هدى القرماني
“لا تعودي إليه..! يمكنك المجيء..” عبارات كانت كافية لوحدها لتستجمع رانية قوتها وجرأتها وتقرّر أن توقف نزيف العنف الذي تعرضت إليه من زوجها وتخوض معركة القضاء من أجل استرجاع حقوقها وكرامتها وإنصافها من قبل العدالة.
رانية شابة في مقتبل العمر، عروس لشهرين فقط، مازالت تتقبل تباريك الزواج، واليوم تقف في طابور طويل برواق إحدى محاكم سوسة تحمل ملفا، اختزل معاناتها والأضرار التي لحقت بها جراء تعرضها إلى العنف، تضمن شهائد طبية وصورا وثقت آثار الاعتداء ومحاضر معاينة وعديد الوثائق الأخرى.
تروي لنا رانية كيف بدأت تتعرض للعنف منذ اليوم الأول من زواجها وكيف تحوّل هذا العنف من لفظي إلى مادي لتجد نفسها مرة أخرى في منزل والديها أين وجدت السند النفسي والمعنوي لتستكمل مسارها القضائي وتؤسس لمستقبل أفضل وحياة أكثر أمانا واحتراما.
لحظة اتخاذ القرار بوضع حدّ للعنف، وصفتها لمياء العشاش رئيسة الفرع الجهوي للجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات بسوسة، بلحظة إستعادة الوعي ونقطة اللاعودة.
” كيف لي أن أقبل بأن أكون امرأة معنفّة وأنا التي لطالما دافعت عن النساء ضحايا العنف بجميع أنواعه.. لا يمكنني أن أكون متناقضة مع نفسي ومع مبادئي” هكذا باحت لنا رانية مؤكدة أنه بخروجها من منزل الزوجية قد جنّبت نفسها ربما أمورا لا يحمد عقباها.
توجهت رانية بداية الى الفرقة المختصة بالبحث في جرائم العنف ضد المرأة والطفل بحي الرياض أين تمّ منحها تسخيرا تنقّلت على إثره إلى مستشفى فرحات حشاد بسوسة من أجل فحصها والحصول على تقرير طبي يفصّل ويحدّد حجم الأضرار التي لحقت بها تُرفقه بملف قضية العنف التي قرّرت رفعها ضدّ زوجها المعتدي.
وتضم الفرق المختصة بالبحث في جرائم العنف ضد المرأة والطفل 130 وحدة منها وحدتين مركزيتين و128 وحدة جهوية كما تتوزع بين 58 فرقة مختصة تابعة للإدارة العامة للحرس الوطني و70 فرقة مختصة تابعة للإدارة العامة للأمن الوطني.
والحق في التقاضي دون تمييز والنفاذ إلى العدالة للنساء ضحايا العنف حق مكتسب وتضمنه المعاهدات والمواثيق الدولية وخاصة اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة “سيداو” والتي رفعت تونس رسميا تحفظاتها عليها سنة 2014. كما يكفله الدستور التونسي والقوانين الوطنية وعلى رأسهم القانون الأساسي عدد 58 لسنة 2017 لمناهضة العنف ضد المرأة وتتعهد الدولة بتوفير الآليات لذلك.
وقد أشارت مقررة الأمم المتحدة الخاصة المعنية باستقلال القضاة والمحامين إلى أنّ حق الولوج إلى العدالة هو حق في حد ذاته ويتضمن الحق في الحماية القضائية الفعاّلة والحق في سبيل انتصاف فعّال والحق في المساواة.
واعتبرت لجنة القضاء على التمييز ضد المرأة أنّ استمرار المعيقات التي تعترض وصول المرأة للعدالة تمثل تحديدا انتهاكا لحقوق الإنسان الخاصة بالمرأة بموجب اتفاقية “سيداو”.
وأوضحت اللجنة ست مكونات مترابطة لا غنى عنها لوجود نظم عدالة فعالة تكفل حقوق الإنسان الخاصة بالمرأة وتضمن ولوجها إلى العدالة بشكل حقيقي وهي: إمكانية المقاضاة، وتوافرها، وسهولة الوصول إليها، وجودتها، وتوفير سبل الانتصاف لضحاياها، ومساءلتها.
