رياض الشعيبي
بعيدا عن التحالفات الآنية بين حركة النهضة الإسلامية في تونس وحزب نداء تونس ممثل المصالح الاقتصادية والمالية للمنظومة القديمة في إطار ائتلافهم الحكومي، وهو التقاء ظرفي بحسب التبريرات المشتركة بين أصحاب النوايا الحسنة من أنصار هذا الائتلاف وأصحاب النوايا السيئة من معارضيه. بعيدا عن هذا الجدل الحيني، يلاحظ المتابع لمسار تشكل الحركات الإسلامية مهما اختلفت فيما بينها انها بمجرد أن تواجه تحدي السلطة إلا وتتحول إلى حركة يمينية ليبرالية التوجهات الاقتصادية والاجتماعية.
ربما كان مبررا التحالف التقليدي بين القوى الليبرالية واليمين الديني في اوروبا تحت مسمى القوى المحافظة في مواجهة قوى اليسار الاجتماعي والثقافي، رغم ابتعاد هذا اليسار في سنواته الأخيرة عن جذوره الماركسية. فقوى رأس المال في أوروبا الحديثة وريثة النبلاء والإقطاعيين في القرون الوسطى كانت باستمرار تحتاج لقساوسة الدين الكنسي لتوفير العزاء عن الحيف الاجتماعي الذي تتسبب فيه سياساتها المتوحشة، لذلك استمر هذا التحالف التاريخي لقرون طويلة في تشكيل قوة سياسية توفر مبررات أخلاقية دينية وثقافية للتفاوت الاجتماعي المتصاعد.
مقابل ذلك نشأت الدعوة للعدالة الاجتماعية في الفكر السياسي الحديث في مواجهة آلة الظلم الاقتصادي/الديني التي بدت الثورات السياسية والاجتماعية التي قامت ضدها مرتبطة عضويا بثورات معرفية كشفت الغطاء عن أن تحرير الإنسان يمر من خلال رفع وصاية القساوسة على تفكيره في نفس الوقت الذي تتحقق فيه حقوقه الاقتصادية والاجتماعية.
قد يبدو مبررا إلى حد ما ولو بحكم الأمر الواقع تحالف قوى اليمين الديني مع اليمين الاقتصادي بما أفضي إلى إنتاج يمين سياسي محافظ في أوروبا، لكن يبقى غير مفهوم استنساخ هذا الارتباط التاريخي في تجارب الحركات الإسلامية في السلطة.
لا أريد، العودة في محاججة هذه الحركات، إلى النصوص الدينية لتأصيل مطلب العدالة الاجتماعية في الفكر الإسلامي أولا لان لا فائدة من ذلك ما دام هذا التأصيل سينقل الخلاف في وجهات النظر إلى مجال المقدس حيث الإيمان العميق والراسخ بالعدل الإلهي، وثانيا لأنه لم يفد كثيرا من قبل توارد النصوص الإنجيلية الداعية للتآخي الإنساني في إصلاح قساوسة ادعو الوصاية على الإرادة الإلهية العادلة.
لكن مهم جدا العودة للمسار التاريخي للتجربة الاجتماعية والدينية للمجتمعات العربية والإسلامية، حيث نكتشف بسرعة حجم الانحياز الذي أبداه علماء وفقهاء أفذاذ للمحرومين والفقراء والمساكين، لا يتسع المجال الآن لذكر سيرهم. فغالبا ما انحاز هؤلاء للمستضعفين في نضالهم الطبقي ضمن مفهوم متكامل للعدل الإلهي، سواء من خلال المشاركة الميدانية في نضالهم او عبر مؤلفاتهم الفقهية والاجتماعية. لا داعي عندئذ للبحث مطولا في الأرضية الفكرية والثقافية التي تنطلق منها مقاربات الحركات الإسلامية لاكتشاف حدة الانفصام بين هذه المرجعيات وشعاراتها وبين الأداء الاقتصادي والاجتماعي لهذه الحركات.
أما إذا تمعنا في الانتماء الاجتماعي للإسلاميين، فلا شك ان مختلف الدراسات الاستبيانية تبرز بوضوح الانتماء الطبقي المكافح لغالبية المنتمين لهذه الحركات، وعلى الرغم من ان البعد الديني الإحيائي كان غالبا في خطابها الا ان تطلع كوادرها للتحرر الاجتماعي والاقتصادي مثل المحرك الرئيس لعملها. وعلى الرغم من ذلك إلا أن هذا المعطى لم يجد ترجمته في خياراتهم الاقتصادية في نوع من الانفصام الواضح بين المصالح الطبقية التي من المفترض ان يعبروا عنها وبين السياسات التي تتبناها تنظيماتهم.
لقد تأسس المشروع الإسلامي الحركي على ثلاث مرتكزات أساسية: – التشريع مدخل للإصلاح من خلال رفع شعار تطبيق الشريعة وهنا تتنزل أهمية الدولة، – الإحيائية الدينية والقيمية عبر إعادة صياغة الحياة العامة وفق النمط الإسلامي ما دفعهم لتشكيل حراك مجتمعي اصطلح على تسميته بالحركة الإسلامية، – بناء ذات حضارية مستقلة تعيد الإشعاع الكوني للأمة العربية والإسلامية في مواجهة مشاريع كونية مغايرة ليبرالية غربية وشيوعية شرقية. الا ان هذه المقاربة التمايزية لم تفصح المجال للحركة الإسلامية لتتخذ موقعا دوليا معتبرا، بسبب الحرب الباردة والاستقطاب الليبرالي الاشتراكي في البداية وبسبب الهيمنة المطلقة للنموذج الليبرالي المعبر عنه بنهاية التاريخ في المرحلة الأخيرة. ورغم الأزمات المتتالية التي يعاني منها النموذج الليبرالي خلال العقود الأخيرة إلا أن الحركات الإسلامية لازالت في تجاربها السابقة والحالية في الحكم في ماليزيا وفي تركيا وفي المغرب وفي تونس وفي مصر وفي السودان وفي غيرها من الدول تنحو إلى اليمين الليبرالي متناسية مطالب الفئات الاجتماعية التي أوصلتها للسلطة.
وعلى الرغم من جاذبية شعارات اليسار الاجتماعي في امريكا الجنوبية وفي اليونان واسبانيا وغيرها، إلا أن الإسلاميين لا يلتفتون لهذا المتغير المهم على مستوى التحولات الاقتصادية والاجتماعية في العالم ويستمرون في تبنيهم للخيارات الليبرالية وتحالفهم مع رأس المال.
يذهب البعض إلى ان توخي هذا الاتجاه أمرا غير خاضع لدوافع اقتصادية بحتة ولا حتى ثقافية، انما معركة الوجود من جديد هي التي تحدد خيار هذه الحركات رغم مرور ما يقارب القرن منذ تشكلها. لكن لا يجب الاستسلام للتبريرات السهلة والمعتادة فأكثر الأخطاء مبنية على عاداتنا الفكرية السيئة، خاصة إذا كان المقصود من هذه التبرايرات إيجاد شرعية للاستمرار في نفس الأخطاء. لكن في انتظار أن تتعمق المباحث في هذه المسألة، نسجل انه قد شد انتباهنا ضعف التنظيرات الإسلامية وندرتها في المجال الاقتصادي والاجتماعي بما يمكن أن يمثل مدخلا لكتابة جديدة في الموضوع.