كان اسبوعا فضائحيا بامتياز للسياسة الأمريكية في سوريا بل والشرق الأوسط، او هكذا قد يذكره التاريخ. بدأ مع إعلان قائد القوات الأمريكية في الشرق الأوسط الجنرال لويد أوستن الأربعاء الماضي أن «4 أو 5» معارضين سوريين فقط من الذين دربتهم بلاده وجهزتهم، يقاتلون على الأرض حاليا في مواجهة تنظيم «الدولة»، وسرعان ما تبعته تصريحات وزير الخارجية الامريكي جون كيري ان الرئيس السوري بشار الاسد «يجب ان يرحل، ولكن ليس بالضرورة فورا»، وان موعد رحيله يمكن ان يتحدد «عبر التفاوض» معه بالطبع. اي ان الاسد الذي اصبح مدعوما بالماكينة الحربية الروسية، ودعوات غربية للتعاون معه، سيقرر طوعيا ان يرحل بعد حين عن الحكم(…).
نعم لا بد ان التاريخ سيقف عند هذا التحول في السياسة الأمريكية، خاصة إعلان الجنرال أوستن في شهادته أمام لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ أن اولئك الأربعة او الخمسة جنود هم من بقوا على الارض من إجمالي 54 مقاتلا دربتهم الولايات المتحدة».
نعم هذا هو كل ما فعلته الولايات المتحدة لاصلاح جريمتها التاريخية في غزوها العراق التي أدت الى تحويله الى «جنة آمنة» للإرهابيين، ليس تنظيم «الدولة» سوى احد ثمارها.
وكانت الادارة الأمريكية أعلنت ان تدريب هؤلاء الاربعة وخمسين جنديا قد تكلف اثنين واربعين مليون دولار، خلال نحو شهرين، الا ان اغلبية القوة تعرضت إما للاسر او القتل على أيدي جبهة النصرة، الفرع السوري لتنظيم القاعدة، حتى قبل ان تبدأ اي احتكاك مع قوات تنظيم «الدولة» في سوريا.
وبعملية حسابية بسيطة يتضح ان تكلفة تدريب الجندي الواحد في القوة الاصلية تبلغ سبعمئة وسبعة وسبعين الف دولار. اما اذا اردنا حساب التكلفة الاجمالية لتدريب الجنود الخمسة الباقين من القوة، فسيتضح ان الجندي الواحد منهم تكلف ثمانية ملايين واربعمئة الف دولار(..). لاعجب اذن ان واشنطن حذرت الجيش السوري من المساس بهؤلاء الجنود الخمسة الذين تعول عليهم لمواجهة تنظيم «الدولة» على الارض وهزيمته (..) واسقاط نظام الاسد وتحرير سوريا من الحكم الديكتاتوري وربما اقامة نظام اقليمي جديد في الشرق الاوسط ايضا (..).
وبالطبع انهمرت في مواقع التواصل منذ تلك التصريحات تعليقات ساخرة لكن مريرة، تساءلت عن نوع الطعام او الملابس التي قدمتها ادارة اوباما لهؤلاء المعارضين، وان كانوا تحولوا الى نسخة جديدة من شخصية «رامبو» الأمريكية المعروفة، وكذلك مقدار التكلفة الإجمالية اذا قررت واشنطن تدريب خمسين الفا من «المعارضين المعتدلين» حسب زعمها، بدلا من اربعة وخمسين فقط، ومن سيدفع هذه المبالغ حقا في النهاية.
وكان البرنامج الذي خصص له الكونغرس 500 مليون دولار قبل عدة شهور لم يتمكن من الخروج للنور، حيث أن الهدف كان تدريب 5 آلاف سنويا.
ومن جانبه قال السيناتور الجمهوري جيف سيشنس، إنه «فشل كامل» في حين اعتبرت السيناتورة الجمهورية كيلي أيوت أن الأمر لا يعدو كونه «مزاحا».
انه حقا لـ»مزاح أمريكي» لكنه من النوع السمج المفتقد الى أي حساسية أو مسؤولية، ضمن مشهد تراجيدي، تاريخي في مأساويته.
أما على الجانب السياسي، فان الفضيحة الأمريكية لا تقتصرعلى الافتراضات الساذجة التي يتضمنها تصريح كيري حول «رحيل الاسد بالتفاوض»، بل يتعداه الى مزيج صادم من الجهل والعجز تجاه تحول استراتيجي روسي شهدته الساحة الروسية مؤخرا، وتتجاوز مجالات تأثيره الحدود الى قلب الشرق الاوسط الذي كان يوما «حديقة خلفية» للولايات المتحدة دون منازع.
اما حقائق الواقع التي يعلمها كيري جيدا لكنه مازال يراوغ، مخادعا نفسه وحلفاء امريكا في المنطقة، لاخفائها فهي ان الرهان الامريكي في سوريا قد فشل فشلا ذريعا، وان معطيات القوة الجديدة لا يمكن الا ان تفرض نفسها على الجميع، وهو ما يمثل في النتيجة اعادة صياغة شديدة الدبلوماسية لتصريح وزير الخارجية السوري وليد المعلم الذي قال فيه ان «التدخل الروسي سيقلب الطاولة على الجميع».
فلمن يجب ان تعتذر ادارة اوباما أولا: هل للشعب السوري الذي أعطته الأمل يوما بالتصدي للنظام، ثم تراجعت في الدقائق الاخيرة عن تعهداتها بقصفه عند ثبوت استخدامه للاسلحة الكيماوية، ثم اكتفت بتدريب اربعة وخمسين جنديا، بقي منهم (اربعة او خمسة)؟
ام تعتذر للحلفاء العرب الذين مازالوا يتحدثون عن ضرورة إسقاط الرئيس السوري اولا، فيما يرونها تنتظر موافقته على التفاوض، بينما يهبط على المشهد نفوذ حديدي روسي سرعان ما سيكون حاكما في الميدان وحاسما في السياسة؟
أم أن الإدارة الأمريكية لم تستوعب تماما بعد مآلات كل هذه التحولات الاستراتيجية، وتكتفي عمليا بقول اي شيء بينما تعد الايام الباقية لها في البيت الابيض، قبل إسدال ستار بلون الدم على مسلسل فشلها التاريخي في الشرق الاوسط، مع استثناء وحيد بالطبع اسمه الاتفاق النووي مع ايران؟
القدس العربي