صعوبات مادية تواجهها النساء في نفاذهن إلى العدالة
ومع كلّ ما توفره هذه المعاهدات والقوانين من ضمانات وآليات فرانية مثل العديد من النساء اللائي يتقدمن بقضايا في العنف والطلاق لدى المحاكم وتعترضهن العديد من الصعوبات والمعيقات في نفاذهن إلى العدالة.
تشكو رانية من صعوبة في الإمكانيات المادية فلا مورد رزق لها اذ انقطعت عن العمل عند زواجها وتحوّلها للعيش مع زوجها في إحدى معتمديات الوطن القبلي وتحصل الآن على نفقاتها اليومية من عائلتها.
قلّة الموارد المالية أوعزت رانية عن تكليف محام ينوبها في قضيتها ويدافع عنها ومع ذلك لم تتراجع وظلّت تطرق كلّ الأبواب وتستعين بأصدقائها لتتعرّف على ما يمكنها القيام به من إجراءات سليمة لرفع شكايتها والتقاضي أمام المحكمة.
وزواج رانية من رجل من خارج الولاية التي تقطن بها شكّل لها عائقا آخر إذ عليها أن تشتكي أيضا في إحدى الدوائر القضائية التابعة للمدينة، أين محلّ الزوجيّة، ولكنها غير قادرة على نفقات التنقل وتقول أنّ “القانون لم يراع المرأة غير المقتدرة ماديا في هذا الجانب” حسب تعبيرها. كما أنّه عليها اليوم إرسال عدل منفذ إلى منزل زوجها لإعلامه بقرار النفقة الذي أصدره القاضي لصالحها وهذا يتطلب نفقات إضافية أيضا.
التمتع بالإعانة العدلية وطول آجال التقاضي أمر مرهق للمرأة ضحية العنف
وبالرغم من أن القانون الأساسي لمناهضة العنف يسمح لها بالتمتع بالإعانة العدلية وإمكانية توفير محام إلّا أنها لم تسع لذلك بتعلة نوعية الوثائق المطلوبة وطول المدة التي سيتطلبها ذلك قائلة “تعرفت أثناء حضوري في المحكمة على نساء تقدمن بمطلب في الإعانة ولم يتحصلن عليها رغم مرور وقت طويل”.
ولئن أكد القاضي فريد بن جحا أنّ الإعانة العدلية نص قانوني مكرّس فالإخصائي الإجتماعي رضوان الفارسي أشار إلى أن عملية الحصول على هذه الإعانة أمر مرهق بالنسبة للمرأة ضحية العنف.
وتواصل رانية “هناك من النساء من رفعن قضية في الطلاق منذ ثلاث وأربع سنوات وإلى اليوم ينتظرن أن يُفصل فيها..إن القضاء التونسي بطيء جدا وهذا مُعيق ومرهق”.
وانتظار رانية الفصل في قضية العنف والتقدم بقضية في الطلاق للضرر ترك المجال لزوجها ليسارع بتقديم قضية في الطلاق إنشائيا.
من جهتها رأت المحامية يسرى دعلول أن بطء الفصل في الملفات أمر غير مقبول وأشد تأثيرا على النساء.
وعي غير كاف بالقانون الأساسي عدد 58 لسنة 2017 والآليات القانونية المتوفرة للنساء والفتيات ضحايا العنف
رغم مرور أكثر من 4 سنوات على دخوله حيز التنفيذ، فعدم وعي النساء بالقانون الأساسي عدد 58 لسنة 2017 وما يوفره للمرأة ضحية العنف، وخاصة بالنسبة للفئات الهشة من النساء ذوات الإمكانيات المحدودة، من ضمانات ومساعدة قانونية متمثلة في الإرشاد القانوني والإعلام بالحقوق والإعانة العدلية والإرشاد القضائي إضافة إلى التخصص القضائي والفرق المختصة، فإن ذلك يعتبر من العوائق الكبرى أمام نفاذ النساء والفتيات ضحايا العنف إلى العدالة.
لم تكن رانية مثل كثير من النساء على علم ودراية بوجود قانون يناهض العنف في تونس وينصف النساء ضحايا هذه الآفة التي استشرت داخل المجتمع التونسي وارتفع حجم القضايا المرفوعة بشأنها بشكل ملفت.
