من الصعب معرفة ماذا ينتظر مسيرة العودة الفلسطينية، التي ستنطلق اليوم الجمعة، في الذكرى الـ42 ليوم الأرض، نحو الحدود المصطنعة التي تفصل لاجئي مخيمات قطاع غزه عن بيوتهم وقراهم التي لا يبعد بعضها عن مخيماتهم سوى كيلومترات معدودة. من الصعب التنبؤ بمستقبل هذه النقلة النوعية المأمولة في الفعل الثوري داخل القطاع. لا نعرف كم سيكون حجم المشاركة، كيفية توجيهها وإدارتها، والأخطر كيف سيكون رد فعل المستعمر على الحشود الشعبية المتوقعة. وفِي هذه النقطة، تتوقف، إلى حد كبير، نتائج المسيرة وإمكانية استمرارها، على تصرف قياداتها، وما إذا كانت ستكون فاتحة مسار مقاومٍ جديد.
منذ بدأت الدعوة إلى الزحف نحو الشريط، وهي تكتسب زخما وتفاعلا يزداد اتساعا. دخل المستعمر الذي يفرض حصارا وحشيا على قطاع غزة منذ أحد عشر عاما، في حالة استنفار وإرباك، وخصصت قياداته العسكرية والسياسية اجتماعات خاصة، ناقشت فيها مختلف السيناريوهات، ونوع الرد. فبالنسبة للمستعمر، شن حربٍ تقليدية أقل تعقيدا من مواجهة شعب ثائر غير مسلح. وتقع على قيادات الفلسطينيين مسؤولية عالية المستوى في كيفية مواجهة ردود الفعل الإسرائيلية واحتوائها، وإيجاد السبل لضمان ديمومة هذا الفعل الشعبي الخلاق. ويمكن الاستشفاف من خطاب القيادات المنظمة وتصريحاتها، أنها تراهن على تقييد رد فعل العدو من خلال اعتماد السلمية. ولأنها تدرك أن هذا لا يكفي، فهي لا تنفكّ تشدد على أهمية الانضباط، والتقيد بالخطوات المرسومة التي تهدف إلى تحييد القوة العسكرية للعدو، وتقليل الخسائر المتوقعة في الأرواح، إلى الحد الذي يُمكّن الناس من تحمل السير في هذا الاتجاه النضالي.
المقاومة الشعبية
ليست ثقافة المقاومة الشعبية المدنية غريبة عن التجربة الكفاحية التحرّرية لشعب فلسطين. وهو مثل معظم الشعوب التي وقعت تحت غزو استعماري كولونيالي، وخاضت في مختلف مراحل المقاومة، مقاومة شعبية مدنية، بدأت بالعرائض والاجتماعات والمظاهرات والاعتصامات، قبل أن يضطرها المستعمر إلى حمل السلاح الذي هو حق منصوص عليه في المواثيق الدولية. وفِي الوقت نفسه، واجهت حركات التحرّر تعقيدات وتحديّات كثيرة، في ما يتعلق بكيفية إدارة المعركة، وتحديدا كيفية اختيار نوعية الوسائل المعتمدة، العسكرية وغير العسكرية، أي متى يعتمد هذا الأسلوب أو ذاك، بخصوص توقيته، ونجاعته، أو عدم نجاعته في مرحلة معينة.
والثورة، أو التجربة الفلسطينية، ليست مستثناة من هذه الأخطاء، فقد أُخذ عليها، في مرحلة معينة، تقديس العمل العسكري على حساب العمل الشعبي والإعلامي والثقافي. ما معناه أن السياسي بات تابعا للعسكري وليس العكس. ويُفسّر هذا التقديس الذي طغى على العمل الفلسطيني بعد قيام منظمة التحرير الفلسطينية، أنه ليس بسبب طبيعة القيادة فقط، بل أيضا بسبب الطبيعة الاقتلاعية التي ميّزت سلوك المستعمر الصهيوني منذ اليوم الأول. تمركز الحركة الوطنية الفلسطينية في المنفى، في الدول العربية، كان يُحد من أي حراك شعبي سلمي. ويذكر أن لاجئين فلسطينين كثيرين حاولوا العودة، بعد النكبة مباشرة، إلى بيوتهم في فلسطين، كان يقتلون أو يعتقلون. ولم يخطر في بال أحد، أو لم يفطن أحد لفكرة تنظيم عودة شعبية حاشدة واختراق الحدود في ذلك الوقت. ولهذا كان حمل السلاح ردا طبيعيا.
