انحصرت نسبة النساء المترشحات لخوض غمار الاستحقاق الانتخابي التشريعي القادم ، في حدود 14.65 بالمائة من اجمالي 1317 مترشحا من بينهم 1124 من الرجال. وخلت بعض الدوائر الانتخابية من أي ترشح ” في صيغة المؤنث”، ليستقر عدد المترشحات في حدود 193 امرأة، من أجل التنافس على 161 مقعدا في مجلس نواب الشعب القادم.
تراجع عدد المترشحات لخوض هذه التجربة الانتخابية، لم يكن مستبعدا، فقد تم التنبيه إليه منذ صدور المرسوم عدد 55 لسنة 2022 المؤرخ في 15 سبتمبر 2022 المنقح والمتمم للقانون الأساسي عدد 16 لسنة 2014 المتعلق بالانتخابات والاستفتاء، بعد أن تم التخلي فيه عن مبدأ التناصف، في خلاف صريح ومباشر لمبدأ علوية الدستور حتى في نسخة 2022 الذي طرحه الرئيس سعيد على الاستفتاء بعد التدابير الاستثنائية التي اتخذها عقب 25 جويلية 2020، وتمت المصادقة عليه.
وقد نتج هذا التراجع في جزء منه، بسبب التخلي عن مقتضيات الفصل 24 من القانون عدد 16 لسنة 2014 المنقح بمقتضى القانون الأساسي عدد 76 لسنة 2019 لمتعلق بتنقيح واتمام القانون عدد 16 لسنة 2014، التي تنص على أن تقدّم الترشحات على أساس مبدأ التناصف بين النساء والرجال وقاعدة التناوب بينه داخل القائمة وعلى ألا تقبل القائمة التي لا تحترم هذا المبدأ إلا في حدود ما يحتمه العدد الفردي للمقاعد المخصصة لبعض الدوائر.
فهل حان موعد الردة على مكاسب المرأة في تونس بعد أن كان حضورها اللافت والفاعل في البرلمان عنوانا لتميز التونسيات وتفردهن بهذه المكانة على الصعيد العربي ومقارنة بعديد البرلمانات الأوروبية؟، وهل عصف القانون الانتخابي الجديد الذي ضمنه رئيس الجمهورية في المرسوم 55 بأحلام المرأة التونسية في تعزيز مكانتها السياسية وفرص نفاذها إلى مواقع القرار والمسؤولية خاصة التشريعية؟
موسم الردّة على مكاسب المرأة
إن إسقاط المشرع، الرئيس قيس سعيد، في المرسوم عدد 55 شرط التناصف الذي نص عليه القانون عدد 16 لسنة 2014، وانعكاسه المباشر على عدد المترشحات لخوض الانتخابات التشريعية في ديسمبر القادم، يؤكد حسب أستاذة النوع الاجتماعي بجامعة منوبة، الدكتورة آمال القرامي، التوقعات السابقة بأن تونس تتجه نحو إقصاء النساء الفاعلات في المشهد السياسي والحدّ من أدوارهن المختلفة في الشأن العام.
وتضيف القرامي قولها في حديثها مع (وات)، إن هناك رجوعا لترسيخ تمثّلات اجتماعية وصور نمطية لطالما كافحت النساء من أجل التخلي عنها وتغييرها”، معتبرة ذلك “عودة إلى نموذج النساء الطيّعات والمدافعات عن النظام”.
ورأت أن ضعف تمثيلية المرأة مقترن بتصوّر ” الدولة الأبوية التي يحكمها رجل لا يسأل عمّا يفعل، وهنا يكمن التعاضد بين النظام الأبوي من جهة والنظام السياسي من جهة أخرى”، لافتة إلى أن اختيار هذا النظام الانتخابي، الذي وصفته بالأعرج لا يأخذ بعين الاعتبار كل البناء الذي تم تشييده على مدى عشريتين من الزمن ونضال النساء منذ دولة الاستقلال من أجل إثبات مواطنتهن الكاملة، وسيؤدي لا محالة إلى غياب النساء الفاعلات في مجلس نواب الشعب القادم ومجالس الجهات والنظام.