شاءت الأقدار أن تكون رانية من بين الحاضرين في ندوة نظمتها الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات آواخر السنة الماضية لتقديم حوصلة حول دراسة ميدانية قامت بها تتعلق بمسألة نفاذ النساء ضحايا العنف إلى العدالة، هناك اكتشفت رانية لأوّل مرة القانون الأساسي لمناهضة العنف ضدّ المرأة وتعرفت على الإجراءات التي عليها اتباعها في مرحلة التقاضي خاصة وأنها لا تمتلك محام يقدّم لها التوجيه القانوني وينوبها في القضية التي تقدمت بها. وكان ذلك بمثابة الفرج بالنسبة إليها لترتب أمورها وتشحن نفسها بأكثر قوة وجرأة ونفس لخوض مسار العدالة.
وإلى جانب مراكز التوجيه والاصغاء التي توفرها وزارة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن فتوفر الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات أيضا مثل عدد من جمعيات المجتمع المدني الأخرى هذه الآلية للنساء ضحايا العنف.
ويرى الأخصائي الاجتماعي ورئيس جمعية “أولادنا”، رضوان الفارسي، أنه من المهم جدا اليوم تسويق القانون عدد 58 لسنة 2017 لتتعرف المرأة المعنفة على حقوقها ودورهم كمجتمع مدني العمل على ذلك حسب قوله.
هشاشة اقتصادية ووصم وتحيزات اجتماعية
لئن خيّرت رانية وقف نزيف العنف المسلط عليها واسترجاع حريتها، وهي الآن تتلقى علاجا نفسيا بأحد المستشفيات العمومية، فعدد كبير من النساء ضحايا العنف يفضلن أو يجبرن على الصمت وتحمّل آلامهن وعدم التوجه إلى المسار القضائي لعدة أسباب لعلّ أهمها الوصم الاجتماعي والأعراف المجتمعية والصورة النمطية للمرأة وغياب السند العائلي ونقص الامكانيات المادية.
وفاء امرأة أصيلة إحدى القرى بولاية المنستير، متزوجة منذ أكثر من سبع سنوات ولها طفلان، وافقت بعد شيء من التململ على الحديث معنا على قصتها مع العنف مع عدم كشف هويتها.
تروي لنا وفاء كيف تعرضت إلى العنف بجميع أشكاله من طرف زوجها السكّير وكيف أنّ العنف خبزها اليومي تقريبا بسبب وبغير سبب حتى أنه تسبب لها في سقوط بدني وهي اليوم تعالج بالمستوصف القريب من حيّها.
اشتكت عديد المرات إلى أهلها ولكن عائلتها المحافظة ترفض عودة ابنتهم إلى المنزل فذلك يشكّل وصما لكافة العائلة.
تقول “غضبت عديد المرات وحملت أدباشي وطفليّ وذهبت إلى منزلنا لكن أبي كان يعيدنى في كل مرة من حيث أتيت قائلا “عودتك إلى هذا المنزل مستحيلة مكانك بيت زوجك.. تحمّليه وحافظي عليه وعلى أبنائك..”هذا مكتوبك كل حد واش هزت مغرفته”.. أتريدين أن نصبح حديث الناس في هذا العمر.. لا توجد في عائلتنا أيّ امرأة مطلقة ولا أقبل أن تأتيني غاضبة أيضا”.
لا تجرأ وفاء، الذي تعوّد زوجها استضعافها وتعنيفها، على تقديم شكوى ضده رغم الأضرار المادية والمعنوية التي خلفها لها. تقول “أخاف ردّة فعله ولا أحد يدافع عني وعائلتي لا تساندني بتعلة أنه رجل بيتي وقدري وعليّ أن أكون مطيعة وخاضعة له”.
تتكرر مثل هذه المشكلات في الأوساط الريفية والغير حضرية وفقا للأخصائي الاجتماعي ورئيس جمعية أولادنا، رضوان الفارسي، معتبرا النساء الصامتات على العنف قنابل موقوتة.
