة الشعبية (يسار) على 12 مقعدا بنسبة 5.5% وحزب آفاق(ليبرالي) على تسعة مقاعد بنسبة 4.1%، وكان لحزب التيار الديمقراطي (منشق عن المؤتمر من أجل الجمهورية) بقيادة المحامي محمد عَبو خمسة مقاعد وهو ما يعادل نسبة 2.3%. أما حزب المؤتمر من أجل الجمهورية الذي كانت له المرتبة الثانية في انتخابات 2011 بـ30 مقعدا فإنه لم يحصل في هذه الانتخابات إلا على أربعة مقاعد أي بنسبة 2%.
وتبقى هذه النتائج غير نهائية إلى أن يُنظر في الطعون المقدمة من قبل القوائم الانتخابية وتقول فيها الهيئة العليا المستقلة للانتخابات كلمتها قبل أن تُحيلها إلى المحكمة الإدارية لتبت فيها نهائيا.
وقد مثلت هذه النتائج صدمة حقيقية وخلفت ذهولا، لا سيما عند قوى الثورة التي أرهقتها المرحلة الانتقالية بعواصفها السياسية بسبب إرث الاستبداد الثقيل وإصرار المنظومة القديمة الثاوية في مفاصل الدولة العميقة على العودة إلى المشهد السياسي والتأثير فيه توجيها وتعطيلا.
قراءة في النتائج
لا تكاد تخلو انتخابات من ثلاثة ظواهر هي : المفاجأة والصعود ومسألة الأغلبية، والمفاجأة في السياق الانتخابي هي أشبه بالاختراق يُحدثه هذا الحزب أو ذاك.
وكما مَثلت العريضة الشعبية بقيادة محمد الهاشمي الحامدي اختراقا مفاجئا في انتخابات 2011 التأسيسية، وكانت نتائج الاتحاد الوطني الحر مفاجأَة انتخابات 2014، والأمين العام لهذا الحزب رجل أعمال شاب لم يُعرف عنه انتماء أيديولوجي أو اهتمام بعالم الأفكار وهو اليوم رئيس فريق النادي الأفريقي وهو من أكبر نوادي كرة القدم في تونس، فضلا عن كونه من المترشحين للانتخابات الرئاسية.
وأما ظاهرة الصعود فقد عبر عنها حزب المؤتمر من أجل الجمهورية في انتخابات 2011، وعبر عنها حزب آفاق في انتخابات 2014 وهو من الأحزاب الليبرالية الصغيرة، ويضم كوادر نوعية وله وضوح وعمق فيما يَطرح من برامج، وهو من الأحزاب القليلة التي أحسنت إدارة حملتها الانتخابية، وتُمكنه تسعة مقاعد من أن يلعب دورا مهما في تشكيل الحكومة وفي عمل البرلمان.
وفيما يتعلق بالأغلبية فإن حصول حزب نداء تونس على الأغلبية مثل مفاجأة صادمة لكون هذا الحزب يمثل العنوان الأبرز للمنظومة القديمة، وقد تواتر الحديث في أغلب الجهات أثناء الحملة عن استعمال واسع للمال السياسي الفاسد، وكان نداء تونس معنيا أكثر من غيره بهذا الاتهام، وهو الحزب المدعوم بقطاع واسع من رجال الأعمال والرأسماليين الوسائطيين(الكومبرادور) الذين ارتبطوا بالنظام القديم ومثلت الثورة تهديدا حقيقيا لمصالحهم، ولا تخفى حاجتهم إلى عنوان سياسي يراعي هذه المصالح ويمثلها في مرحلة سياسية حساسة.
وتمتاز هذه الانتخابات عن انتخابات 2011 بصعود حزبين كبيرين هما النهضة والنداء، ففي انتخابات المجلس الوطني التأسيسي كانت النهضة الحزب الوحيد الكبير بـ90 مقعدا يليها حزب المؤتمر من أجل الجمهورية بـ 30 مقعدا. ولئن لم تنقطع القطبية طوال المرحلة التأسيسية بين الترويكا وجبهة الإنقاذ التي ضمت التجمعيين( النداء والمبادرة) والجبهة الشعبية (يسار وقوميون)، فإن عودة الاستقطاب قويا وفي البرلمان هذه المرة بين النهضة والنداء سيعيد ترتيب مواقع عدد من الأطراف السياسية، وقد تتبدل بعض المواقع جذريا.
وللانتخابات في تونس بعدٌ جغرافي أيضا، ذلك أن مدن الجنوب صوتت بقوة ضد نداء تونس وكانت الفوارق بين النهضة والنداء كبيرة في ولايات تطاوين ومدنين وقابس وقبلي.
وفي الوسط تتعادل النسبة، ففي سيدي بوزيد مدينة الثورة تعادلت النسبة، وكذلك في مدينة صفاقس. ومن الوسط صعودا إلى الشمال تتغير النسبة تدريجيا لصالح نداء تونس، وكان تقدمه واضحا في أرياف الشمال الغربي الفقيرة وقد عاشت حقبا تحت رحمة الشُعَب الدستورية لحزب التجمع الحاكم.
ومما يلاحظ في جهات الشمال الغربي (الكاف وجندوبة) والشمال الشرقي (نابل) وأقصى الشمال (بنزرت) أنه كان للنهضة تفوق في مراكز الاقتراع التي بالمدن في حين تفوق النداء بالأرياف، ومن شأن هذا أن يثير تساؤلا حول تفوق الحزب ذي الخلفية الإسلامية في المدن وتفوق الحزب ذي الخلفية الحداثية في الريف.
