أحمد نظيف
منتصف ليل السابع من نوفمبر 1987، رن جرس هاتف بيت مدير أمن الرئيس والشخصيات، رفيق الشلي فجأةً. كان وزير الداخلية ورئيس الوزراء يومذاك، زين العابدين بن علي، على الجهة الأخرى من الخط. بلا مُقدمات، طلب بن علي من الشلي الحضور فوراً إلى مقر الوزارة، وبلا تردد قاد الشلي سيارته إلى شارع الحبيب بورقيبة. صعد إلى مكتب الوزير، ليجد قادة أركان الجيش ووزير الدفاع وأمر الحرس الوطني هناك، بينهم مدني واحد، الهادي البكوش ببدلة سوداء وربط عنق، كان مختلفاً وسط قادة العسكر والأمن. طلب بن علي من الشلي أن يرافقه إلى داخل مكتبه، ليلتحق بهم بعد دقائق الحبيب عمار، أمر الحرس الوطني، الرجل القوي وساعد الجنرال الأيمن. بعد حوار قصير كشف بن علي عن مخطط الانقلاب وأقنع الشلي بوجاهة التحرك السريع، مهدداً بــ «إستعمال القوة لو لزم الأمر»، قال له زاجراً: «في بلدان أخرى تقع تصفيته (يعني بورقيبة)». وافق رفيق الشلي على مضض – وفقاً لشهادته التي أدلى بها لاحقاً – وتسلم مُخطط الانقلاب من الحبيب عمار، الذي رافقه نحو قصر قرطاج، هناك أعطى تعليماته لعناصره بالانسحاب من مواقعهم، فاسحين المجال لوحدات الحرس كي تطوق القصر وتالياً تُخرج الرئيس عنوةً بطوافة متهالكة إلى قر مرناق. في هذه الأثناء كان الزعيم نائماً، لم يكن يدري أن يقضي ليلته الأخيرة في قصره الأثير. على الجهة الأخرى كانت حركة الاتجاه الإسلامي في حالة استنفار قصوى فجهازها الخاص كان يدبر بالتوازي انقلاباً عسكرياً عبر تنظيمها السري داخل الجيش والأمن، لكن الفرصة ضاعت. في السابعة صباحاً أعلنت الإذاعة الرسمية بيان السابع من نوفمبر طوت به عهد المجاهد الأكبر وفتحت عهداً جديداً، لكنه جاء في الخريف مع أن الخريف لا يأتي عادةً بالجديد. كان خريف الفُرص الضائعة بامتياز.
***
برحيل المنصف بن سالم، القيادي في حركة النهضة ووزير التعليم العالي الاسبق، خسرنا شاهداً وفاعلاً أساسياً فيما عُرف لاحقاً بــ«المجموعة الأمنية» و«انقلاب 8 نوفمبر 1987» الذي كانت تخطط له الحركة الإسلامية التونسية، كسبيل لافتكاك السلطة من الزعيم الهرم. بالرغم من أن العشرات من قادة الحركة الذين شاركوا وخططوا للانقلاب مازالوا على قيد الحياة ومازالوا في المشهد السياسي والحزبي ،غير أن بن سالم كان الشاهد الأهم من بين الجميع لعدة اعتبارات أولها أنه القائد المدني للمجموعة وعنصر الاتصال الوحيد بين المجموعة المدنية والعسكرية داخل «التنظيم» وثانياً، أنه كان، رفقة الدكتور الصحبي العمري، يقود المفاوضات مع السلطة من داخل السجن المدني 9 أفريل بعد فشل المشروع، وثالثاً والأهم هو أن الرجل كان الأول والوحيد بين قادة الحركة الذي اعترف بوجود المشروع وبسط بعضاً من تفاصيله في وثيقة تاريخية.
