ندى حطيط
كسرت الانتخابات الرئاسيّة الأخيرة قوالب كثيرة في الحياة السياسة الفرنسيّة، فأوصلت رئيساً من خارج المنظومة الحزبيّة التقليديّة بأصوات ثلثي الناخبين تقريباً، وسلمت قيادة المعارضة لسيدة من أقصى اليمين الفرنسي بأصوات الثلث الثالث. لكن متابعة الجدل على القنوات التلفزيونيّة الفرنسيّة والاستماع لآراء المحللين المختصين بالصورة، وكذلك التحليل الدقيق لطريقة التصويت تذهب جلها إلى الاعتقاد بأن أخطر القوالب، التي تم كسرها حقيقة كانت صورة سيدة فرنسا الأولى الجديدة: بريجيت ماكرون، وأن ما أوصل ماكرون إلى قصر الإليزيه كانت في النهاية أصوات الفرنسيات.
رئيس شاب بأصوات النساء
فلا شك أن الرئيس الشاب والوسيم، ذي المظهر العصري، الذي أضافت عليه مستشارته الخاصة لشؤون الصورة لمعاناً إضافيّاً من خلال اختيارها الرّفيع لنوع البدلات والأحذية والإكسسوارات، التي استعملها خلال الحملة، قد حاز بالتأكيد على قلوب الصبايا الفرنسيات مقابل نموذج ماري لوبان، تلك السيدة المتحذلقة، التي بدت خلال المناظرات الانتخابيّة شرسة للغاية ومنفعلة، دون محتوى حقيقي، وتتوقع من الفرنسيّات أن ينتخبنها كأم لفرنسا كلّها وهي المقبلة من أقصى يمين السياسة في بلدها صاعدة على الجثّة – السياسيّة – لأبيها نفسه بعد أن أقصته عن قيادة حزبه دون رحمة.
لكن الرئيس، وفق التحليلات حصل في ما يبدو، إلى جانب أصوات كتلة هامة من الصبايا على تأييد حاسم أيضاً في أوساط النساء الفرنسيات الناضجات، الذين بدا أنهن – بعد انعدام البدائل الأخرى – صوتن لرئيس شاب متزوج من سيدة تكبره بربع قرن، فيما عده المراقبون انقلاباً ثوريّاً ضد نموذج الرئيس الطاعن في السن، الذي يجلب معه إلى القصر ممثلة سينما أو موديل عارية تصغره بربع قرن ويجبر الأمة الفرنسيّة على قبولها سيدة أولى (على النسق الترامبي – الفج).
نمرة شرسة تتأبط ولداً: لعبة أم حب؟
الرئيس الجديد – 39 عاماً – كان في الخامسة عشرة من العمر عندما وقع في غرام معلمة الدراما في مدرسته – وهي كانت حينها في التاسعة والثلاثين من العمر، متزوجة ولديها ثلاثة أطفال. ورغم أن والديه أرسلاه بعيدا عنها للدراسة في باريس، إلا أنه بقي على علاقة بها أثمرت في النهاية عن زواجهما في 2007 بعد أن حصلت بريجيت على الطلاق رسميّاً.
هذا الفرق الكبير في العمر بين الزوجين – هي الآن في الرابعة والستين، وجدة لسبعة أحفاد – كان موضوع جدل واسع في المجتمع الفرنسي وانقسمت وسائل الإعلام الفرنسيّة في طريقة تعاطيها معه وتغطيتها له خلال الحملة الإنتخابيّة.
بعض المنابر الإعلامية اعتبرت ذلك نوعاً من تطور مرحب به في الحياة العامة الفرنسيّة، التي طالما هيمنت عليها – من خلال سيطرة وسائل الإعلام الرأسمالية على المخيال العام – صورة الصبيّة الحسناء الشابة، ودائماً على حساب النساء الناضجات اللواتي أصبح تقدمهن بالعمر تهمة تهون مقابلها كل تهمة أخرى. وتساءلت مذيعة فرنسيّة على الهواء مباشرة: لو كان الأمر معكوساً – أي لو كان الرئيس يكبر زوجته بربع قرن – لما أثار الموضوع انتباه أحد، أما والأمر كما هو، فلم يتبق أحد في فرنسا ولم يدل بدلوه.
لكن آخرين – وهم كثر – حاولوا توظيف صورة السيدة الأولى الجديدة ضد الرئيس العتيد. فلمح البعض إلى الجذور غير القانونيّة لنشوء العلاقة أصلاً واعتبروا أن الرئيس كان ضحيّة سيّدة متهورة خائنة – لا سيما وأن القانون الفرنسي يمنع قيام علاقات جنسيّة بين المعلمين وطلابهم دون الـ18 من العمر، وأن بريجيت بكل بساطة غررت بتلميذ رومانسي غرّ فأغوته وسيطرت عليه، وهو بالمناسبة ما أشارت إليه ماري لوبان بلؤم شديد في إحدى مناظراتها المتلفزة مع ماكرون بقولها خلال أحد مراحل النقاش المحتدم «أنا لا أريد أن تلاعبني لعبة المعلمة والتلميذ». بينما لمّح آخرون إلى أن الرئيس مضطرب عاطفيّاً، محتاج لشخصيّة أموميّة حازمة لتديره، وأنّه على الأغلب شاذ جنسيّاً – وهو ما استدعى لاحقاً نفياً رسميّاً من أوساط الحملة الانتخابيّة للرئيس. وبدت صورة الثنائي في الإعلام وعلى وسائل التواصل الإجتماعي أقرب لـ(نمرة كاسرة) تتأبط (ولداً لعبة).