وربما لهذا السبب لم يحظ الطابع الشعبي الذي طغى على المقاومة داخل الأراضي المحتلة والمستعمرة عام 1967، وقبله وبعده في الأراضي المستعمرة عام 1948، لم يحظ باهتمام حقيقي من القيادة الفلسطينية في الخارج، على مستوى توظيف هذا الشكل من النضال استراتيجيا، إلى أن جاءت الانتفاضة الفلسطينية الأولى، فشكلت نقلة نوعية تاريخية، في الفعل الفلسطيني المقاوم، ذي الطابع المدني غير المسلح، مع أنها لم تحقق أهدافها. ويتفق غالبية المحللين المهتمين بالشأن الفلسطيني، والنشطاء الذين شاركوا في قيادة الانتفاضة، على أن فشل تحقيق أهدافها يعود إلى سوء أداء القيادة في الخارج، وليس الانتفاضة نفسها. ومن أشكال سوء الأداء نهج الاحتواء، خصوصا بعد العام الأول من انطلاقها الذي بهر العالم، والتسرع في استثمارها، والبدء في التعاطي مع مشاريع سياسية خارجية غير عادلة.
سُجل آنذاك أن الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وتحديدا فصائل العمل الوطني والشعبي الطلابي
وأطره، أنقذت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية من أزمتها التي تعمقت واستفحلت مع إجبارها وقواتها على الخروج من بيروت، بعد مقاومة بطولية، فلسطينية ولبنانية، استمرت ثلاثة أشهر، ضد قوات الغزو الإسرائيلي. فبعد حوالي خمس سنوات من التشتت في بلاد عربية بعيدة عن حدود فلسطين، ومن التهميش، جاء انفجار الانتفاضة الشعبية، عام 1987، ليعيد الحياة والزخم إلى النضال من أجل التحرّر والحرية، وليعيد المكانة المفقودة لقيادة منظمة التحرير. ويشبّه كاتب هذه السطور تجربة الانتفاضة الفلسطينية وعلاقتها بالقيادة بتجربة انتفاضة الثمانينيات، بقيادة “الجبهة الديمقراطية المتحدة” في جنوب أفريقيا (خصوصا من عام 1983 إلى أوائل التسعينيات، أي فترة سقوط نظام الأبارتهايد). إذ يؤكد قادة النضال هناك أن الجبهة أنقذت قيادة المؤتمر الوطني الأفريقي التي انتهت إلى المنفى من أزمتها التي مالت إلى التركيز على العمل العسكري، على حساب العمل الشعبي، وتنظيم مقاومة الناس في الداخل. والفرق بين مآلات التجربتين كبير، إذ قادت انتفاضة جنوب أفريقيا إلى النصر من خلال تفكيك نظام الأبارتهايد، وإسقاط نظام البانتوستونات، في حين، وبسبب سوء أداء القيادة الفلسطينية، أدت الانتفاضة الأولى البطولية والإبداعية إلى تكريس هذا النظام الكولونيالي والفصل العنصري وشرعنتهما.
هل جاءت مسيرة العودة لتحل مشكلة القيادة الفلسطينية، أم لتفتح الأفق لمسيرة تحرّرية من نوع آخر؟ لا أحد يجهل حجم الأزمة الخانقة التي تعيشها قيادة السلطة الوطنية في قطاع غزه الذي تديره حركة المقاومة الإسلامية (حماس) منفردة، منذ الانقسام الكارثي عام 2007. والمقاومة البطولية التي قامت بها الحركة، ومعها حركتا الجهاد الإسلامي وفتح والجبهة الشعبية وغيرها، ضد ثلاثة حروب عدوانية صهيونية وحشية، وصمود هذه المقاومة، لم يخرجاها من أزمتها، بل تفاقمت، ما اضطرها إلى الإقدام على مساومات وتنازلات بعيدة، لا تلائم حركة مقاومة، وكذلك إلى تبديل تحالفاتها. وزاد الطين بلة انهيار كل محاولات المصالحة، وانحدار سلطة رام لله إلى مجاراة المستعمر الصهيوني في فرض العقوبات الجماعية على حركة حماس، وأهل القطاع جميعا. ولقد غدت الخيارات الكفاحية لحركة حماس، بوصفها حركة مسلحة، ولأنها باتت في شريط فلسطيني ضيق جدا، وتحاصرها فيه إسرائيل، وملاحقة في الضفة الغربية من الاحتلال وسلطة رام الله، غدت محاصرة. وأميل إلى الاعتقاد بأن فكر المقاومة الشعبية المنظمة لا يحظى بمكانة خاصة عند الحركات التي تقدس العمل العسكري، أو التي تراه الشكل الرئيس في كل الظروف والأماكن.