في العام 2014 نشر بن سالم مذكراته في كتاب تحت عنوان «سنوات الجمر شهادات حية عن الاضطهاد الفكري واستهداف الإسلام في تونس» طُبعت منه خمسون ألف نسخة في الكويت بمعرفة أحد أصدقائه الأكاديميين هناك، غير أنها اختفت تماماً بمجرد وصولها الى تونس. وتعرض الكتاب الى ثلاث مراجعات، فلم يتحدث عن حركة النهضة الا في مراحلها الأولى عندما كانت تسمى «الاتجاه الإسلامي» ولم يأتي على أسماء أو تفاصيل، مما يوحي بأن مقص الرقيب الحزبي قد عبث بأوراقه، وذلك يبقى استنتاج وليس أمراً مؤكداً. أن هذا المقص الرقابي قد لعب دوراً كبيراً في السابق، ولعل قصة الدكتور حميدة النيفر ومقالاته الناقدة لفكر الاخوان في مجلة المعرفة أواخر السبعينات خير شاهد ودليل على ذلك، فقد كان الغنوشي يباشر بالحذف والقص مقالات النيفر بنفسه غيرةً منه على أفكار البنا وقطب المقدسة.
ما يهمني في هذا السرد أن بن سالم لم يأتي في مذكراته على ذكر أي تفصيل أو حتى كلمة واحدة تتعلق بما حصل في 8 نوفمبر 1987، بالرغم من أهمية الحدث فالحياة لا تُسعف المرء ليشارك في الكثير من الانقلابات كي ينساها ويسقطها من مذكرات العمر، بالرغم من أن الرجل كان قد اعترف سابقاً بالمجموعة وأهدافها وسرد تفاصيل تكوينها ونشاطها من الميلاد حتى السقوط في رسالة كتبها بخط يده في العام 2002، كان قد أرسلها الى الدكتور أحمد المناعي، رئيس «المعهد التونسي للعلاقات الدولية».
وقصة الرسالة كما يرويها الدكتور المناعي: «سمعت باسم الدكتور منصف بن سالم لأول مرة في شهر جويلية 1991 عندما سلمني مهاجر تونسي مجموعة وثائق تخص المنصف بن سالم وتشتمل على نسخ من تقارير منظمات حقوقية وهيئات وشخصيات علمية ورسائل تطلب من رئيس الجمهورية التونسية إطلاق سراح بن سالم. وطلب مني أن أعمل شيئاً في الموضوع مع المنظمات الحقوقية الأوروبية. لم أعمل شيئاً يذكر إلى حد شهر حزيران / جوان 2002 عندما جاءتني رسالة من أحد أعضاء لجنة مساندة المنصف بن سالم في الخارج، يطلب مني تحريك الملف. فكتبت رسالة للمعني بالأمر أطلب منه مزيداً من المعلومات عن شخصه وطبيعة نشاطه، خاصة وقد علمت خلال تلك السنوات أنه كان قائد المجموعة الأمنية، ولا يمكن في هذه الحالة تقديمه كعالم وناشط حقوقي مقموع لعلمه ونشاطه الحقوقي. وقد تعهدت له في الرسالة بأني سأنشر له كتيباً عن وضعه إن هو بعث لي بالمادة المطلوبة في الموعد. وتحركت مع ذلك على مستوى اليونسكو. في 26 مارس 2003 وصلتني وثيقة في خمسين صفحة، منها ثلاث صفحات عن المجموعة الأمنية التي قال فيها السيد راشد الغنوشي، «أنها لا تلزمنا» والبقية تخص سيرته الذاتية».
في فاتحة الرسالة يتحدث بن سالم عن دواعي تكوين المجموعة قائلاً: «بعد صدور حكم محكمة أمن الدولة ( صدرت في خريف العام 1987 أحاكم بالإعدام على قيادات حركة الاتجاه الإسلامي بينها راشد الغنوشي و علي العريض) و بعد الممارسات الوحشية للبوليس و صدور ألاف الأحكام الأخرى من المحاكم الجهوية و كانت كلها مجحفة و لا تستند إلى أي قانون أو أخلاق قضائية علمنا أن بورقيبة استدعى وزيره الصياح، و طلب منه تحضير محاكمة أخرى يتم بموجبها حصد 30 رأساً من كبار الإسلاميين، عندما جاءت فكرة التصدي بالقوة للجنون البورقيبي و زبانيته فكانت المجموعة الأمنية التي سميناها، مجموعة الإنقاذ الوطني».
