تقرير ماهر جعيدان
في شهر ديسمبر عندما تستقر الشمس في رحم البرد الشديد و تستحي الشمس أن تنشر أشعتها التي تختفي وراء السحب الملبدة، هناك في الأحياء على هامش المدن تشاهد النسوة يخرجن من بيوتهن في مسار معتم نحو العمل، يجبن الأزقة و يقفن في محطات النقل يلتحفن العزيمة و الصبر من أجل يوم قد يأتي ببعض الأجر الذي يسد رمق الحاجة و يضمن استمرار الحياة..
ابتسام.ش ( 30 سنة) جذبتها المدينة في سن مبكرة ، فقبل عشر سنوات انقطعت عن الدراسة في قريتها بإحدى معتمديات ولاية القيروان، و لما كانت الحاجة ماسة لإعانة أخويها الصغيرين و أبويها العاجزين عن تسديد تكاليف الدراسة توجهت نحو مدينة سوسة باحثة عن عمل في قطاع النسيج و اكترت لنفسها بيتا فرديا في أحد أحياء سوسة .
أفاقت ابتسام فجرا على نغمات فيروز في حجرة تطل على مطبخ و دورة مياه ، كانت الحركة تدب شيئا فشيئا في الشارع و تسمع أزيز الأبواب الحديدية و حفيف الفتيات في الطريق المعتم و بعض الضحكات المتناثرة هنا و هناك من أجل يوم قد يأتي ببعض الأمل.
وضعت ابتسام بعضا من الغذاء في سلتها و انطلقت نحو المحطة لتجد العشرات من زميلاتها في العمل ينتظرن حافلة خاصة بشركة الخياطة التي تعمل فيها، السادسة و النصف كانت في الموعد مع سفرة تمتد بعض الكيلومترات لتلتحق بمكانها في المصنع السابعة صباحا و منذ تلك اللحظة تفقد ابتسام ذاتها لتندمج في ” سلسلة ” العمل إلى نحو الساعة الخامسة مساء و قد بدأت أشعة الشمس في توديع الفضاءات المشرقة..و بين هذا و ذاك تعيش ابتسام بين الحياة و العمل و ما بقي من الأمل كامل الأسبوع لتنتظر بداية الشهر أجرتها.
و لكن الإغلاق العام بسبب انتشار وباء كورونا قد أقعدها عن العمل فالتزمت الاعتكاف بالبيت لأشهر و لم تكفها الإعانة الاجتماعية الحكومية في ظل توتر علاقتها الشغلية مع المشغل الذي امتنع عن سداد ما هو موكول إليه من أجر.
كانت المحنة التي عاشتها ابتسام واحدة من مئات الحالات المماثلة لزملائها اللاتي عشن أزمة كورونا و ما كان من أغلبهن إلا الصمت على الوضع الراهن طمعا في الابقاء على فرصة العمل مع المشغل.
سعاد ( 40 سنة ) أم لطفلة في سن السابعة تقطن بحي العوينة بسوسة عيّنة أخرى من النساء اللاتي يكافحن من أجل الحياة ، انفصلت عن زوجها قبل سنتين و لا تزال تكافح من أجل الابقاء على مصدر رزقها بعد أن تحصلت عليه منذ أكثر من 15 سنة و هي التي جاءت إلى مدينة سوسة من قرى مدينة الوسلاتية ، لما كان قطاع الصناعات المعملية يستقطب اليد العاملة المختصة قدمت شهادة في التكوين تمكنت بموجبها من فرص تكوين بجمهورية ألمانيا بدعم من المؤسسة الالمانية المشغلة لها ، و تمكنت بعد ذلك من عمل قارّ و عقد دائم ، غير أنه بعد الكورونا اضطرت الشركة الاستغناء عن معظم الوظائف فأصبحت مهددة في كل لحظة بالتقاعد المبكر مما يدفعها إلى البحث عن مشروع خاص يعيد اندماجها من جديد في سوق الشغل..و عبرت لنا سعاد عن قلقها المتزايد من المستقبل الذي يتعلق بها و ابنتها على حد سواء في مدينة تحط من قيمة المرأة المطلقة و مجتمع لا يرحم.