وذهبت أستاذة القانون الدستوري سلسبيل القليبي، في تصريح لـ (وات)، إلى أن تونس أمام انتكاسة لمكتسبات المرأة وما تمت ملاحظته على مستوى ضعف الترشحات النسوية التي تعتتبر “هزيلة ولم تبلغ عتبة 15 بالمائة” بالنسبة إلى مجتمع متناصف التركيبة السكانية بين الرجال والنساء سينعكس على النتائج وسيضعف حظوظ المرأة في الانتخابات.
وتقول القليبي ” إن المرسوم 55 لسنة 2022 فيه ردّة وانتكاسة لمكاسب المرأة ومنعطفا للمسار الذي بدأه المرسوم المتعلق بالانتخابات في اتجاه التراجع عن مكاسب الثورة في ما يتعلق بحقوق المرأة وضرب لمبدأ تكافؤ الفرص بشكل واضح ، ويمكن أن يكون نقطة بداية لمراجعة هذه المكاسب التي افتكّت بنضالات أجيال”.
وفي المقابل اعتبرت الديناميكية النسوية المتكوّنة من عشر جمعيات أن القانون الانتخابي استمرار للتمييز والعنف ونسف حق النساء في المشاركة الحياة السياسية.
مرسوم الردّة
هذا التراجع واجهته منظمات المجتمع المدني والقوى النسوية والحقوقية وحتى الأحزاب المعارضة لمسار 25 جويلية والمقاطعة لانتخابات 17 ديسمبر 2002، بانتقادات حادة، خاصة لما تضمنه من شروط مجحفة على غرار شرط تزكية 400 ناخب لكل مرشح، حيث اعتبرته مكونات المجتمع المدني من بين تمظهرات الحيف حيال المرأة.
فبينما مكن التناصف المرأة سابقا من 34 بالمائة من مقاعد البرلمان وهي من بين الأعلى في العالم رغم تراجعها سنة إلى 2019 تراجعت إلى 26 بالمائة، فأن نظام الاقتراع على الأفراد الذي وضعه الرئيس يضعف فرضية تحقيق مثل هذه النسب، حيث ذهب الدكتور في علم الاجتماع السياسي بلعيد أولاد عبد الله إلى أن حضور المرأة في مجلس نواب الشعب فيه سيكون ضعيفا جدا خاصة أن نسبة المترشحات لن تتجاوز 10 إلى 12 بالمائة من المترشحين بعد البت في الملفات من قبل الهيئة العليا المستقلة للانتخابات.
وقدّرت آمال القرامي أن” هناك نية مبيتة لنسف مجموعة الاستحقاقات والمكتسبات والاقتصار على حضور باهت وشكلي للنساء في المشهد العام”، وأضافت قائلة” لا أعتقد أن اختيار زمن الانتخابات كان في صالح النساء اللواتي يجدن صعوبة في الغالب لبلورة حملاتهن الانتخابية والبحث عن التزكيات في مناخ تتصدر فيه الأزمات الاقتصادية والاجتماعية على حساب المسائل السياسية”.
واعتبرت سلسبيل القليبي اسقاط شرط التناصف الذي نص عليه دستور 2022 تضاربا صريحا مع أعلى قاعدة قانونية ألا وهي الدستور الذي ينص على أن الدولة تسعى إلى لتحقيق التناصف بين الرجل والمرأة في المجالس المنتخبة”، وحصر هذا التناصف في التزكيات التي يشترط فيها أن تكون مناصفة بين الرجال والنساء، وهي خطوة رآها عديد الناشطين تكريسا لبرلمان ذكوري بامتياز.
وبيّنت أن المرسوم عدد 55 مخالف للدستور على اعتباره يتضمن تناقضا معه على مستوى الفصلين ال22 و23 اللذين ينصان على المساواة بين التونسيين والتونسيات وتكافؤ الفرص بينهم وخاصة على مستوى الفصل 51 منه الذي ينص صراحة على التزام الدولة بحماية الحقوق المكتسبة وضمان تكافؤ الفرص، بما يعني حسب قولها “لا يحق له التراجع عن المكتسبات التي أحرزتها المرأة بما في ذلك الية التناصف التي مثلت ضمانة داعمة لتواجدها في الهياكل المنتخبة”.
