ناجي س. البستاني
بعد ثلاث جولات من المفاوضات الصعبة، والتي سبقتها مفاوضات سرّية بين واشنطن وطهران بُعيد انتخاب حسن روحاني رئيساً لإيران في حزيران الماضي، خرج الدخان الأبيض من جنيف، وتحديداً من قاعة مفاوضات ممثّلي إيران من جهة والدول الخمس الكبرى زائدة واحدة من جهة أخرى، كما توقّعنا في المقال الذي نُشر في 11 الشهر الحالي، والذي كان بعنوان (عندما يتصافح “الشيطان الأكبر” و”محور الشرّ”).
والسؤال المطروح حالياً: ماذا ربحت إيران بملفّ النووي… وماذا خسرت؟
ويمكن القول إنّ إيران ربحت بشكل مباشر على أكثر من محور، حيث أنها ستخرج قريباً من عزلتها السياسية والدبلوماسية الدولية، وستتمكّن من العودة إلى حضن المجتمع الدولي من باب الدولة المتعاونة والحريصة على الأمن العالمي. كما أنها ستستفيد قريباً من رفع الكثير من العقوبات، ولو بشكل جزئي وتدريجي، بما يسمح لها بكسب مليارات الدولارات بشكل سريع، وذلك عن طريق تصدير النفط وغيره من المواد الأوّلية والبتروكيميائية، والمتاجرة بالذهب وبالسيارات وبمواد أخرى. ومن المتوقّع أن تستعيد العملة الإيرانية التي كانت قد فقدت نحو 80 % من قيمتها في العام 2012 الماضي، قدرتها الشرائية بعد الشروع في رفع العقوبات تدريجاً، الأمر الذي سينعكس إيجاباً على الوضعين الإقتصادي والمالي في إيران. ومن المنتظر أيضاً أن تعود نسبة البطالة والتي تبلغ حالياً 24 % من اليد العاملة داخل إيران، إلى حدود مقبولة.
في غضون ذلك، تخشى إسرائيل التي صدرت عن قادتها أعنف الحملات الإعلامية ضدّ الإتفاق الموقّع مع طهران، من أنّ تتمكّن إيران من النفاذ من المراقبة الدولية لإنتاج قنابل ذريّة بشكل سرّي، طالما أنّ عمليات تخصيب اليورانيوم من قبلها صارت شرعيّة ومسموحة، وإن ضمن سقف محدّد، بحسب ما ينصّ الإتفاق. لكن وبحسب الخبراء في علم الذرّة، إنّ متطلّبات إستخدام الطاقة النوويّة لأغراض سلميّة بحت، يُشكّل نحو 80 % نحو إنتاج قنبلة نوويّة. وهذا ما يخشاه المسؤولون الإسرائيليّون الذين يتخوّفون من أن تعمد إيران بشكل سرّي، أو ربّما بعد خلاف مع الدول الراعية للإتفاق، إلى متابعة عمليّات تخصيب اليورانيوم، لنسب أعلى ممّا سُمح لها به، لتشكّل عندها خطراً عسكرياً إستراتيجياً على إسرائيل. كما تخشى دول الخليج بدورها، من أن يكون التقارب الغربي-الإيراني على حساب العلاقات الغربيّة مع الدول العربيّة، ومن أن يتم غضّ الطرف عن توسّع النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط لضرورات مرتبطة بإنجاح صفقة الإتفاق بشأن الملفّ النووي، وعلى الأقل من أن تعتبر إيران أنّ الدول الغربيّة تترك لها اليد الطولى للتحرّك في المنطقة. والأكيد أنّ كل ما سبق يصبّ في صالح طهران بشكل مباشر أو غير مباشر. ولن تنفع إتصالات الرئيس الأميركي باراك أوباما، ولا إتصالات وجولات كبار المسؤولين في إدارته، من تبديد غضب وخشية كل من إسرائيل والكثير من الدول العربيّة. ومن شأن الإتفاق الإيراني -الغربي أن يزيد التباعد الخليجي- الأميركي بالتحديد، والذي كان قد بدأ نتيجة خلافات في شأن ما آلت إليه الأوضاع في العراق، وتصاعد نتيجة تباين المواقف إزاء “الإنتفاضات” في الدول العربية، وبلغ الذروة في إختلاف النظرة إزاء سبل التعامل مع ملف الحرب السوريّة.
لكن من الضروري التذكير أنّ الإتفاق بين إيران والدول الست هو على بنود أساسيّة، حيث أنّ الكثير من التفاصيل لا تزال بحاجة إلى صياغة دقيقة في الأشهر القليلة المقبلة. والمسألة مرتبطة بعملية تطبيقيّة غير سهلة، تشترط على إيران تعليق العمل في مفاعل “أراك”، والسماح بعمليات تفتيش دوريّة لمراقبين دوليّين في موقعيها النويّين في “نطنز” و”فوردو”، وتشترط على الولايات المتحدة الأميركية والدول الحليفة لها المباشرة برفع العقوبات المفروضة على إيران. وبسبب الضغوط الخارجية، وبنتيجة عمليّة شدّ الحبال السياسيّة والدبلوماسية، فإنّ الأشهر المقبلة ستشهد إستعراضات إعلامية متبادلة، وتهديدات بنسف الإتفاق، ومفاوضات مع القوى الحليفة لكل من طهران وواشنطن، لكن الأمور ستبقى تتحرّك بمسار عام إيجابي المنحى على الرغم من الخضّات المتوقّعة.
في الختام، وبغضّ النظر ما إذا كان الرئيس الإيراني قد وصل إلى السلطة بعمليّة سياسية مدروسة ومحسوبة النتائج، كما تردّد عند إنتخابه، أو إذا كانت السلطة الإيرانية الدينيّة الحاكمة فعلياً في إيران قد إستغلّت الوجه المنفتح للرئيس الروحاني لمصالحة أميركا والدول الغربيّة، الأكيد أنّ الإفادة التي كسبتها إيران من الإتفاق بشأن ملفّها النووي هي كبيرة، وتفوق بأشواط الإفادات الثانوية والصغيرة التي قد تكون واشنطن أو غيرها قد كسبتها. وباستثناء التعهّدات والوعود بمنع إيران من إمتلاك السلاح النووي، لا يمكن الحديث عن أيّ خسارة تُذكر لطهران. وإذا كان صحيحاً أنّ إيران لن تتمكّن في المستقبل القريب من إمتلاك السلاح النووي في محاولة منها لإيجاد توازن إستراتيجي مع إسرائيل التي تُقدّر ترسانتها النوويّة بنحو 80 قنبلة، فإنّ الأصحّ أنّ طهران ستتابع سياستها التوسّعية في المنطقة، وستواصل تعزيز قدرتها على التهديد الأمني والعسكري، معتمدة وسائل أخرى أقل كلفة وأكثر فعاليّة وتأثيراً!
النشرة