نزار بولحية
بإعلان مفزع ومخيف ختمت منية إبراهيم ظهر السبت الماضي كلمتها القصيرة في جلسة التصويت على تجديد الثقة أو سحبها من الحكومة الحالية في تونس قائلة بنبرة حزينة « نحن ندخل حالة من الفراغ السياسي الرهيب في وضع صعب تعيشه الدولة. واليوم وبقرار من الالأحزاب نسحب الثقة منكم يا سادة. لكن من سيحكم غدا وهل ستستطيعون إصدار الالأوامر؟ لن تكونوا قادرين على فعل ذلك و سوف نعيش حالة فراغ لثلاثة أو أربعة أشهر على الأقل في وضع اقتصادي واجتماعي معقد» قبل أن تصرخ بالصوت العالي «أيها الشعب لك الله، أيها الشعب لك الله». لكن عضو البرلمان التونسي لم تغفل في بداية تدخلها وبعد التنويه بما اعتبرته سابقة تحصل للمرة الأولى في الوطن العربي بتقدم رئيس بطلب للمجلس التشريعي لتجديد الثقة في حكومته عن التساؤل عن هوية الفاشل الحقيقي ومبررات سحب الثقة من حكومة الحبيب الصيد وعما إذا كان» المسؤول عن الفشل هو الصيد وحده أم البعض من وزرائه على الأقل أم أحزاب الائتلاف الحاكم أم الأحزاب المعارضة التي أخفقت في أن تكون معارضة بناءة أم مجلس النواب الذي لم يستطع أداء جانب من مهامه»، مضيفة بأن الحكومة حصلت عند تشكيلها على إجماع سياسي كبير ولكن إطلاق مبادرة حكومة الوحدة الوطنية كان لـ»مآرب أخرى» على حد وصفها.
في الحالات العادية والطبيعية كانت صيحة الفزع والتحذير من خطر السقوط السريع في هاوية الفراغ وفتح الباب على مصراعيه أمام أصحاب المصالح والمطامع للوصول إلى قصر القصبة تعني أمرا واحد لا غير وهو تجديد الثقة في الحكومة الحالية وإجهاض خطة فرض حكومة مسقطة أخرى تخلفها تحت مسمى «الوحدة الوطنية « ولكن ما حصل بالنهاية كان العكس تماما. فعلى قدر انتقادات إبراهيم ومخاوفها ومخاوف زملائها وزميلاتها في كتلة حركة النهضة مما تخبئه مبادرة الرئيس الباجي قائد السبسي من مفاجآت ومغامرات مجهولة العواقب وعلى قدر نبرة التعاطف والتقدير والاحترام للصيد والتنويه به وبخصاله كرجل دولة وطني ونزيه» كانت نتيجة التصويت لبقائه وبقاء حكومته حاسمة ولا تحتمل التأويل فقد منحه ثلاثة نواب فقط ثقتهم وتحفظ سبعة وعشرون آخرون على ذلك، فيما أعلن مئة وثمانية عشر نائبا كان أغلبهم من كتلة النهضة والائتلاف الحاكم عن رفضهم لاستمرار الحكومة الحالية. أما ما كان يعنيه ذلك فهو أن حالة الانفصام الحاد بين ما يعلنه النواب ويطلقونه من وعود وآمال وأحلام وردية وبين وما يقدرون بالفعل على إنجازه وتحقيقه على أرض الواقع والتي جعلتهم لا يرون غضاضة أو غرابة من استدعاء رئيس حكومة لإزاحته من السلطة تحت وابل من التصفيق الحاد مثلما علق على ذلك نائب الجبهة الشعبية عمار عمروسية في الجلسة ذاتها، معبرا عن تعجبه مما وصفه «حجم نفاقهم» توسعت وصارت مكشوفة أكثر من السابق و جعلت الديمقراطية التونسية التي انبهر بها الغربيون لا تخرج رغم الصخب الإعلامي الواسع عن مربع الحسابات والتوازنات المحلية والإقليمية الضيقة والمحدودة.