ولذلك، جاءت مبادرة الزحف نحو الشريط بأعداد كبيرة في ذكرى يوم الأرض المجيد، ووفق استراتيجية بعيدة المدى، وليس نشاطا يتيما، أو نشاطات احتجاجية لا تربطها رؤية متكاملة، في الأساس، فكرة طرحتها شرائح شبابية وشعبية فلسطينية متحررة من أسر التفكير ذي البعد الواحد. ولأن حركة حماس وكل فصائل منظمة التحرير عجزت عن اجتراح مخرجٍ من أزمة الحركة الوطنية الفلسطينية، وهذه الأزمة في مجملها مجموع أزمات كل هذه الفصائل والقوى، سواء التي في السلطة أو خارجها، وإن بتفاوت من حيث المسؤولية، تجد نفسها مرحبة، بل داعمة لهذا النشاط. وللحق، يمكن ملاحظة التحولات التي تشهدها حركة حماس نحو تذويت خيارات النضال الشعبي، إذ بات هذا القبول جزءا من القبول العام.
المطلوب من هذه القوى الفلسطينية ليس دعم هذا النشاط فحسب، بل قبول التفكير الذي استولده، والاستعداد للانشغال به نظريا وعمليا، ليغدو جزءا عضويا من استراتيجية الفعل التحرّري الفلسطيني. كما لا تقل أهمية ضرورة التعامل مع الأجيال الشابة ذات التفكير الجديد، بجدية واحترام، وبقبول طلائع هذا الجيل الأكثر وعيا، في مواقع القيادة الفعلية وعدادها. على خلاف الحقبة الماضية من تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية، بقيادة منظمة التحرير، كثير من طلائع هذا الجيل غير منضوية في أي حزب أو حركة، لأن هذه الحركات والفصائل فقدت جاذبيتها، وتآكلت هويتها، وفقدت من فاعليتها بين عموم الشباب.
الهبات الشعبية البطولية التي تشهدها مدينة القدس وضواحيها، وفِي أماكن متفرقة من الضفة الغربية، وكذلك بين فلسطينيي المنطقة المستعمرة عام 1948 منذ سنوات، تقدمها الشباب،
وبمبادرتهم في الأساس. وما منعت وتمنع تحول هذه الهبات لموجات انتفاضية متلاحقة، ومترابطة، وذات تأثير تحرّري فعلي، الحالة المحزنة والرثة التي تعيشها القيادات الفلسطينية، الفاقدة للرؤية الواضحة، وللمثال الذي من شأنه أن يلهم خيال الأجيال الجديدة.
في غزة، وعلى خلاف قيادة سلطة رام الله المقيدة بالتنسيق الأمني مع الاحتلال الإسرائيلي، والتي تنتهج طريقة الاحتواء والقمع أحيانا لكل نشاط شعبي ينطوي على إمكانية التحول إلى مقاومة شعبية حقيقية، فإن قيادات حركات المقاومة في غزة، لا تزال تملك الروح القتالية. وتنعكس هذه الروح في الحماسة والدعم غير المتحفظ لمسيرة العودة. إلا أن الامتحان الحقيقي أمام من يحكم داخليا في قطاع غزة هو القدرة على رؤية الطاقات الشبابية والشعبية الجديدة، باعتبارها جزءا عضويا من مقومات النهوض، وعاملا مستقلا في التفكير الاستراتيجي والفعل التحرّري. يجب أن يكون حاضرا في الأذهان، كيف أدار التيار المتنفذ في منظمة التحرير الفلسطينية ظهره للذين صنعوا الانتفاضة الأولى، بهدف دحر الاحتلال والاستيطان، وذهب خلسة إلى التفاوض مع المستعمر، ليعقد صفقة كارثية معه (اتفاق أوسلو)، مبدّدا التضحيات الكبيرة التي قدمها ذلك الجيل الذي كان ارتبط بمنظمة التحرير، وببرنامجها الوطني التحرّري.
من المرجح أن تُولّد مسيرة العودة في قطاع غزة تفاعلات في عموم الوطن، التاريخي، كما هو مأمول ومطلوب. ولذلك، واجب كل تجمع فلسطيني، من خلال هيئاته الحزبية والشعبية والتمثيلية، أن يرى نفسه في إطار هذه المعركة، الوطنية الإنسانية، ذات الشكل الشعبي المدني للنضال. لتكن فاتحة أفق حقيقي أمام النضال الفلسطيني التحرّري، ولتأطير الشعب.
(العربي الجديد)