بقلم يامن أحمد حمدي
الدراما فن أو لا يكون، فكرة وتصور، إبداع وخلق، وأهداف..إذا ما تظافرت هذه الأركان في أي عمل درامي، فإنه ينجح بغض النظر عن أي شيء ، وبغض النظر عن الشخوص التي تتجسد فيها.
أثار علي شورب المسلسل التلفزيوني الذي يبث في التاسعة عديد الانتقادات باعتباره يتناول سيرة “باندي” من تونس العاصمة عاش حياة الصعلكة والإجرام والفسوق والسجون، بل تم تناقل أخبار مبالغ فيها عن هذا الشخص وفيها الكثير من التجني، وهو ما شوه هذه الشخصية بنفس تشويه المسلسل لها.
لا يهم إذا كانت شخصية المسلسل علي شورب أو الدغباجي أو علي بن خليفة أو محمد علي الحامي، بل يهم التصور والفكرة والسيناريو والحوار والديكور والاكسسوارات والكاستينغ والتمثيل، وغيرها من عناصر المسلسلات. فكثير من الأعمال الدرامية التي تناولت شخصيات عظيمة ومؤثرة تم إخراجها بطريقة رديئة شوهت أبطالها، مثل مسلسل “ناصر” عن جمال عبد الناصر، ومسلسل خالد ابن الوليد.
مسلسلات عربية عديدة تناولت شخصيات معروفة وأبدعت فيها مثل الملك فاروق (تيم الحسن) وشيخ العرب همام (يحي الفخراني)، أم كلثوم (صابرين)، وغيرها،.. وفي حالات عديدة، لا يكون للشبه الخلقي والجسماني أي أهمية، بل ما يهم الروح والتقمص، ولنا في فيلم عمر المختار للممثل العالمي أنطوني كوين خير مثال، وكذلك فيلم الفاجومي عن حياة أحمد فؤاد نجم الذي أبدع فيه الممثل المصري خالد الصاوي، رغم الاختلاف في ملامح الوجه والجسم وطريقة الكلام،.. فهناك تركيز على الروح والجوهر الذي يبقى أثرهما الكبيرين على المشاهد.
هناك شخصيات قد تخلق من جديد بفعل إبداع الممثلين مثل شخصية حسن البنا في الجماعة (جزء ١) وشخصية سيد قطب وزينب الغزالي في الجماعة (جزء٢)،.. بل هناك أعمال تجاوزت فكرة البطل الفرد للتحدث عن ظروف جيل كامل، أو مجتمع بأكمله في فترة تحولات تاريخية عميقة، مثل مسلسل العندليب الذي تناول حياة جيل كامل في الستينات والسبعينات: المطرب عبد الحليم حافظ، والشاعر العامي عبد الرحمان الأبنودي، والشاعر أمل دنقل،..
نعود لمسلسل “شورب”، الذي لم يكن لدي أي انتقاد لمسلسل عن هذا الباندي والمجرم، فقد كان بالإمكان خلق عمل فني من خلال هذه الشخصية: ابن عائلة نازحة من الشمال الغربي، بفعل أزمة الأرياف في فترة الثلاثينات، وتستقر في الأحياء التي بدأت تتهمش في العاصمة. ويموت أبوه في ظروف درامية ويتحول إلى مجرم ولص وباندي يدافع عن أبناء وبنات حومته، ويهاجم السلطة أينما وجدت (فرنسا الاستعمارية أو دولة الاستقلال)، معبرا بذلك عن فئة اجتماعية استقرت في الارباض وفي جبل الأحمر والملاسين تعاني من التهميش والتفقير وغياب أي دور اجتماعي للدولة.
فقد تواصل نفس التهميش من قبل فرنسا ومن قبل دولة الاستقلال التي ادعت أنها تقوم ببناء مجتمع جديد. ولكنها انشغلت بالمعارك الكبرى والعناوين الشاسعة واستثمرت في أنماط الاقتصاد وطرق تسيير الدولة والنظم الاجتماعية، والتشريعات القانونية (الجمهورية، الأحوال الشخصية، التعاضد، التصنيع،..)، وأهملت أهم عنصر: الإنسان\المواطن، وكانت النتيجة ما تعانيه الآن تونس من تردي للسياسة وللاقتصاد وللمجتمع وللأخلاق وللقيم.
كان بالإمكان الإبداع في تصور فني لهذا الشخص الذي لن يكون شيطانا أو ملاكا، بقدر ماهو إنسان طبيعي وابن لمجتمعه ولعصره، يقوم بأعمال شهامة وبطولية، ويقوم أيضا بأفعال مشينة وبشعة، في تناقض يعبر عن الطبيعة البشرية.. ولذلك ما تزال الدراما التونسية بعيدة تماما عن تجسيد السير الذاتية للشخصيات الوطنية، ولذلك كان من الأفضل أن لا يتم تجسيد شخصيات قد يتم تشويهها تماما لخلل ما في أركان الدراما، لولا بعض الأعمال التي نجحت إلى حد ما مثل مسلسل خميس الترنان ومسلسل عنبر الليل (المستوحى من حياة حبيبة مسيكة).
من هذا المدخل لا أرى أي ضير في إنتاج مسلسل عن هذا ” الباندي”، بشرط توفر الشروط الدرامية المذكورة سابقا. وفي ظل غياب هذه الشروط، وفي انتظار تطور الأداء الدرامي التونسي، من الأفضل الاكتفاء بتجسيد شخصية شعبية مثل “شورب” ، وعدم التوجه ،مثلما يطالب الكثير، إلى إنتاج أعمال درامية عن شخصيات وطنية أو سياسية أو نضالية من طينة علي بن خليفة و الدغباجي والحامي والثعالبي وحشاد وبورقيبة وبن يوسف وغيرهم،.. لذلك، وفي هذه المرحلة، أقول: نعم لشورب ولا للدغباجي..!