محبوبة (19 سنة) معينة منزلية في إحدى الأحياء الراقية في سوسة الشمالية، حديثة عهد بالعمل اعترضناها عند احدى المفترقات تنتظر وسيلة نقل لتقلها إلى بيت مشغلتها ، دردشة قليلة كشفت خلالها عن كونها قد جاءت لمدينة سوسة بوساطة من أحد معارفها في ولاية القصرين و ذلك بقصد العمل معينة منزلية في أحد البيوت و قد تلقت ضمانات بحسن المعاملة ، غير أن محبوبة تشعر ببعض الألم النفسي نتيجة ما تلاحظه من فوارق اجتماعية و مادية مما يدفعها إلى البحث عن عمل جديد لا تشعر فيها بأنها ملك لغيرها بل سيدة نفسها ، و لم تخف رغبتها في البحث عن تجارة تقتات منها و تدفعها نحو الأفضل.
و حدثتنا محبوبة عن قصص مروعة تعيشها المعينات المنزلية بسبب سوء المعاملة و التحرش الجنسي و العنف المعنوي الذي تعاني منه أغلب النساء في منازل المشغلين، كما أسرّت لنا عن اكتساح شريحة من النساء المهاجرات من افريقيا جنوب الصحراء بيوتا لتونسيين و تعرضهن لكافة أشكال العنف بشكل مهين للذات الانسانية .
اختلفت الشهادات و التجارب من نساء و فتيات قدمن من المناطق الداخلية بحثا عن العمل و لكن ما لاحظناه كذلك امتناع العديد منهن عن الحديث في وسائل الاعلام عن حقيقة أوضاعهن الاقتصادية و الاجتماعية و التراجع عن وعود أولية بالحوار ..و لعل تكرر هذه الظاهرة يحيلنا إلى إرادة عدم المكاشفة و هذا ما يزيد الوضع تعقيدا من أجل تشخيص معمق لواقع الحيف الاقتصادي و الاجتماعي الذي يعشنه.
و لعل دور المجتمع المدني يبدو هاما في تجميع المعطيات و البيانات و خاصة منها الجمعيات النسوية التي تهتم بشأن المرأة و كذلك الجمعيات التنموية.
صمت النساء ضحايا الحيف الاقتصادي و الاجتماعي سمة في المجتمع التونسي و هو كالرمال المتحركة في الصحراء القاحلة تتغير التضاريس و لكن المعضلة تبقى قائمة غير أن الحركات الاحتجاجية للمرأة العاملة تتخذ صبغة جماعية معلنة عند اشتداد المحنة الاقتصادية و في ذلك مثل من المسيرات و الوقفات التي نفذها المشتغلات في القطاع السياحي لفترة زمنية خلال الأزمات الكبرى في قطاع السياحة مثلا في كل من ولايتي سوسة و المنستير خاصة و كذلك في قطاع النسيج و الصناعات المعملية خلال أزمة كورونا بين سنتي 2020 و 2021. حينها تلقت الاتحادات الجهوية للشغل تشكيات مختلفة بعد العجز عن كسب الحقوق ضمن المسلك الإداري سواء في تفقدية الشغل أو كافة مصالح وزارة الشؤون الاجتماعية .
المعهد الوطني للإحصاء (حكومي) كشف في المدة الأخيرة عن آخر الاحصائيات في مجال التشغيل و البطالة . و حسب مؤشرات التشغيل والبطالة للثلاثي الثالث2021 يتواصل انخفاض عدد المشتغلين مسجلا تراجعا بـ 28 ألف مشتغل مقارنة بالثلاثي الثاني من نفس السنة .
و يقدر عدد السكان المشتغلين في الثلاثي الثاني لسنة 2021 بـ 3378,9 ألف مشتغل، مقابل 3406,9 ألفا خلال الثلاثي الأول من سنة 2021، مسجلا بذلك إنخفاضا يقدر بحوالي 28 ألف مشتغل. ويتوزع المشتغلون إلى 2401,9 ألف مشتغل من الذكور و 977,0 ألفا من الإناث.
ارتفاع نسبة البطالة بـ 0.5 نقطة مقارنة بالثلاثي الثاني من سنة 2021
أفرزت نتائج المسح الوطني حول السكان والتشغيل للثلاثي الثالث من سنة 2021، 762,6 ألف عاطل عن العمل من مجموع السكان النشيطين مقابل 746,4 ألف عاطل عن العمل تم تسجيله خلال الثلاثي الثاني لسنة 2021، أي بزيادة 16 ألف عاطل عن العمل . وبالتالي، شهدت نسبة البطالة ارتفاعا لتبلغ 18,4% خلال الثلاثي الثالث مقابل 17,9% خلال الثلاثي الثاني من سنة 2021 .
وإرتفعت نسبة البطالة حسب الجنس بـ 0.5 نقطة لكلى الجنسين ، لتبلغ 15.9% لدى الذكور و 24.1% لدى الاناث خلال الثلاثي الثالث لسنة 2021.