ومن خلال هذا التصدير نلاحظ أن الحركة كانت تعرف كل شاردة وواردة داخل أروقة السلطة وأن لها أفراداً يتبعونها من داخل أجهزة الدولة، وفي هرم السلطة في قرطاج داخل مؤسسة الرئاسة وفي القصبة في رئاسة الوزراء وفي وزارة الداخلية في أجهزة الحزب الحاكم، حتى أن حواراً داخلياً سرياً جرى بين مدير الحزب الحاكم، محمد الصياح والرئيس بورقيبة وصل الى قيادة الحركة. هذا لو فرضنا جدلاً صحة المعلومة التي ساقها بن سالم في تبريره.
ثم يضيف بن سالم في ذات السياق: «المجموعة تكونت بسرعة خيالية وهي تضم عدداً من العسكريين من شتى الرتب ومن رجال الأمن بكل أصنافهم ومن المدنيين، وضعت المجموعة لنفسها هدفاً واحداً هو إزاحة بورقيبة ومن سار في دربه عن الحكم أما وسائلها فهي سلمية إلى أبعد حد ممكن ولذلك تم جلب 5000 مسدس غازي من الخارج قمنا بتجربته على أنفسنا للتأكد من عدم إلحاق الضرر بالمستهدف، دور المسدس هو تحييد المستهدف لمدة نصف ساعة، وسائل الدفاع الأخرى من الأسلحة النارية والدبابات والطائرات العسكرية تكون بيد رجال المجموعة. وما لم يكن كذلك يتم تحييده قبل بدء العملية بساعات محسوبة ومدققة، اخترنا أن تكون العملية أفقية أي تعتمد على العنصر القاعدي أكثر منه على القيادات. كما خططنا لدمج المدد المدني في الساعة الثانية والثالثة من البدء. فقد عرفت العاصمة هيجان شعبي لم يسبق له مثيل في المظاهرات واستطاعت الحركة أن تنزل للشارع مسيرات يصل عدد المشاركين فيها عشرات الآلاف رغم البطش البوليسي اجتمعت قيادة المجموعة يوم 15/ 10/1987 وبعد مسح لإمكانياتنا ومواقعنا قررنا أن يكون يوم 7/11/1987 آخر أيام بورقيبة في الحكم وهو ما تم بالفعل».
والغريب في هذا المقطع أن يقول بن سالم أن «المجموعة تكونت بسرعة خيالية» فهل من المنطقي أن يتم تجنيد عشرات الضباط في الجيش التونسي وفي جهاز الحرس الوطني والشرطة والجمارك في أيام قليلة، خاصة وأن تجنيد عناصر تشتغل في أجهزة حساسة وذات صبغة أمنية يتطلب جهداً طويلاً وعملاً متواصلاً لسنوات، وهذا أمر يعلمه كل من خاض نشاطاً تنظيمياً سرياً. وقائع أخرى وروايات ومحاضر تؤكد أن بن سالم قد جانب الصواب في هذا التفصيل المهم. فهدف المجموعة لم يكن تحرير سجناء الحركة فقط بل كان الوصول الى السلطة كما أن المجموعة لم تتشكل في ظرف أيام ولم تفرضها الضرورة أو الحاجة بل جاءت نتيجة عمل حركي سري متواصل وموجه وذا هدف واضح انطلق منذ أواخر السبعينات داخل تنظيم سري أمني داخل الحركة.