لم تترك الأمور أبدا للصدفة أو للحظ وحضر الشيخ راشد الغنوشي دقائق قبل بدء الجلسة ليخبر نواب كتلته في البرلمان وبوضوح تام إنه لا خيار أمامهم سوى التصويت بسحب الثقة من الحكومة الحالية، ويقول لهم إن من يختار رئيس الحكومة وفق الدستور ونتائج الانتخابات هو حزب النداء ومادام الرئيس الباجي أطلق مبادرة لتغيير الحكومة ومادامت حركة النهضة وقعت مع ثمانية أحزاب على وثيقة قرطاج التي تضع ملامح حكومة الوحدة الوطنية المرتقبة فلا مبرر أبدا للتمسك بالصيد . لن يكونوا إذن ملكيين أكثر من الملك وسيتعاملون مع الواقع ببراغماتية وبلا عواطف زائدة. فلم تعد هناك فائدة أو جدوى من معاكسة التيار مادام كل شيء كان جاهزا ومرتبا بدقة شديدة حتى يخرج الصيد من القصبة دون أن تكون طريقة خروجه مهمة أو مصيرية في أذهان من خططوا لتلك اللحظة التي صارت هدفا وغاية في حد ذاتها بل مطلبا عاجلا وملحا لا يقبل التأجيل وأولوية قصوى لخلط الأوراق وترتيبها من جديد. وحتى الرجل نفسه فقد كان يدرك كل ذلك ويعلم أن أيام حكمه باتت معدودة وأقر في خطابه الوداعي أمام مجلس نواب الشعب إنه لا ينتظر التصويت لصالحه في المجلس وإنه على استعداد لتقبل أي قرار يصدر عنه. أما ما بقي مواربا ومجهولا حتى الآن فهو الكشف عن رابط أوعلاقة ما بين الرغبة المحمومة في طرد رئيس حكومة اختاره قائد السبسي بنفسه وانتمى إلى «الحرس القديم» وخبر دواليب الدولة لعقود طويلة وبين التحولات المرتقبة داخل تونس وحولها على المدى القريب والمتوسط. وما يغفل عنه معظم التونسيين هنا هو أن بلدهم ليس جزيرة نائية ومعزولة عن العالم، أو مختبرا مفتوحا لتفريخ الديمقراطية بلا قيود أو ضغوط مباشرة أو غير مباشرة من المراقبين والمشرفين الخارجيين عليها.
وهذا ما يجعل من التصور الرائج بقوة داخل تونس من أن الباجي قائد السبسي أقدم على خطوة تغيير الصيد فقط تلبية لطموحات ابنه في السلطة مجرد تبسيط لا يأخذ توازنات الساحة السياسية وضغوطات القوى الخارجية ومصالحها بعين الاعتبار. لقد انتظر الكثيرون أن يكشف رئيس الحكومة في خطابه البعض من تلك الدوافع المحلية والدولية ولكنه كان وفيا لطبعه الرسمي المتحفظ ومقولته الشهيرة حول ضرورة النظر إلى «نصف الكأس الممتلئ بدل الفارغ» رغم أنه القى في بعض فقرات الخطاب بعض الإشارات والعبارات الفضفاضة التي اقتربت إلى حد كبير من مكمن الداء. لقد قال إن « محاربة الفساد قد تكون أصعب من محاربة الإرهاب « وإنه إذا كان بالإمكان تحديد الإرهابيين ومعرفتهم» فإن معرفة المفسدين صعبة لأن « الفساد تغلغل ودخل كيان الوطن ولم تعد محاربته بالأمر السهل بل صارت تتطلب طول النفس والمثابرة ومتابعة العمل…». وإذا ما ربطنا ذلك بما قاله بعض النواب من أن المهربيين صاروا يتحكمون بدرجة ملحوظة في المشهد السياسي المحلي ويفرضون