هدى القرماني
هذا التقرير من ضمن سلسلة تقارير أنجزت حول موضوع العقوبات البديلة بالشراكة مع “معهد صحافة الحرب والسلام”
اصلاحان جوهريان يشهدهما القانون الجزائي التونسي اليوم على مستوى مراجعة وتنقيح كل من المجلة الجزائية ومجلة الإجراءات الجزائية فرضتهما عدّة أسباب موضوعيّة محليّة ودوليّة وتوجّه حديث للسياسة الجزائية في تونس.
وقد قدّمت مؤخرا اللجنة الفنية المكلّفة بتنقيح المجلة الجزائية لوزير العدل غازي الجريبي مشروع قانون الكتاب الأول من المجلة الجزائية بعد مراجعة عميقة واجراء عدة إصلاحات على مستوى الشكل والمضمون.
وكانت وزارة العدل قد أحدثت هذه اللجنة سنة 2014 وهي مكوّنة من مجموعة قضاة مباشرين ومتقاعدين وجامعيين ومحامين واطارات قانونية عليا قامت بعرض مشروعها الأولي على الاستشارات الجهوية خلال شهري ديسمبر 2017 وجانفي 2018 مغطية كامل محاكم الجمهورية ومستمعة إلى آراء عديد الخبراء الدوليين المختصين في القانون الجزائي قبل تقديم النسخة النهائية لمشروع الكتاب الأول من المجلة الجزائية.
فيما تستكمل لجنة مراجعة واصلاح مجلة الإجراءات الجزائية اللمسات الأخيرة للمشروع قبل عرضه على وزارة العدل ومن ثم على مجلس الوزراء الذي يحيله فيما بعد على مجلس نواب الشعب للمصادقة النهائية عليه.
وتعود المجلة الجزائية إلى الأمر العلي المنشور بالرائد الرسمي في 01 أكتوبر 1913 أي إلى أكثر من قرن على صدورها كما تعود مجلة الإجراءات الجزائية إلى القانون عدد 23 لسنة 1968 المؤرخ في 24 جويلية 1968 والصادر بالرائد الرسمي في 26 و30 جويلية 1968 والمتعلق بإعادة تنظيم قانون المرافعات الجنائي، أي خمسون سنة على تطبيقها، وهو ما يجعل اجراء تنقيح جوهري داخلهما أمرا ضروريا نتيجة للتحولات الجذرية التي عرفها المجتمع التونسي وللسياسة الجزائية وتماشيا مع ما جاء به دستور 2014 وما صادقت عليه تونس من معاهدات واتفاقيات دولية في مجال حقوق الإنسان.
إقرار عقوبات بديلة جديدة
وقد حظيت البدائل الاحتجازية بأهمية كبرى في هذا المشروع الإصلاحي وأفاد عدنان العبيدي محام وخبير بلجنة مراجعة وإعادة صياغة مجلة الإجراءات الجزائية في تصريح لموقع “بلادي نيوز” أنّ مشروع المجلة الجديد ذهب في إطار التنصيص على البدائل في كافة المراحل من تتبّع وإيقاف تحفظي وأيضا بدائل للعقوبات.
وأوضح العبيدي أنّه تم ضبط 18 بديلا للإيقاف التحفظي كالإقامة الجبرية واجراء منع الإقامة وتدعيم تحجير السفر وغيرها من البدائل نظرا لامتلاء السجون بنسبة كبيرة من الموقوفين على ذمة المحاكم في ايقافات عشوائية على حد تعبيره.
وتمثّل نسبة الموقوفين أكثر من 50 بالمائة من اجمالي القابعين في السجون التونسية وهو رقم كبير وجب النظر فيه خاصة أمام الانعكاسات الخطيرة التي يمكن أن تنجرّ عن عمليّة الاختلاط والمعاملة اللاإنسانية للموقوفين والسجناء.
وذكر العبيدي أنّ هناك اتجاه كامل نحو أنسنة العقوبة وتفريدها تماشيا مع ما يشهده العالم من تطور في المنظومة الحقوقية وأيضا امام عدم تحقيق الردع والإصلاح داخل السجون أين يتلاقح ويتطور الفكر الاجرامي رغم ما تقوم به إدارة الإصلاح والسجون وفق قوله.
وأشار محدّثنا إلى أن مشروع المجلة الجديد وسّع في العقوبات البديلة حيث تمّ التنصيص على نظام السجون المفتوحة في بعض الجرائم غير الخطرة إذا ما تعهد المحكوم عليه بجملة من الشروط وهو ما يسمح له بممارسة عمله ومقابلة أسرته.