ويواصل بن سالم سرد تفاصيل ما قبل التنفيذ: «في أوائل تشرين الثاني نوفمبر علمنا أن بورقيبة استدعى الصياح وطلب منه تحضير أمر بتسميته وزيراً أول عوضاً عن بن علي مقابل ذلك أن يقطع 30 رأساً من الإسلاميين وكان رد الصياح أن يؤخر التسمية هذه ليوم الاثنين الموافق لـــ 9/11/1987. من جهة أخرى علمنا من أوساط مقربة من الصياح أن خلفيته في تأخير التسمية هو تنفيذ خطة القضاء على بن علي والإسلاميين معا. يوم11/7 هو عيد الشجرة ومن المفروض أن يقوم بن علي نيابة عن بورقيبة بالإشراف على هذا العيد في إحدى منتزهات المنار بضاحية العاصمة، يتم اغتياله وإلصاق تهمة الاغتيال بالإسلاميين فتعاد محاكمتهم ويحقق غرض بورقيبة إلا أن ما تم لم يكن كذلك. لئن كان معظم عناصر المجموعة الأمنية من الإسلاميين فهي لم تخل من عناصر لم تكن لها تلك الميولات وإنما اتصفت بالشهامة والثقة وحب الوطن والكراهية لنظام بورقيبة، كان وقتها كلام الناس ألا يوجد رجل في هذا البلد يزيح بورقيبة ويريح الأمة من هستيريته؟».
وهنا يتجلى أكثر اختراق الحركة لكل أجهزة الدولة عرضاً وطولاً، فقد كانت المداولات الرسمية وغير الرسمية والحوارات الجانبية والقرارات تصلها لحظة بلحظة، فكانت على ضوئها تقرر طريقة تحركها في مواجهة السلطة في الشارع وليس من المعقول التصديق بأن حركة تصلها أخبار مدير الحزب الحاكم وتفاصيل اجتماعات الرئيس السرية كونت مجموعة مؤلفة من أكثر من مائة ضابط للقيام بانقلاب عسكري «بسرعة خيالية» !!
يقطع المنصف بن سالم سبيل السرد الزمني لتفاصيل تكوين المجموعة وهدفها بإيراد تفصيل مهم سيكون حاسماً فيما بعد في اسقاط المشروع برمته: «يوم 5/11/1987 أحد أعضاء المجموعة من الدائرة الثالثة وهو عون من النظام العام كتب ورقة فيها ما له وما عليه من الديون وسلمها لخاله للاحتفاظ بها. هذا الأخير قرأ الورقة فبعثت في عقله شكوك كثيرة. الجو العام يبعث على ذلك ألح على ابن أخته أن يصارحه بالأمر ووعد بكتمان السر وأقسم على ذلك. العون لم يكن يعلم الكثير فهو في الدائرة الثالثة سوى أنه سيقوم صحبة 3 من رفاقه بتعطيل بعض الآليات في ثكنة النظام العام يوم 7/ 11/1987.الخال هذا أخلف وعده وسارع بإعلام وزير الداخلية حيث كان يعمل وكيل أول في الشرطة مكلفاً بالتمريض في المصحة. الوزير الأول هو نفسه وزير الداخلية أي بن علي. أمر بإيقاف العون والرفاق الثلاثة يومها. الأعوان الأربعة لا يعلمون كثيراً عما سيجري يوم 7/11/1987. إذن لم تتمكن السلطة من التصدي إلى العملية. فالسلطة تعلم حجم الإسلاميين كما أن المخابرات الغربية وعلى رأسها الأمريكية لم تكن قد علمت شيئا رغم قوتها واختراقها لكل أجهزة الدولة فالأمر جد خطير بالنسبة للنظام العام. »
لم يشر الدكتور بن سالم الى مؤشر أخر ساهم في اسقاط المشروع، فبالموازاة مع إيقاف أحد أعضاء المجموعة، تم إيقاف القيادي في حركة الاتجاه الإسلامي و المسؤول عن «جهازها الخاص» محمد شمام في 27 أكتوبر 1987 خلال دورية روتينية للأمن العام في محيط فندق المشتل بالعاصمة ،و بذلك حصلت السلطة على صيد ثمين أعتقد أنه كان أكثر تأثيراً من سقوط العون البسيط في كشف مخطط الانقلاب و تفاصيل المجموعة الأمنية ،فشمام لم يكن عنصراً ثانوياً في الحركة بل كان قيادياً عارفاً بخبايا المشروع بل مشاركاً فيه منذ كان مخططاً نظرياً و عاشه بكل تفاصيله ، بل ان عبد الله عمامي في كتابه «تنظيمات الإرهاب في العلم الإسلامي» يذهب الى أن «شمام هو من طرح مشروع البدائل في مؤتمر الحركة و هو الذي أشرف على خطة صالح كركر المعروفة بتثوير المدن في صائفة 1986 لتعفين الأوضاع و خلق ظروف الانقلاب».