بالطبع فإن حملة الرئيس الإنتخابيّة كانت تتوقع مثل تلك المواقف الشديدة القسوة على هذا الثنائي غير التقليدي في الحياة السياسيّة الفرنسيّة المعاصرة، ولذا هي عملت مبكراً على تقديم صورة مدروسة عن العلاقة في المجال الجماهيري من خلال الكتب والمقابلات التلفزيونيّة والأفلام الوثائقيّة، وشوهدت إحدى أهم خبيرات الصورة العامة في شركات الإعلان الفرنسيّة إلى جوار السيّدة الأولى الجديدة طوال الحملة الإنتخابيّة، وهو ما يؤكد على إدارة واعية من قبل الحملة لكيفيّة تقديم شخصيّة بريجيت للناخب والناخبة الفرنسيّة. إنتخاب ماكرون عنى بكل بساطة أن تلك الجهود حوّلت ما كان موضع ضعف للحملة إلى مصدر قوة حسمت الصراع الإنتخابي.
دور ملهم لسيدة فرنسية أولى
على أن منصفين ومنصفات في المشهد الإعلامي الفرنسي (على قلتهم) قدّموا جردة حساب بدت في عمومها شديدة الإيجابيّة عن دور السيّدة ماكرون في دعم الرئيس الجديد. فهناك شبه إجماع على أن بريجيت وحدها كانت تجرؤ على إعطاء الرئيس الشاب نقداً لكل ما يقوله ويفعله، في الوقت الّذي كانت الحاشية من حوله تصفق لكل شيء، وهو ما ساعد في تقديم صورة أفضل عن الرئيس خلال الحملة.
وعلى الرّغم من أن منصب السيّدة الأولى في فرنسا ليس رسميّاً، فإنه بدا واضحاً أن بريجيت سيكون لها صوت عال في صياغة بعض السياسات العامة للإدارة الجديدة، لا سيما في مجالات التعليم والثقافة وشؤون المرأة، وهي فعلا كانت وراء وعود زوجها الإنتخابيّة بتقليص عدد التلاميذ في الصف الواحد في المناطق الأقل حظاً في فرنسا، وأن نصف مرشحيه للإنتخابات البرلمانيّة المقبلة سيكن نساء وتعهده بأن عددا كبيراً من حقائب حكومته ستنتهي في أياد مؤنثة. أي أن وجود بريجيت سيكون في المحصلة إيجابياً وموازناً لسياسات الرئيس المدعوم بدوره سياسيّاً من قبل النيوليبراليّة التي لا ترحم.
في فرنسا – كما في العالم الديمقراطي أجمع – ينتخب الكثيرون على أساس البرنامج الإنتخابي. وهكذا تفرقت أصوات ناخبي فرنسا في الدورة الأولى بين أربع أو خمس تيارات سياسية مختلفة. لكن عندما تقل الخيارات – كما في الدورة الثانية من إنتخابات فرنسا – يزداد بالضرورة دور العوامل الذاتيّة والعواطف والمواقف الشخصيّة في التصويت للمرشحين.
الفرنسيات مع الوسامة لا الشراسة
الفرنسيون عموماً اختاروا الليبراليّة على اليمين، وأوروبا على الإنعزال. لكن الفرنسيّات بالذات اخترن الوسامة على الشراسة، والحب المتحدي على القوالب التقليديّة وهن بتوجيههن صفعة قاسية لوجه كل طامح للرئاسة يبحث عن موديل حسناء ترافقه إلى مخدع القصر أعلنّ للعالم أجمع أن عمر المرأة ليس تهمة وليس شأنا يقلل من بريقها، وأنها ليست دمية بلاستيكية أو جورية حمراء يضعها الرجل المقتدر في جيب سترته. إنها ثورة فرنسيّة جديدة على النموذج الإستهلاكي الرخيص الذي يقتحم بيوتاتنا مكرساً المرأة، كما لو كانت تشكيلاً بصريا أجوف وصفعة حادة في وجه الشاشات التي تبيع صورتهن في سوق النخاسة التلفزيونية.
ستُلهمنا النساء الفرنسيات حول العالم إذاً على إعادة النظر بالمرأة من دون كشف حساب عن عمرها بالضبط، كما ألهمتنا جميعاً الثورة الفرنسية الأولى بقيم العدل والإخاء والمساواة.
القدس العربي