كما اعتبرت لمياء العشاش، رئيسة الفرع الجهوي للجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات بسوسة أن الهشاشة الاقتصادية وغياب السند العائلي من شأنهما جعل العنف المسلط على المرأة “مزمنا” حسب تعبيرها.
قضايا الشرف من القضايا المسكوت عنها
سماح ابنة الـ 22 ربيعا، الفتاة الوحيدة في المنزل من بين 3 إخوة ذكورا، هشاشة وضعهم المادي والاقتصادي جعلها تغادر منزلهم بحيّ شعبي بمدينة سوسة لتلتحق بمركز للتكوين المهني في فن الخياطة بإحدى معتمديات ولاية المنستير وتسكن في مبيت خاص بالمتربصين هناك.
وشاية من قريبتها لأخيها مفادها علاقة عاطفية مشبوهة لسماح كما أسميناها كانت كافية بأن تترك علامة على جبينها.
“هذا شرفك وعرضك عليك أن تقتصّ لذلك” “تركتنا للعار والفضيحة ” كلمات شحنت بها القريبة الأخ الأكبر للفتاة، من دون علم الأم التي كانت تشكو أمراضا مزمنة وتنتظر عودة ابنتها نهاية الأسبوع لتعينها على شؤون المنزل.
تذكر سماح كيف تهجمّ عليها شقيقها حين عودتها وهو في حالة سكر ومن دون أن يستفسر الأمر ضربها ضربا مبرحا وكانت تحاول أن تدافع عن نفسها وتؤكد أنّ ما قالته قريبتها مجرد إدّعاء لا أساس له من الصحة.. “كنت أسترجيه وأستعطفه ولكنه لم يتركني الا بعد أن ارتطم وجهي بقفل الباب وانفتح جبيني لا أذكر سوى الألم الذي شعرت به والدماء التي سالت على وجهي وغبت بعدها عن الوعي”.
سماح تعودت رؤية العنف في منزلهم فأبوها الذي توفيّ حديثا كان يعنّف والدتها التي ظلّت صابرة على وضعها إلى أن قررت في يوم هجره والعيش مع أبنائها دون أن تشتكيه للعدالة.
قضايا الشرف من القضايا التي يحاول الأهل في العائلات المحافظة التكتم عليها لذلك لا تستطيع سماح أن تشتكي أخاها رغم العنف الذي تعرضت إليه ورغم التشوه الذي علا جبينها.
معيقات اجتماعية واقتصادية ومعيقات مؤسساتية وأخرى قانونية مرتبطة بمسؤولية الدولة في تفعيل القانون عدد 58 لسنة 2017 وتوفير الآليات لذلك، تعترض اليوم نفاذ النساء ضحايا العنف إلى العدالة.
تفعيل القانون عدد 58 لسنة 2017 ومسؤولية الدولة
ومن المعيقات الأخرى التي طرحنها عدد من المحاميات في الدراسة التي قامت بها الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات حول نفاذ النساء ضحايا العنف إلى العدالة، عدم تفعيل بعض القضاة وعدم تبنيهم للقانون عدد 58 لسنة 2017 في النظر والفصل في هذه القضايا.
طَرْح اختلف حوله القضاة إذ فنده مساعد الوكيل العام القاضي فريد بن جحا مشيرا إلى وجود آليات للطعن في صدور حدوث ذلك.
وتحمّل المحامية والحقوقية يسرى دعلول الدولة مسؤوليتها في توفير احصائيات رسمية حول النساء ضحايا العنف ومسار ملفاتهن للتمكن من تشخيص حقيقي لهذه الظاهرة وإلوقوف على مدى تفعيل هذا القانون والآليات الواجب على الدولة توفيرها.
تنوعت القصص والحكايا وتعددت المعيقات لنفاذ سلس إلى العدالة وبقي العنف واحد ينتظر معالجة ومقاربة شاملة ومزيدا من الآليات على أرض الواقع وخاصة العمل الدؤوب من أجل التمكين الاقتصادي للمرأة والّذي تبحث عنه اليوم رانية وعدد كبير من النساء في تونس.
هذا العمل بدعم من منظمة صحفيون من أجل حقوق الإنسان ضمن مشروع “عالم كندا: صوت النساء والفتيات”