يعود بن سالم في رسالته الى سرد وقائع العملية قائلاً: «يوم 6/11/1987. انعقد اجتماعان: الأول في وزارة الداخلية برئاسة بن علي، تم فيه جلب جل الوزراء وكنا على علم بذلك والثاني في منزل بباردو برئاستي وضم عدداً من قيادات الأجهزة المختلفة التابعة للمجموعة ولم تكن السلطة على علم به. رجال المجموعة كانوا في المواقع الحساسة في انتظار أوامر البدء أو ساعة الصفر المحددة لكل عمل. عندما بدء بن علي وجماعته التغيير ليلتها كان عناصر المجموعة في المقدمة أذكر على سبيل المثال مجموعة الكمندو التي اقتحمت قصر قرطاج كانت بقيادة الصادق غضبان وهو من المجموعة. وسجن معنا فيما بعد، بعد توسيمه وترقيته من قبل بن علي. طائرة الهليكوبتر بقائديها التي حملت بورقيبة من قرطاج إلى مرناق هي نفسها التي خصصناها نحن لنفس الصنيع. قائد قاعة العمليات بالعوينة المشرفة على امن تونس الشرقية أين توجد قرطاج ومعظم النقاط الحساسة كان الرائد محمد المنصوري الذي قتل تحت التعذيب يوم 1/12/1987.الحارسان لبن علي كانا من المجموعة وقد سجنا معنا بعد التوسيم».
يؤكد بن سالم في كل مرة أن الحركة متغلغلة داخل السلطة، فقد وصلتها أخبار اجتماع بن علي بالوزراء في مقر وزارة الداخلية يوم السادس من نوفمبر 1987، والطريف أن بن علي أيضاً كان متفطناً لذلك، فقد أشار الهادي البكوش، رئيس الحكومة الأسبق والساعد الأيمن لبن علي في مُخطط 7 نوفمبر، خلال شهادته على العصر على شاشة قناة الجزيرة، أن بن علي قال له خلال هذا الاجتماع أن: «الاخوانجية يُدبرون انقلاباً ويجب أن نحسم الامر بسرعة».
ثم يمر بن سالم الى رواية قصة سقوط المجموعة وتبخر المشروع أمام صعود بن علي الى السلطة في غفلة من الجميع وباستعمال «المقدرات الانقلابية» التي وفرتها له الحركة الإسلامية بدون وعي منها: «بعد التغيير بحوالي أسبوعين أعيد بحث الموقوفين الأربعة ونظرا لجو الانشراح السائد بعد إزاحة بورقيبة فقد وقعت هفوات كثيرة مردها إلى إن الإخوة اطمأنوا للخطاب الجديد الذي جاء فيه أن آخر أيام بورقيبة لا تحتمل ولا تطاق ضناً منهم أن بن علي سيفتح صفحة جديدة وأن انكشاف المجموعة الأمنية ليس فيه أي خطر. فالمفروض أن يجازي بن علي من أعانه على التغيير وكان بإمكانه التصدي له. إذن وقعت هفوات وثغرات مكنت أجهزة أمن الدولة من إلقاء القبض على 157 عنصراً كنت تقريباً أخر من أوقف يوم 26/11/1987 مساء».
وفي هذا السياق لابد من الإشارة الى تفصيل مهم كشف عنه أحد أعضاء المجموعة الأمنية و هو الدكتور الصحبي العمري، الذي قال إن: «راشد الغنوشي زعيم حركة الاتجاه الإسلامي و خلال لقائه مع بن علي في قصر قرطاج في أعقاب الافراج عنه في العام 1988 قد سلم لبن علي ملف المجموعة الأمنية كاملاً في سبع و سبعين صفحة و فيه تفاصيل تكوينها و أهدافها» كان ذلك في سياق الانفتاح على السلطة الجديدة و كمقايضة للحصول على الاعتراف الرسمي و القانوني من الدولة يومها.