كما تمّ اقرار نظام النصف حرية والذي يمكّن قاضي تنفيذ العقوبات من أن يحجّر على المحكوم عليه الاتصال بالمتضرر أو مقابلة بعض الأشخاص أو ارتياد بعض الأماكن ويترتب عن الاخلال بها الرجوع في تلك الوسيلة.
وإضافة إلى نظام السوار الالكتروني وفقا لشروط مضبوطة سمح المشروع الجديد أيضا باستبدال العقوبة السجنية بغرامة مالية يومية فيمكن لقاضي تنفيذ العقوبات بعد موافقة المعني بالأمر على تعديل عقوبة السجن المحكوم بها والتي لا تتجاوز عاما سجنا تبديلها بغرامة مالية لا تقل عن 500 د يراعى عند تقديرها الإمكانيات المادية للمحكوم عليه وطبيعة الجريمة المرتكبة ولقاضي تنفيذ العقوبات أن يفرض على المحكوم عليه بالغرامة اليومية دفعها سبرة واحدة أو تقسيطها على ان لا يتجاوز أجل الخلاص انتهاء عقوبة السجن المحكوم بها عليه وفي صورة عدم خلاص الغرامة ولو جزئيا في الأجل المذكور تستأنف أعمال تنفيذ العقوبة.
وستضمن مكاتب المصاحبة المتكونة من موظفين تابعين لإدارة السجون والإصلاح مختصين في العمل الاجتماعي والنفسي والإداري ويعملون مباشرة تحت اشراف قاضي تنفيذ العقوبات متابعة تنفيذ الإجراءات القضائية المتخذة ضد المحكوم عليهم واعلام السلطات القضائية بسيرها والسهر على احترام الالتزامات التي فرضتها عليهم علما وأن هذه المكاتب ستعمم على كافة المحاكم الابتدائية.
وأضاف محدثنا أنه وقع كذلك تدعيم عقوبة التعويض الجزائي والتي جاء بها النص المتعامل به حاليا ولكنها لا تطبق في المحاكم الا نادرا بالرغم من أنها تساهم في جبر ضرر المتضرّر وردع المحكوم عليه الذي سيدفع من ماله.
ولقاضي تنفيذ العقوبات ان يقترح تمتيع بعض المساجين بالسراح الشرطي لكل سجين محكوم عليه بحكم بات بعقوبة واحدة أو عدة عقوبات سالبة للحرية من أجل ارتكابه جرائم لمدة لا تتجاوز العامين او للذي بقي له من العقاب المحكوم به عليه مدة تساوي او تقل عن عامين وهو ما يسمح بأن يتمتع بهذا الاجراء أكثر عدد ممكن من المساجين خاصة وأن السراح الشرطي مسموح به حاليا لمن لا تتعدى مدة عقوبتهم الثمانية أشهر.
نحو تدعيم قضائية تنفيذ العقوبات البديلة
ولاحظ العبيدي أنّ المشروع الجديد ركّز كثيرا على العقوبات البديلة ومن المستجدات التي جاء بها أيضا تدعيم قضائية التنفيذ الذي أصبح قضائيا بامتياز وتصل درجة التقاضي فيه إلى درجتين مشيرا إلى أنه من الممكن أن نجد مستقبلا محاميا مختصا في تنفيذ العقوبات.
واعتبر محدثنا أنّ هذه التطورات والجديد في مجال العقوبات من شأنه أن يساهم في تخفيف وطأة وكثرة أعداد نزلاء السجون مما يسمح بتحسين ظروف اقامتهم طبقا للمعايير الدولية وعدم اثقال كاهل الدولة بمصاريف كبرى لتوفير حاجيات ومستلزمات المساجين.
يشار إلى أن عدد المساجين في تونس بلغ إلى حدود نوفمبر 2017 ووفق ما أدلت به الإدارة العامة للسجون والاصلاح أكثر من 22 ألف سجين توزعوا بين 11537 موقوف و10482 محكوم عليه فيما مثّلت نسبة العود 39.2 بالمائة.
وبلغ عدد الموقوفين في قضايا جناحية 3350 موقوف و8187 في قضايا جنائية. أما بالنسبة للمحكومين فقد بلغ عددهم 3338 في قضايا جناحية و7241 في قضايا جنائية.
ويتوزّع السجناء على 27 سجنا في كامل تراب الجمهورية من بينها 19 مركز إيقاف تحفظي و8 سجون تنفيذ إضافة إلى7 مراكز اصلاح.
هذا وتتجاوز بعض الوحدات السجنية طاقة استيعابها القصوى ويتكلّف السجين الواحد يوميا 32 دينار.