ولئن كانت تونس منقسمة اجتماعيا انقساما عموديا (ساحل/داخل) فإن الانتخابات أبانت عن انقسام سياسي أفقي كشف عن أن الجنوب مازال تحت تأثير سياسات الدولة التي لم تغط كل المساحة الاجتماعية، فبقي الجنوب مهمشا مفقرا فضلا عن مزاجه العروبي الإسلامي الغالب.
ومن ناحية أظهرت الانتخابات ارتباط الجنوب الوثيق بالثورة والآفاق التي فتحتها في الحرية والتنمية والعدل وعداءه الشديد للمنظومة القديمة وعنوانها السياسي نداء تونس، وقد تم طرد ممثليه من مدينة بني خداش من ولاية مدنين في الحملة الانتخابية الأخيرة.
التحالفات المنتظرة
إذا تأكدت صدارة نداء تونس للانتخابات التشريعية فإنه سيكلف بتشكيل الحكومة، ويرتبط تشكيل الحكومة بثلاثة ثوابت رئيسية هي: الخلفية السياسية وميزان القوى في البرلمان والانتخابات التشريعية، وبالإمكان الحديث عن ثلاثة سيناريوهات رئيسية:
أولها: أن يستبد حزب النداء بتشكيل الحكومة، وهذا ممكن ولكنها ستكون حكومة ضعيفة خصوصا وأن الوضع ما يزال مطبوعا بهشاشة المرحلة الانتقالية رغم الخروج من المؤقت، وفي هذه الحالة ستتوسع قاعدة المعارضة ويكون إسقاطها الذي يتطلب الثلثين أمرا متاحا.
وقد يختار السبسي هذا النهج لدرء ما قد يندلع داخل أجنحة النداء من تجاذب حول النفوذ والحقائب الوزارية وما احتدام الصراع حول الترشحات في الانتخابات التشريعية بين كوادر الحزب عنه ببعيد.
وثانيها: أن يتحالف النداء مع الأحزاب التي تشبهه في البرنامج والخلفية السياسية. والنداء يُصنف تجوزا من الأحزاب الحداثية، وبذلك يكون حزب آفاق والجبهة الشعبية من الأحزاب التي تشبه النداء رغم أن الجبهة تختلف اختلافا جذريا في برنامجها عن برنامج النداء، وهو اختلاف بين المنوال الاقتصادي للنظام السابق ومنوال الاقتصاد الموجه والدولة الاجتماعية.
وأما سليم الرياحي فإنه وإن بدا أقرب سياسيا إلى النداء فإن ترشحه للرئاسيات يجعله منافسا للسبسي وأقرب إلى النهضة التي ليس لها مرشح، ومن الممكن أن تدعمه خاصة بعد النتائج الضعيفة لحلفائها في الترويكا في الانتخابات التشريعية.
وثالثها: أن يلتقي الحزبان الكبيران على تشكيل الحكومة وهذا مستبعد لما بين الحزبين من اختلافات عميقة، وربما الخوف من أن يكون تحالف الحزبين سببا لتفجير خلافات داخلهما وخاصة داخل النداء لما يطفو من خلافات بين أجنحته بين الحين والآخر قد تكون سببا في انشقاقات خطيرة.
ويبدو لنا احتمال تشكيل حكومة وطنية ضعيفا لما بين الطبقة السياسية من اختلاف ولطبيعة النداء واتجاهه إلى الهيمنة والاستئثار بالحكم خلال هذه السنوات الخمس.
تمثل هذه الانتخابات منعرجا كبيرا في تاريخ الثورة التونسية، عنوانه عودة المنظومة القديمة إلى السلطة، وقد كانت هذه العودة في سنة 2014 وهي السنة التي كان بن علي يزمع فيها إجراء انتخابات تمنحه فترة رئاسية أخرى ولكن الثوار أسقطوا نظامه واضطروه إلى الهرب.
الانتخابات التأسيسية في2011 جرت في شروط المنظومة القديمة، وهذا من خصوصيات الثورة في تونس، ولذلك كان الصراع بين مسار التأسيس والمنظومة القديمة، وكان الصراع مريرا ولم يكن بمعزل عن الرهانات الإقليمية والدولية.
وجاء الحوار الوطني بمبادرة من رباعي المجتمع المدني شاهدا على تحول في ميزان القوى لصالح المنظومة القديمة التي استفادت من خلافات قوى الثورة وضمت بعضها إليها في جبهة الإنقاذ، ومع الحوار صار الوفاق يشمل المنظومة القديمة بعد أن كان يخص القوى المحسوبة على الثورة.
وبذلك يكون المشهد السياسي قد انتقل من واجب محاسبة المنظومة القديمة على قاعدة التأسيس، إلى واقع منافستها على قاعدة الانتقال الديمقراطي. كان هذا بعد سقوط قانون تحصين الثورة في المجلس الوطني التأسيسي حين عارضته حركة النهضة صاحبة الأغلبية في المجلس الوطني التأسيسي وفوضت التحصين إلى الجماهير من خلال الاقتراع العام الذي أعاد المنظومة القديمة ومنحها الصدارة في انتخابات ديمقراطية شفافة.
الثورة التونسية في منعرج حاسم وتجد قواها الحقيقية نفسها على جبهتين ساخنتين: جبهة منسوب الحرية العالي المعمد بدماء الشهداء وعذابات أجيال مناضلي الحرية والكرامة الاجتماعية، وجبهة المقاومة الاجتماعية، فالهامش المفقر الذي فجر الثورة مازال مهمشا مفقرا.
وأمام تعطل المطالب المشروعة بدأت تتشكل ملامح تيار وطني اجتماعي واعد قد يربك الجميع ويفرض استحقاقات الثورة في قائمة الأولويات.
المصدر : الجزيرة