كما ارتفعت نسبة بطالة الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و 24 سنة خلال الثلاثي الثالث من سنة 2021 لتبلغ 42.4% مقابل 41,7% خلال الثلاثي الثاني من سنة 2021 . وتقدر هذه النسبة بـ 42,8% لدى الذكور و 41,7% لدى الاناث.
و حسب نسبة البطالة في الأقاليم فقد حافظت المناطق الغربية للبلاد التونسية و الجنوب التونسي على أعلى نسب للبطالة ، فقد بلغت 33,0 % بالشمال الغربي، 26,3 % بالجنوب الغربي، 23,0% بالوسط الغربي و 22,5 % بالجنوب الشرقي و هي معدلات تتجاوز المعدل الوطني بـين أربع و أربعة عشر نقطة. وبحدة أقل، يسجل الشمال الشرقي والوسط الشرقي وتونس الكبرى معدلات بطالة دون المعدل الوطني لتبلغ على التوالي 10.8 %، 13.9 % و16.1 %.
ومقارنة بالثلاثي الثاني لسنة 2021، شهدت نسبة البطالة ارتفاعا نسبيا في المناطق الغربية للبلاد: الشمال الغربي (+3 نقاط) والجنوب الغربي (+1,3 نقاط) والوسط الغربي (+0,9 نقطة). كما شهدت البطالة انخفاضا طفيفا في الشمال الشرقي (- 1 نقطة) و الجنوب الشرقي ( – 0,9 نقطة).
إن الإحصائيات المذكورة تكشف حجم الأزمة الاقتصادية و التشغيلية خاصة التي تعيشها البلاد و تأثيرها البالغ على المرأة كمكون أساسي في المجتمع التونسي و الأسرة ، كما تبين حجم الفوارق بين الجهات مما كرس التقسيم التقليدي بمناطق ” جاذبة” و “مناطق طاردة” و هو ما يفسر ارتفاع نسبة الهجرة الداخلية حتى في زمن الأزمات و طلك من أجل البحث عن المستوى الأدنى الذي يضمن العيش .
تواصلنا مع سوسن الجعدي عن هيئة منتدى الحقوق الاقتصادية و الاجتماعية بالقيروان التي أشارت إلى ضرورة الاحاطة الاجتماعية و الاقتصادية و النفسية بالمرأة التي تهاجر من جهة إلى أخرى لضرورة العمل و أقرت بأن سياسات التهميش و تكريس الفوارق بين الجهات كانت سببا مباشرا في هذا النوع من الهجرة، فهشاشة البنية التحتية في القيروان مثلا و عدم وجود سكك حديدية أو مطارات يحافظ عليها كمنطقة طاردة لشبابها و شاباتها ، كما أن غلق العديد من المؤسسات بسبب الأزمة الاقتصادية قد فاقم نسبة البطالة و لعل أزمة مصنع الخياطة “بالباطن” و إحالة قرابة 600 فتاة على البطالة نتيجة حرمانهن من حقوقهن في الاحتجاج دليل على هشاشة هذا القطاع و عدم تلبيته لرغبة أهالي المنطقة .
و أضافت سوسن الجعدي أن ” معظم الفتيات اللاتي يغادرن المناطق الريفية في اتجاه الساحل إما بسبب الانقطاع المبكر عن العمل و ارتفاع نسبة الفقر المدقع بها أو صعوبة البيئة التي يعشن فيها و شح موارد الأرض المائية التي تسببت في الجفاف و قلة المناطق الفلاحية التي يمكن استغلالها ، فأزمة المياه في الجهة عامل مهم في تعميق أزمة البطالة و شح مورد الرزق الذي شكل أساسا للعيش منذ زمن بعيد ” .
و تقول الجعدي ” إن الفتاة المهاجرة نحو مناطق الجذب الاقتصادي تفضل البقاء هناك لتلبية الحد الأدنى من العيش و تبحث عن الاستقرار الاجتماعي و الأسري هناك ، و تكمن صعوبة الاندماج في اختيار نوعية العيش التي يخترنها و عامل المسكن يعتبر أساسيا في ضمان الحد الأدنى من الاستقرار جنبا إلى جنب مع العمل ” .
من جهتها كشفت نجمة العوادي رئيسة جمعية النساء التونسيات للبحث حول التنمية في حوار معها أن ” من بين النساء اللاتي اتجهن للعمل في الشريط الساحلي و مناطق الجذب الكبرى بصفة عامة هناك نوع جدير بالإحاطة و هن العاملات المنزليات اللاتي توافدن بكثافة خلال السنوات الأخيرة مع استفحال الأزمة في المؤسسات الاقتصادية و تفاقم البطالة ، فالمعينات المنزليات يتعرضن إلى شتى أنواع العنف المادي و المعنوي و الجنسي ، و قد اقترنت مهنة المعينات المنزليات بخروج المرأة للعمل” .