وشدّد العبيدي على أن تطبيق العقوبات البديلة مرتبط بعقلية كاملة يجب أن تعمل في اتجاه الدفع نحو تفعيل هذه العقوبات وأنسنتها وتفريدها تدعيما للحريات واحتراما للدستور وضمانا لمحاكمة عادلة.
وأضاف ان النصوص القانونية قد تكون شكلت عائقا ولكن هذا الواقع سيقع تجاوزه ان كتب لمشروع مجلة الإجراءات الجزائية ان يمرّ محمّلا القاضي بوصفه صمام أمان والضامن لعلوية القانون وللحريات واحترام الدستور مسؤولية تفعيل الاتجاه الحديث في أنسنة العقوبة وفق قوله.
وأشار العبيدي إلى أن الكتاب الخامس من مجلة الإجراءات الجزائية الذي يهتم بتطبيق وتنفيذ العقوبة تحوّل اليوم في المشروع الجديد إلى الكتاب السابع باعتبار ان المجلة تضخمت وتضاعف عدد فصولها تقريبا.
ومن ضمن ما شمله مشروع اصلاح المجلة الجزائية كما سبق أن أوضح نبيل الراشدي مقرر اللجنة الفنية التي أحدثتها وزارة العدل لتنقيح المجلة الجزائية في تصريح اعلامي إعادة تصنيف الجرائم نحو التخفيف من عدد الجنايات التي تستوجب المرور بالتحقيق القضائي وأيضا توسيع العقوبات البديلة والتنصيص على آليات التفريد القانوني للعقوبة في اتجاه أنسنتها إضافة إلى حذف عقوبة السجن في جميع المخالفات والجنح المستوجبة لعقوبة السجن لمدة لا تتجاوز ستة أشهر وتخصيص نصوص تشريعية أو ترتيبية خارج المجلة الجزائية تشمل أحكاما خاصة تنسحب على المخالفات والجنح.
وأشار الراشدي إلى أنّ التنقيحات العديدة التي أدخلت على المجلة لم تلبّ الأهداف المرجوة منها جراء محدودية انسجام أحكامها وملاءمتها لأهداف السياسة الجزائية المتنامية وللدستور الجديد وحاجيات المجتمع المتطورة ومتطلبات نجاعة المنظومة القضائية والاصلاحية.
وتعمل اللجنة اليوم على استكمال مشروع الكتابين الثاني والثالث من المجلة بعد تسليمها لمشروع الكتاب الأول في شهر جوان الماضي.
وكان وزير العدل غازي الجريبي من جهته قد أعلن خلال افتتاح الاستشارة الوطنية حول المشروع الأولي للكتاب الأول من المجلة الجزائية أنّنا “نريد أن يكون تعديل المجلة جريئا في توجهاته عميقا في أفكاره يحمي المجتمع التونسي ويضمن احترام الحقوق والحريات”.
واعتبر الجريبي ان هذا المشروع ينصهر في إطار المد الإصلاحي التشريعي الهادف إلى تكريس التوجهات الحديثة للسياسة الجزائية في تونس تناغما مع دستور 2014.
وأضاف أن المشروع يمنح للقاضي سلطة تقديرية واسعة تمكنه من تفريد العقوبة بما يساهم في تحقيق المعادلة بين حق المجموعة الوطنية في تحقيق الأمن والاستقرار والتصدي للجريمة من جهة ومقتضيات احترام حقوق الانسان وتوفير الضمانات خلال جميع مراحل المحاكمة من جهة أخرى.
يعدّ مشروع اصلاح مجلة الإجراءات الجزائية ثورة تشريعية تأخرت نوعا ما أمام غياب الإرادة السياسية القوية.
وان المتمعّن في ملامح الإصلاحات الجوهرية التي تسعى اليها الدولة التونسية اليوم على مستوى إجراءات القانون الجزائي والفلسفة التي انبنى عليها يلاحظ التوجه أكثر نحو التدابير غير الاحتجازية والعقوبات البديلة ووضع التشريعات والآليات الكفيلة لتكون موضع تطبيق مستقبلا وتحولا حديثا للسياسة الجنائية من سياسة عقابية إلى سياسة إصلاحية تنسجم مع حقوق الانسان الأساسية وتحقق الغايات المرجوة من نظام العدالة الجنائية.
ومع هذه الإصلاحات يجب أن تعمل الدولة على تطوير العقلية المجتمعية وأن تقوم بدراسات علمية للوقوف على أسباب تطور الجريمة في تونس لإيجاد الحلول الكفيلة بالحد من ارتكابها.