رولا زين
جيش يطارد الغزاة شمالاً وجنوباً، يحارب المغول الجدد شرقاً وغرباً حفاظاً على وحدة وطن وسيادة بلد. ما أن يُقفل جبهة حتى تُفتح أمامه جبهات. ومواطن ليس أفضل حالاً يواصل ترحاله، من قرية لأخرى، من كوخ لحفرة. وأحياناً يفترش الأرض ويلتحف السماء.
ملايين تركوا صورهم وذكرياتهم داخل الوطن هاربين من قصف ودمار، وملايين أخرى، أطفال ونساء تصرخ، تتضور جوعاً وترتعش برداً في بلدان الجوار.. الأشقاء .. وعند الأصدقاء ـ الأعداء.
وسط هذا المشهد المروع لأبناء وطني تعلن الأمم المتحدة عن خفضها للحصص الغذائية للاجئين السوريين إلى الخمس، بسبب نقص المعونات والتبرعات. وكل يوم نداء وجمع للتبرعات. وكل مساء حفل عشاء لجمع التبرعات. والمليارات تُضخ من أجل هؤلاء، لقتل هؤلاء؟
منذ أربع سنوات والعقوبات الغربية مفروضة على الشعب السوري، عقوبات لاإنسانية جائرة. أحصيتُإثنتي عشرة حزمة، أو ربما أكثر. الهدف المعلن منها معاقبة أفراد، وتأديب نظام، لكننا نعرف أن حصيلتها قتل شعب، لا تهم الأرقام. قتلت في العراق مليوناً ونصف مليون، ماتوا بحثاً عن الدواء. ثلاثة عشر عاماً عقوبات على العراق، ومثلها في غزة .. هل سمعتم صوتاً تعالى يطالب برفع العقوبات عن الشعب السوري؟ عن هذا المواطن الشريف الذي يحاربون به، بروحه وبدمه، وليس من أجله؟
من لا يملك قوت يومه لا يملك حرية قراره، قالها الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، فعن أية حرية يتحدثون؟
المواطن السوري الشريف، مواطن أبيّ وفخور. تعوّد العيش بكرامة، دوماً مرفوع الرأس، لايهجر وطنه ولا يهاجر. الكهرباء مؤمنة له على كامل أرضه، بل ويصدرها للبلدان المجاورة. دواؤه متوفر ومدعوم لأنه صناعة وطنية محلية، حتى علاج مرض السرطان ، الباهظ الثمن ، مجاني في بلده. حِرفّي مبدع يُضرَب المثل بابتكاراته، يزود جيرانه بكل شيء، بدءاً بالألبسة الداخلية القطنية.. أفخر مفرش طاولة تشتريه في باريس يحمل إسم عاصمته: بروكار أو “نسيج دمشقي”، تقول لك البائعة مبتسمة قبل أن تعلن لك السعر المرتفع نظراً للجودة والأصالة.
إكتشَف هذا المواطن الشريف وهو يتابع برنامج “من يربح المليون”، أن بلده سوريا أغنى بلد عربي. فديونه الخارجية معدومة، ولديه إكتفاء ذاتي، يُصّدر القمح حتى إلى مصر. يمكنه أن يسافر إلى “بلاد برا” لأن سعر صرف الدولار ثابت منذ سنين: خمسون ليرة للدولار الواحد، لا أكثر ولا أقل. شاء من شاء وأبى من أبى.
ثمن بطاقة السفر على متن طيرانه الرسمي أرخص بطاقة سفر في العالم. والقبطان الذي يقود الرحلة أبرع قبطان على الإطلاق، حصد جوائز عالمية وأوروبية. لا تشعر بأنك لامست الأرض وهو يحط بك من السماء على أرض المطار.
المواطن السوري الشريف موظف أو مزارع، صاحب متجر أو معمل، أستاذ مدرسة أو فنان، يعيش بأمان ويصطحب عائلته يوم الجمعة في سيارة سوزوكي إلى الربوة أو الهامة، في حين يتوجه مديره في العمل إلى شتورة أو بيروت في سيارة يسدد ثمنها بالتقسيط.
كان ينقص هذا المواطن، حتماً، شيء من الحرية السياسية أو الثقافة الديموقراطية ليصبح أباً سعيداً، وفقاً للمعايير الغربية، أو ربما أمراً آخر أكتبُ عنه حين أوقّع هذه السطور من داخل الوطن، وليس من بلد الاغتراب. لأن الزمن زمن اللحمة والتكاتف لتبقى سوريا وتبقى الهوية.
ذات يوم، جاءت مجموعة وتعهدت بتقديم ما ينقص لهذا المواطن الآمن البسيط وليس الساذج، ولكن مقابل ثمن، ويا له من ثمن!!
اشترطت وخططت قبل كل شيء أن تفعل التالي:
تذله وتجعله لاجئاً متسولاً… مقابل الحرية.
تمنع عنه الغذاء والغاز والدواء…من أجل الحرية.
تدمر بيته وتفكك مصنعه وتسرق ماله…من أجل الحرية.
تحرّف دينه وتتهمه بالكفر ثم تصلبه لكي يقتنع … بالحرية.
تحرق محصوله من القطن وتقطع أشجار الزيتون…من أجل الحرية.
تهدم تراثه وتدمر مساجده وكنائسه… باسم الحرية.
تقتل أصدقاءه المسيحيين وتهجر جيرانه الأرمن…مقابل الحرية.
تَغتصِب زوجته وبناته أمام أنظاره وتمثّل بجثث أبنائه… ثمناً للحرية.
تعيده إلى العصر الحجري، لا مصرف، ولا تحويل ولا فيزا كارت… لقاء للحرية.
تجعله يبحث عن جواز سفر مزور كي يهيم على وجه الأرض مشرداً دون هوية، وإذا ما حاول الهرب بقوارب الموت تتركه يصارع الأمواج، حتى يعود إليها راكعاً مستجدياً سلة الخبز. فتقول لزوجته مريم إن إسمها قد شُطب من لائحة الإعانات كي تُشعِل النار في جسدها قهراً وحسرة.
قالت المجموعة سنعمل أي شيء، كل شيء، كي يقبل حريتنا الجاهزة المعلبة، وإن لزم الأمر نلغيه من الوجود، هو ووطنه. لكن المواطن الشريف وقف منتفضاً وقال لهم صارخاً: أنا من هنا، وهنا أنا، أبداً هنا.
أيها المارون كدسوا أوهامكم في حفرة مهجورة وإنصرفوا!
الحاضر والمستقبل لنا، إخرجوا من أرضنا.
بقلم رولا زين
كاتبة سورية مقيمة في باريس
رأي اليوم