و أفادت نجمة العوادي أن ” أزمة الكورونا قد عمقت مشاغل المعينات المنزليات و أحالت العشرات منهن على البطالة ، و عانين من الخصاصة و الفاقة خاصة لمن لديهم أطفالا في الكفالة كما لاحظنا أن أغلب أزواجهن لا يشتغلون أو يعملون في الحظائر و ليس لديهم موارد مالية منتظمة و هذا ما استدعى تدخلا منا و ذلك بتمكينهن من إعانات ظرفية ” .
و تضيف العوادي ” إن دور المجتمع المدني يبرز من خلال توفير سبل الإحاطة و توجيه هؤلاء النساء نحو مصالح الصحة النفسية و الاجتماعية و الضغط على الدولة و معاضدة دور وزارة المرأة لتوفير الآليات المناسبة للإعانة و الإحاطة بشتى الأشكال“.
و لاحظت نجمة العوادي أن ” الجمعية مع خروج المرأة للعمل و استقلالية النساء و هي مكون أساسي من مكونات المجتمع الحديث و وجب بناء المجتمع في كافة النواحي بناء متكاملا يشمل كافة الفئات “.
إن طرح مسألة “حقوق المرأة في المدينة” ليس موضوعا تونسيا أو محليا أو إقليميا فحسب وإنما هو طرح مقترن بمجتمع الحداثة والتوسع الاجتماعي والنمو الاقتصادي.
و من هنا كان لابد أن تتبنى الجهات الرسمية و الحقوقية و مكونات المجتمع المدني مقاربات تناهض كافة أشكال التمييز العنصري ضد المرأة و الفتيات و اتخاذ كافة الإجراءات اللازمة للتنمية و ضمان مساواتهم في ممارسة و إدراك حقوقهم .
مدينة من شأنها أن “تكفل للمرأة المساواة في المشاركة السياسية الكاملة والفعالة، وتكافؤ الفرص في القيادة على كافة مستويات صنع القرارات السياسية، والاجتماعية، والثقافية، والاقتصادية، وفي جميع مناحي الحياة العامة، إلى جانب إعلاء صوت المرأة وخلق فضاءات عامة وموارد لتنفيذ لأجنداتهم” و هو ما ذهبت اليه الجمعية البرازيلية “right to the city خلال ورشة دولية مناصرة لحقوق المرأة في المدينة .
مدينة خالية من العنف ̶ سواء الجسدي أو النفسي، أو اللفظي، أو المادي، أو الرمزي ̶ الموجه ضد النساء في الميادين العامة والخاصة، لضمان الاستغلال والتمتع الآمن بالحيز العام، والسلع المشتركة، وكذلك ضمان حرية التنقل. مدينة لا يشكل فيها الخوف حداً لحرياتهم. مدينة تضمن حق المرأة في أن تقرر بحرية ما تفعله بجسدها.
مدينة تعمل على تعزيز الاستقلال الاقتصادي للمرأة، وتكفل المساواة في العمالة، والكرامة والمساواة في الأجور للجميع وفي ظل ظروف متساوية، والاعتراف بعمل المرأة غير الرسمي، وهو مصدر هاماً للدخل في المدن. مدينة قادرة على تغيير علاقات القوة بين كل من النساء والرجال، والأسر، وبين السوق والدولة، وتحويل المدينة لتتوافق مع الاحتياجات الجماعية للنساء.
إن المسؤولية جماعية من أجل رفع المظالم الاجتماعية والاقتصادية عن المرأة القادمة من المناطق الداخلية في اتجاه مناطق الجذب الاقتصادي، وليست العملية الاحصائية مجرد أرقام ونسب حول تحرك الكتل الاجتماعية والأفراد وإنما وجب أن تقترن بطرح منوال تنموي بديل يلبي حاجات هذه الشريحة المجتمعية وتجاوز قوالب السلطة الجاهزة في طرح الحلول ودعوة إلى مزيد من المرونة والتشاركية مع مكونات المجتمع المدني والأهم من ذلك هو الايمان بالمبادئ العامة بالحقوق والحريات.
هذا العمل بدعم من منظمة صحفيون من أجل حقوق الإنسان ضمن مشروع “عالم كندا: صوت النساء والفتيات”