ثم عقب بن سالم في رسالته على ظروف السجن والانتهاكات التي تعرضوا لها: «في زنزانات أمن الدولة كان التعذيب رهيبا وصل إلى حد القتل والشلل وقطع جلدة الرأس والتهديد باستعمال الزوجات، كنت في زنزانة 16 بالدور الرابع لم يكن فيها دورة مياه ولا يحق لي الذهاب الي المرحاض إلا مرة في اليوم ولمدة لا تزيد عن دقيقة واحدة مما حدا بي إلى الإحجام عن الأكل حتى لا أصاب بكارثة صحية. كان الطعام يقدم لنا في علب الطماطم القديمة والمتصدية وكان طعامنا لا تأكله الكلاب. كنت أسمع صياح المعذبين ليلاً نهاراً. وكنت أقول لنفسي أين التغيير؟ أين بيان 7/11؟ أين الوعود؟ أين صدق المسؤولين؟ دام التحقيق حتى بداية كانون الثاني يناير 1988. تم بعد ذلك إحالتنا على حاكم التحقيق العسكري. كنت آخر من بقي في الداخلية بمعية العون الذي كشف المجموعة. انقلب أثناء الإيقاف وصار مخبراً للبوليس. علمت فيما بعد أنه تم ترقيته ثم أرسل إلى إحدى السفارات التونسية بالخارج والله أعلم. المؤكد أنه لم يلتحق بنا في السجن ولم يدرج اسمه في تقرير ختم البحث لدى حاكم التحقيق العسكري حاولت السلطة في البداية عزلنا عن العالم بقينا حوالي سنة بدون وسائل إعلام من تلفزة وجرائد ورسائل. وصل بنا الحال إلى شراء جريدة الصباح بمقابل عشرة دنانير أي خمسين مرة ضعف ثمنها من سجين حق عام خلسة من الحراس. لا يكفي ذلك حاولت السلطة أن تظهرنا للرأي العام على أننا مجموعة مفسدين لا غير. لكن والحمد لله لم تفلح في ذلك فقد نشرت بعض الصحف مقالات تحدثت فيها عن أعضاء المجموعة وتاريخهم بشيء من المصداقية وهو ما جلب لنا الاحترام والتعاطف من الشارع. قلت مرة في مقابلة مع رئيس القضاء العسكري: سوف لن نحاكم. قال لي ولماذا وكيف؟ قلت له نحن قمنا بعمل ضد بورقيبة مثلنا مثل رئيسك بن علي. فان كان ولابد أن نحاكم فيجب أن نعيد بورقيبة للسلطة وندمج بن علي وجماعته معاً لنتحاكم جميعاً. هذا هو المنطق. قال لي: أنتم الآن في قارورة مغلقة يمكن أن نفعل بكم ما نشاء دون علم أحد؟ قلت له هذا خطأ. أنت تعلم أن عددا كبيرا من قيادة المجموعة فرت بالخارج ومعها كل وثائق المجموعة المقدرة بحوالي 500 صفحة وهؤلاء العناصر ينتظرون نتيجة التحقيق لنشر ما يمكن نشره. فوجئ مخاطبي بما قلت ولم يجد ما يقول. القول بأننا عصابة مفسدين كما تريد السلطة أن تمرره عبر وسائل الإعلام قوبل بالسخرية من الشارع التونسي وأعاد لأذهان الناس ما كانت عليه تلك الوسائل زمن حكم بورقيبة».
ويعني بن سالم بقوله بالقيادات التي فرت الى الخارج، عبد الفتاح مورو وصالح كركر وحمادي الجبالي الذين كانوا يومها في العاصمة البريطانية لندن، فقد أشرف كركر الذي كان أميراً للحركة يومذاك، بعد دخول الغنوشي للسجن، بنفسه على صياغة البيان الانقلابي وقد سافر القيادي في التنظيم الخاص سيد الفرجاني إلى لندن في 20 أكتوبر 1987 موفداً من المجموعة الأمنية للقاء كركر وتلقى منه مشافهة التوصيات الأخيرة حول العملية والبيان الانقلابي. وقد اعترف كركر بذلك في شهادته للصحفي الفرنسي فرانسوا بورغا، المقرب من الحركة الإسلامية، والتي نشرها في كتابه «الإسلام السياسي صوت الجنوب».