شروطهم على الحكومات التي تعاقبت بعد هروب بن علي فإن ذلك يعني أن من قرر استبدال حكومة بأخرى ورئيس بآخر هم بالنهاية قطاع الطرق الذين قسموا البلد بينهم إلى مناطق سيطرة ونفوذ وفرضوا قانون وشرعية أموالهم وثرواتهم مجهولة المصدر على كل قانون أو شرعية انتخابية أو دستورية. إنه منطق الإقطاعيات العائلية الذي غلب على كل تفكير في التغيير والإصلاح الحقيقي وحول العملية إلى مجرد تغيير شكلي للقشرة بدل اللب وإصلاح ظرفي ومحدود للمظهر الخارجي وفق ضرورات واعتبارات الاستطيقا لا أكثر ولا أقل. وربما كانت القراءة الاستباقية لحركة النهضة وهي الشريك الثاني في الائتلاف الحاكم هي التي جعلتها رغم معرفتها وإدراكها لحجم و نفوذ رجال الظل في لعبة الديمقراطية المتحركة هي التي جعلتها تسارع لإعلان وقوفها مع قائد السبسي ودعمها له في مبادرته الحكومية. إنها تبحث عن تثبيت موقعها وترسيخ قدمها في دولة ظلت تناصبها الجفاء والعداء لعقود طويلة وهي مستعدة للتعايش المرحلي والمؤقت مع ذلك المنطق الفاسد ولا يبدو أن لها رغبة في كسر الأصنام وتحطيمها في هذا الوقت على الأقل. وليس من قبيل الصدفة أن يصرح رئيسها عند حفل تنصيب مكتبها التنفيذي الجديد إنها صارت»حركة سياسية بامتياز مهيكلة داخليا ومنفتحة على الخارج» والأهم من ذلك إنها «جاءت للحكم وليس للاحتجاج». وهو ما يعني أن منطق الصدام والحرب المفتوحة مع المنظومة القديمة قد ولى ربما إلى غير رجعة وإنه من الأفضل دوما جني بعض المكاسب ولو بشكل بطيء ومحدود بدل الاستمرار طويلا في لعن الظلام . وهذا ما يقود قسما واسعا من النهضويين إلى الوعي بأن الأمور لم تعد تحسم مثلما ظنوا في الشهور الأولى بعد هروب بن علي فقط عبر صناديق الاقتراع بل من خلال اللعب الذكي على توازنات الداخل والخارج معا. وهنا تبدو زيارة الشيخ الغنوشي في حزيران/ يونيو الماضي إلى فرنسا أياما بعد إطلاق قائد السبسي لفكرة الحكومة الجديدة مليئة بالدلالات. لقد قال الشيخ حينها إنه حرص على أن تكون فرنسا أول بلد صديق يزوره بعد مؤتمر حركة النهضة. وهو يدرك جيدا مغزى ذلك التصريح ويعرف أن باريس تتحكم إلى حد كبير في خيوط «اللعبة» مثل باقي القوى الإقليمية والدولية التي أعطت الضوء الأخضر للسقوط الدستوري الهادئ لعصر الصيد.
وربما كان ما كتبته صحيفة «واشطن بوست» قبل أيام حول الحكومة الجديدة هو الملخص الفعلي لذلك. فقد قالت الصحيفة الأمريكية الشهيرة «لا خوف على تونس لأنها ستستعيد عافيتها وتتجاوز مرحلة الفراغ الدستوري عبر إيجاد شخصية يتفقون عليها».
أما كيف سيتفقون وبأي ثمن ومن ستكون تلك الشخصية وما الذي ستفعله وما الجدوى في النهاية من كل تلك القصة؟ فذلك ما سيكشف في وقت لاحق للشعب بعد أن فقد كل آماله وأحلامه ولم يبق له إلا الله مثلما اخبرته بذلك عضو البرلمان.
القدس العربي