وخلصت إلى أن نظام الاقتراع على الأفراد حسب التجربة والقانون المقارن، ليس صديقا للمرأة وما سينتجه من مؤسسات على غرار المجالس الجهوية ومختلف المجالس النيابية سيكون فيه تراجع لحضور المرأة وسيحدث شرخا مع حضورها الفاعل والقوي للنساء في هياكل المجتمع المدني والعودة بها إلى ما قبل 2011 حيث ركنها النظام آنذاك في المعارضة وسدّ أمامها الطريق إلى دوائر القرار على خلاف الرجل الذي تواجد في مختلف مواقع ا لقرار .
وفسّرت أن ما ضاعف صعوبة ترشح النساء شرط الحصول على 400 تزكية متناصفة بين الرجال والنساء إذ ليس للمرأة نفس الحظوظ في الحصول عليها على أرض الواقع وحتى وان حصلت عليها وترشحت أمام رجل في منطقة ما، فإن التصويت سيتم في أغلب الأحيان للرجال على اعتبار أن المجتمع التونسي وكغيره من المجتمعات العربية وحتى غير العربية ، ذكوري بامتياز.
وفي المقابل اعتبر الاتحاد الوطني للمرأة التونسية في بيان له أن المرسوم عدد 55 لم يلغ الفصل 24 الذي أوجب احترام مبدإ التناصف في كل الترشحات وفرض التناوب كشرط لقبول القائمات إلا أنه لا يمكن الاستناد إليه باعتبار أن الترشح للانتخابات التشريعية بات حكرا على الأفراد دون سواهم أي اعتماد مبدأ الإقتراع على الأفراد الذي سيمثل غموضا في تطبيق مبدأ التناصف في الانتخابات التشريعية القادمة
النضج المجتمعي لن ينصف المرأة
في الوقت الذي قدّر فيه المختص في علم الاجتماع السياسي بلعيد أولاد عبد والله حديثه لـ (وات)، أن النضج المجتمعي ضعيف جدا حتى تتمّ عملية التصويت على الأفراد وفق معيار الكفاءة كان بالامكان التفكير في حماية التناصف بآلية قانونية.
وأضاف قوله ” رغم أن المرأة لا تترشح منفردة وتنشط داخل الأسرة وربما أيضا المجتمع المدني والمنظمات. فكان حريا بهذه المكونات المجتمعية مناصرتها ومساندتها وتأييد ترشحها،
ولاحظ أن نظام التصويت على الأفراد يمكن أن تضطلع فيه مقاربة النوع الاجتماعي بدور هام على اعتبار أن النساء قد ينتصرن للنساء ويصوتن لهن في حين سيصوت الرجال للرجال ومع ذلك سيكون حضور المرأة في المجلس النيابي القادم شاحبا وضيئلا غير أنه لن يؤثر على مكتسبات المرأة حسب قوله، على اعتبار الدور المحدود للبرلمان القادم وأيضا لأن النفوذ السياسي لن يكون في البرلمان الذي افتقد عديد الصلاحيات وصارت أدواره هامشية وثانوية.
وترى الديناميكية النسوية أن اعتماد الاقتراع على الافراد دون ضبط ضمانات تتيح للنساء مشاركة واسعة وفعلية وأن حذف التمويل العمومي للحملات الانتخابية، يفتح الباب أمام اقصاء النساء مقابل تعزيز فرص أصحاب الوجاهة والمال المبنية على علاقة القرابة وعلى العروشية والزبونية.
وفي البحث عن سبل أخرى لتعزيز حضور المرأة في مجلس نواب الشعب من غير اعتماد مبدأ التناصف بينت سلسبيل القليبي أن عديد الدول التي لم تنص قوانينها الانتخابية على آلية التناصف، لجأت إلى آليات قانونية على غرار الحرمان من التمويل العمومي للحملات الانتخابية للأحزاب التي لم تقدم قائمات انتخابية متناصفة وأخرى نصت على عقوبات مالية للأحزاب التي لم تقم بذات الإجراء على غرار فرنسا..
ورغم التراجع المحتمل لحضور المرأة في البرلمان القادم، فإن المرأة التونسية ومن ورائها المنظمات الحقوقية والفاعلات في الحياة العامة جبلن على النضال لافتكاك حقوق النساء وتعزيز مكاسبهن واكتسحن الشوارع من أجل قضايا النساء العادلة.
وات