عبد الباري عطوان
امر مؤسف ان يتم اختزال القضية الفلسطينية هذه الايام في الحرب المخجلة المستعرة حاليا بين الرئيس الفلسطيني محمود عباس و”خصمه” العقيد محمد دحلان حيث يتبارى الرجلان في “فضح” بعضهما البعض على الملأ، وتقديم الادلة والبراهين على تورط كل منهما في جريمة اغتيال الرئيس الراحل ياسر عرفات، ودس السم له تلميحا او تصريحا.
نشعر بالخجل ونحن نتابع مسلسل الاتهامات بالفساد ونهب عرق الفقراء والكادحين، والقتل للمناضلين والمجاهدين، والعمالة للاسرائيليين، والتآمر على قيادات المقاومة، وتسهيل عمليات تصفيتها من قبل العدو الاسرائيلي.
اصبح الفلسطينيون “اضحوكة” في نظر الكثير من الاشقاء العرب الذين تابعوا هذا المسلسل المقرف وفصوله بالصوت والصورة على لسان بطليه، فهل من اجل قيادات كهذه استشهد آلاف العرب، وخاضوا معارك طاحنة ضد اسرائيل، وخسروا اراضيهم وارواحهم وثروات بلادهم التي جرى توظيفها، كليا او جزئيا في معارك الشرف والكرامة؟
لا نعرف كيف يهبط السيد محمود عباس احد القادة التاريخيين لحركة “فتح” الى هذا المستوى المتدني، ويخصص اكثر من ساعة كاملة للحديث عن خصومته مع السيد دحلان وسرد ادلة ادانته بقتل عرفات، ثم من هو دحلان هذا حتى يكون خصما له؟ وكيف تقبل حركة “فتح” المليئة بالشرفاء بهذه الفضيحة وتسمح بها وتصمت عنها؟ ولماذا يذكر كل هذه الحقائق الآن وبعد تسع سنوات من اغتيال عرفات.
***
اليس من العيب، ان يبريء فلسطينيون اسرائيل من هذه التهمة المثبته عليها من قبل مختبرات عالمية قالت ان لا احد في العالم يملك هذا النوع من السموم المستخدمة في قتل الشهيد غيرها ودولتان اخريان هما الولايات المتحدة الامريكية وروسيا.
اليس من العار ان ننشغل بالادوات ونترك المجرم الحقيقي الذي وجههم وزودهم بالسم، وقال لهذه الادوات اذهبوا واقتلوا زعيمكم الذي استشهد لانه رفض التنازل عن القدس وحق العودة وكل الثوابت الوطنية وفضل ان يموت شهيدا محاصرا.
سجل العقيد محمد دحلان معروف ويعرف تفاصيله كل مواطن فلسطيني، ولكن الم يكن دحلان هو الحليف والداعم للسيد عباس، الم يتآمر الرجلان سويا للاطاحة به، وسحب كل صلاحياته، وقطع الاموال عنه، والتنسيق مع الامريكيين والاسرائيليين لتهميشه لانه ليس شريكا صالحا في عملية السلام لانه، اي عرفات، ارتكب اثم تفجير الانتفاضة الثانية المسلحة، ورفض ان يوقع صك التنازل عن قيمه وقضيته في مؤتمر كامب ديفيد؟
بعد الاستماع الى هذه الاتهامات المتبادلة بين عباس ودحلان حول دس السم للمرحوم عرفات سيشعر الاسرائيليون حتما بالنشوة والانتصار، وسيمدون لسانهم للعالم باسره، ولكل مراكز البحوث السويسرية، التي اشارت باصابع الاتهام اليهم فقد تحولوا الى حملان وديعة امام الذئاب الفلسطينية الكاسرة التي تمزق بعضها بعضا امام الملأ.
شخصيا لا اعرف كيف اخفي وجهي خجلا وانا الذي ظهرت في احد البرامج المشهورة في التلفزيون البريطاني “بي بي سي” ويحمل اسم Dateline مؤكدا ان اسرائيل هي التي قتلت عرفات، فتصدى لي كاتب يهودي بريطاني مشهور، وقال الم يكن لعرفات بعض الخصوم الفلسطينيين الذين كانوا يريدون التخلص منه في ظل صراعاتهم على خلافته.
اجبته بنعم، ولكني قلت له، من اين سيأتي هؤلاء الخصوم بسم “البولونيوم” الاشعاعي الذري؟ هل سيحضرونه في مفاعلاتهم النووية الضخمة والمتقدمة في مخيمات غزة الفقيرة البائسة، ام في مخيم بلاطة المتهالك في نابلس؟ ام مخيم الدهيشة في بيت لحم القريب من رام الله؟
***
مسكين هذا الشعب الفلسطيني الذي قدم آلاف الشهداء، ووثق بهكذا قيادات، وقدم لهم ابناءه اعتقادا منه انهم الشرفاء الذين سيقودنه الى النصر واستعادة حقوقه المغتصبة.
كنت اود ان اختم هذه المقالة بالمطالبة بتشكيل لجنة تحقيق فلسطينية للتحقيق في هذه الجريمة، ولكني تراجعت، لان لا حاجة لمثل هذه اللجنة، فالطرفان مدينان لبعضهما البعض بطريقة او باخرى ويقدمان الادلة، ثم مِن مَن نطالب بتشكيل هذه اللجنة، ومن سيكون الاعضاء فيها، ومن سيتولى رئاستها؟ رجالات السلطة ام قضاتها؟ ام اعضاء لجنتها المركزية الذين صمتوا عن كل هذه الجرائم طوال السنوات الماضية، واخفوا الادلة والبراهين، خوفا على امتيازاتهم، وتمسكا بمناصبهم والقابهم.
هذه السلطة التي لم تحقق مطلقا بظروف استشهاد قائدها التاريخي المؤسس، ومنعت، بل وهددت، كل من يقترب من هذه القضية بالعقاب الشديد، لانها تعرف جيدا من هو القاتل ومن هم الادوات.
نعتذر لجميع الاخوة العرب عن السفهاء وافعالهم، ونقول لهم اننا فشلنا ولم نستطع مداراتهم، او معاقبتهم على جرائمهم وافعالهم، ولكننا نؤكد ان الشعب الفلسطيني بريء منهم ومن افعالهم، فهذا الشعب النقي المناضل الصابر الذي لم يبخل على امته وقضيته ودمه، هو عنوان الشرف والكرامة بشهدائه واسراه ومجاهديه.
رأي اليوم