يختم بن سالم رسالته بالحديث عن مسار المفاوضات مع السلطة: «في صائفة 1988 بدأت السلطة بفتح قنوات للتفاوض معنا وقام المرحوم أحمد الكتاري بالدور الرئيسي في هذه المفاوضات. السيد أحمد الكتاري من المقربين جدا لبن علي ويشغل مديراً عاماً للسجون. كنت أنا والدكتور الصحبي العمري من جانب المجموعة في السجن. طلبت منا السلطة اقتراح حل للمجموعة يحفظ ماء الوجه للسلطة التي تورطت في شتمنا وتشويهنا ظلماً وعدواناً. بعد أخذ ورد اتفقنا على حل يرضي الجميع: يقع إطلاق سراح المجموعة على 3 أفواج: الفوج الأول في نوفمبر 1988 والثاني في مارس 1989 والثالث في أفريل نيسان 1989 أكون أنا ضمن الفوج الأخير. قبل خروج كل فوج يتم صرف مرتبات عناصره كاملة منذ توقيف الأجور. يكون الصراح بقرار وقف التتبع. وقد رفضت كما لازلت أرفض قبول عفو أيا كان شكله. فالعفو منطقيا من الله أو من المظلوم للظالم لا العكس. كما اتفقنا على تكوين لجنة متناصفة منا ومن وزارة الداخلية والدفاع بعد خروج الجميع من السجن تكون مهمتنا إعادة عناصر المجموعة لسالف شغلهم أو منحهم مناصب أخرى موازية لمهنتهم تم بالفعل ما اتفقنا عليه سوى أن أجور المدنيين من عناصر المجموعة لم تصرف وبقيت مجمدة إلى الآن. غادرت السجن يوم 4 /5/1989 وكنت فعلاً أخر من يخرج من المجموعة».
بالرغم من كل المأخذ على مضمون الرسالة ومحاولة الراحل بن سالم اظهار مشروع الانقلاب كردة فعل عفوية على سياسة السلطة وبأن المجموعة هي مجموعة انقاذ وطني كما سمت نفسها وليست مجموعة انقلابية تروم الوصول الى السلطة فان روايات أخرى وشهادات لأشخاص كانوا في المجموعة أو في السلطة تؤكد أن المشروع كان أبعد من تخليص البلاد من الرئيس بورقيبة وأعمق من اسقاط رئيس وتنصيب أخر. فمسار الحركة الإسلامية منذ نشأتها و خاصة في سنوات الثمانينات و أدبياتها الفكرية و تبنيها لأفكار جماعة الاخوان المسلمين و إقرارها وثيقة الرؤية الفكرية و المنهج الاصولي التي تعتبر فكرة التمكين هي الهدف السامي الذي تعمل من أجله الحركة و الذي هو سبب وجودها، هذا المسار، يؤكد أن الحركة كانت تسير في مشروع واضح المعالم و دقيق الأهداف وهو الهيمنة على السلطة و التمكين لــ «دولة الإسلام» .
بقي أن نشير الى تفصيل مهم، هو مصير رجال السلطة اذ ما قدر للانقلاب النجاح، اذ يروي الهادي البكوش في شهادته أن معلومات وردت إليهم تكشف عن نية المجموعة تصفية الرئيس بورقيبة وحاشيته جسدياً، وذلك مُصدقاً لما أورده الدكتور بن سالم في رسالته بالقول: «ألا يوجد رجل في هذا البلد يزيح بورقيبة ويريح الأمة من هستيريته؟». لكن ما يحسب لبن سالم شجاعته في الكشف عن كل هذه التفاصيل والاعتراف بالمجموعة ومشروعها – رغم السقوط في التبرير – شجاعة لم يتحلى بها الكثير من قيادات حركة النهضة وخاصة رئيسها راشد الغنوشي الذي أنكر في أكثر من مناسبة مسؤوليتهم عن الحادثة وحين سئل عن المجموعة الأمنية قال «أنها لا تلزمنا».