تعد القهوة أحد أكثر المشروبات شعبية لدى مختلف الأمم، وفي كل يوم يتم شرب أكثر من ملياري كوب منها حول العالم، وتعد أغلى سلعة يتم تداولها بشكل قانوني بعد النفط، وهي المشروب المفضل للشعراء والفلاسفة، ويقال إن الفيلسوف الفرنسي فولتير كان يشرب نحو 50 فنجانا من القهوة يوميا.
العرب أول من حمّص البن
كما هو الحال مع معظم الأطعمة التي كانت موجودة منذ قرون فإن بدايات القهوة يلفها الغموض، ولكن الثابت تاريخيا أن العرب هم أول من استعملها بعدما نجحوا في تحميصها وغليها.
نشأت النسخة الحديثة والعصرية من “البن المحمّص” (القهوة) في شبه الجزيرة العربية خلال القرن الـ13، وحظيت بشعبية كبيرة في المجتمع الإسلامي بسبب قوتها المنشطة، والتي أثبتت فائدتها خلال ليالي التهجد والعبادة، وظهرت أول مقاه معروفة للقهوة في مكة المكرمة في القرن الـ15، ثم في إسطنبول في القرن الـ16.
ومن خلال تجفيف حبوب البن وغليها احتكر العرب السوق، وفي الحقيقة لم توجد نبتة قهوة واحدة خارج شبه الجزيرة العربية أو أفريقيا حتى القرن الـ17، وذلك عندما نقل حاج هندي يدعى بابا بودان حبوب القهوة من مكة المكرمة إلى الهند، ومن حبوب بودان القليلة تلك نتجت تجارة قهوة آسيوية وأوروبية جديدة شغلت الدنيا ولا تزال.
في عام 1616 أسس الهولنديون أول مزرعة قهوة مملوكة لدولة أوروبية في سريلانكا، وفي عام 1696 بدأ الفرنسيون زراعة البن بمنطقة الكاريبي، وتبعهم الإسبان في أميركا الوسطى، والبرتغاليون بالبرازيل.
لكن، ماذا نعرف عن هذا “الدواء” الذي نتناوله مرتين أو 3 مرات يوميا؟ وماذا يحدث داخل جسمك عندما تتناول القهوة في الصباح؟
التأثير السحري السريع للقهوة
وجدت دراسة أجريت عام 2019 على 80 شخصا تتراوح أعمارهم بين 18 و22 عاما أن تأثير القهوة على الجسم يبدأ حتى قبل أن تأخذ الرشفة الأولى من الفنجان، فبمجرد استنشاق رائحة القهوة المغلية يبدأ أثرها المنشط على العقل بالعمل، فتحسن الذاكرة وتحفز اليقظة.
وأظهرت دراسة أخرى أن الأشخاص أدوا بشكل أفضل في اختبارات التفكير التحليلي بعد استنشاق رائحة القهوة، لكن الدراسة اقترحت أيضا أن هناك “جانبا وهميا” في التأثير يرتبط بمعرفة الدماغ مسبقا للمفعول المنشط للقهوة.
وفي هذا السياق، يقول الدكتور مايك تي نيلسون “هناك احتمال أن يكون لاستخدام أي مكمّل تأثير الدواء الوهمي”.
لكن التأثير الحقيقي والقوي للقهوة يبدأ بعد 10 دقائق من تناولها، وتصل ذروة تركيز الكافيين في الدم بعد نحو 45 دقيقة، وفق تقرير لصحيفة “غارديان” (The Guardian) البريطانية.
كيف توقظك القهوة؟
يعمل الكافيين منشطا للجهاز العصبي المركزي، مما يجعلك أكثر انتباها وتركيزا، ويتعلق الأمر بمستقبلات “الأدينوزين” (Adenosine) في جسدك، وهو مركب عضوي موجود بشكل طبيعي في الجسم ويساعد على تنظيم معدل ضربات القلب وتدفق الدم ودورات النوم والاستيقاظ، وعندما يرتبط الأدينوزين بهذه المستقبلات فإنه يؤدي إلى استجابات فسيولوجية تؤدي لانخفاض النشاط، وغالبا ما يعزز النعاس والنوم.
يخدع الكافيين الموجود في القهوة خلاياك العصبية ويرتبط بها بدلا من ذلك، ويمنع الأدينوزين من القيام بعمله، وهذا يعزز اليقظة، فيما يسمح في الوقت ذاته للناقلات العصبية المحفزة للدماغ مثل الدوبامين بالعمل، مما يحفز العقل والجسد ويعدل المزاج، وفق تقرير “غارديان”.
ما تأثير القهوة على صحة البشر؟
يقول مارك غونتر رئيس قسم التغذية والتمثيل الغذائي في الوكالة الدولية لبحوث السرطان “آي إيه آر سي” (IARC) “تقليديا، ينظر إلى القهوة على أنها شيء سيئ”.
وخلصت البحوث في ثمانينيات القرن العشرين وتسعينياته إلى أن الأشخاص الذين يشربون القهوة لديهم مخاطر أعلى للإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية، لكن الأمور تطورت منذ ذلك الحين”، وفق تقرير لشبكة “بي بي سي” (BBC).
وأوضح غونتر أنه مع ظهور المزيد من الدراسات السكانية على نطاق واسع خلال العقد الماضي أصبحت لدى العلماء الآن بيانات من مئات الآلاف من شاربي القهوة، ولكن ماذا يخبرنا البحث العلمي؟ هل استهلاك القهوة مفيد لصحة البشر أم مضر بها؟
هل تسبب القهوة السرطان أم تمنعه؟
ارتبطت القهوة بزيادة خطر الإصابة بالسرطان لأنها تحتوي على مادة “الأكريلاميد” (Acrylamide)، وهي مادة مسرطنة توجد في الأطعمة، بما في ذلك الخبز المحمص والكعك ورقائق البطاطس.
ومع ذلك، خلصت الوكالة الدولية لبحوث السرطان في عام 2016 إلى أن القهوة ليست مسببة للسرطان إلا إذا كانت ساخنة جدا (فوق 65 درجة مئوية).
ليس ذلك فحسب، بل وجدت بحوث أخرى أن القهوة قد يكون لها بالفعل تأثير وقائي، إذ أظهرت بعض الدراسات ارتباطا بين شرب القهوة وانخفاض حدة وتكرار الإصابة بسرطان القولون لدى المرضى.
وفي عام 2017 نشر غونتر نتائج دراسة بحثت في عادات شرب القهوة لنصف مليون شخص في أنحاء أوروبا طوال 16 عاما، ووجدت الدراسة أن أولئك الذين شربوا المزيد من القهوة كانوا أقل عرضة للوفاة بأمراض القلب والسكتة الدماغية والسرطان، وتتوافق هذه النتائج مع البحوث في أجزاء أخرى من العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة.
يقول غونتر إن هناك إجماعا كافيا من الدراسات القائمة على الملاحظة أن الأشخاص الذين يشربون ما يصل إلى 4 فناجين من القهوة يوميا يعانون من أمراض أقل مقارنة بمن لا يشربون أيا منها.
ويمكن أن تذهب الفوائد المحتملة للقهوة إلى أبعد من ذلك، إذ كان شاربو القهوة في دراسة غونتر في أغلبهم من المدخنين ولا يتبعون نظاما غذائيا صحيا.
وقد يشير هذا إلى أنه إذا كانت القهوة تقلل خطر الإصابة بأمراض القلب والسرطان حتى لدى المدخنين فقد تكون أقوى مما نعتقد، إذ إنها تتجاوز تأثيرات السلوكيات غير الصحية، وفق “بي بي سي”.
هل تطيل القهوة العمر؟
خلال السنوات الأخيرة كانت كل الدراسات تؤكد أن استهلاك القهوة له فوائد صحية كثيرة، وتوضح دراسة علمية نشرتها منصة الجمعية الأوروبية لأمراض القلب “إي إس سي” (ESC) أن شرب المزيد من القهوة يؤدي إلى تقليل احتمال الوفاة.
ولم تكن هذه دراسة صغيرة، فقد شارك فيها نحو 20 ألف شخص تتبع الباحثون صحتهم طوال عقد كامل من الزمن، وكان متوسط عمر المشاركين 37.7 عاما.
وخلال تلك السنوات العشر توفي 337 من المشاركين في الدراسة (1.7%)، وراجع الباحثون بعد ذلك كمية القهوة التي أبلغ كل شخص في الدراسة عن شربها، وربط الاستهلاك بخطر الموت عبر جميع أسباب الوفاة المحتملة.
ووجد الباحثون أن المشاركين الذين شربوا “ما لا يقل عن 4 فناجين من القهوة يوميا” لديهم مخاطر أقل بنسبة 64% للوفاة مقارنة بأولئك الذين لا يشربون القهوة، كما أنه مقابل كل فنجانين إضافيين يشربهما الناس يقل احتمال موتهم بنسبة 22% مقارنة بمن يشربون كمية أقل.
وكانت الفوائد أكثر وضوحا بين كبار السن في الدراسة، إذ كان المشاركون الذين تزيد أعمارهم على 45 عاما أقل عرضة للوفاة بنسبة 30% مقابل كل فنجانين إضافيين من القهوة يوميا.
وتوقع العلماء أن الفائدة الصحية من شرب مزيد من القهوة تزداد ببساطة، لأن خطر الموت عموما يرتفع مع كل عام يتقدم فيه العمر.
وقالت مؤلفة الدراسة الدكتورة أديلا نافارو المتخصصة في أمراض القلب بمستشفى دي نافارا في مدينة بامبلونا بإسبانيا إن “نتائجنا تشير إلى أن شرب 4 فناجين من القهوة يوميا يمكن أن يكون مفيدا كجزء من نظام غذائي صحي للأشخاص الأصحاء”.