طارق ترشيشي
بالتأكيد سيكون هناك قراءات مختلفة لمواقف الرئيس السوري بشار الاسد في حواره مع الزميل غسان بن جدو في قناة «الميادين»، وتباين هذه القراءات سيعكس تباين المواقف من الرئيس السوري نفسه خصوصاً، ومن الازمة السورية عموماً. فمعارضو الأسد سيركزون على بعض تعابيره الحادة ضد دول وجهات حمّلها مسؤولية ما يجري في سوريا، معتمداً في حدته على جملة وقائع يعرفها القاصي والداني.
لكن القراءة الموضوعية لمواقفه تظهر انه ما يزال يعتمد سياسة الابواب المفتوحة نحو الأطراف التي يحمّلها مسؤولية اشعال النار في بلاده.
فرغم حديثه الطويل مثلا عن السياسات الأميركية تجاه بلاده بكل ما انطوت عليه من ترغيب وترهيب وحديثه عن صدقية وعود الادارات الاميركية، فإنه ابقى الباب مفتوحاً امام استئناف تعاون قديم كشف عنه في مجال مكافحة الارهاب، مشترطاً لتطوير هذه العلاقات ان تقوم على اساس احترام المصالح المشتركة وتجنب سياسة الالحاق او التبعية او التهميش التي يعتقد ان الادارة الاميركية مارستها مع كثير من دول المنطقة والعالم.
واللافت ايضاً ان الأسد حتى في العلاقة مع الرياض والدوحة، اعتبر ان عودة العلاقات الى طبيعتها معهما تحتاج الى “موافقة الشعب السوري”، مؤكدا ان القرار في هذه الامور “لا يجوز ان يكون ملك شخص واحد او فئة واحدة، بل يجب ان يكون قرار الشعب كله”.
وبالنسبة الى تركيا ميّز الاسد بين سياسة رئيس وزرائها رجب طيب ردوغان الغارق في عصبيته الحزبية لمصلحة بلاده، وبين الشعب التركي الذي يدفع يومياً ثمناً باهظا للسياسة الحالية المعتمدة ازاء الازمة السورية، وهي استمرار لنهج يدرك ان تغيير السياسة التركية تجاهه سيسقطها الاتراك انفسهم.
اما موقفه الحاد من “الإخوان المسلمين” فلا يمكن النظر اليه على انه موقف شخصي من جماعة تحرّض وتسلّح وتشعل النار في سوريا فقط، بل انه بهذا الموقف يفتح الطريق امام انتمائه الى جبهة شعبية ورسمية واسعة في المنطقة تتعاظم يوما بعد يوم بسبب سياسات “الاخوان” في الحكم في غير بلد عربي، خصوصا في مصر التي كان الأسد واضحا في الاشارة الى علاقات مع مؤسساتها من دون تفاؤل سابق لأوانه.
وحتى في الموضوع الداخلي السوري قال الاسد كلاما متطورا حين شدّد على ثلاثة امور: اولها وجود معارضة وطنية في الداخل ليس لها اي علاقة بالنظام ولكنها لم تمد يدها الى الاجنبي وتطالب بتدخّله. وثانيها اقراره بأن القوى الخارجية ما كان ممكنا لها تحقيق ما حققته لولا وجود الخلل في الداخل، وأنه لا ينبغي تحميل الغرب ودول في المنطقة وحدها مسؤولية الأزمة، بل المسؤول هو السوريون انفسهم.
وثالثها تأكيده اهمية المشاركة الشعبية في كل القرارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتصلة ببلادهم، وان مَن يدير الظهر من المسؤولين لفكرة المشاركة لا يدرك حجم التحولات الجارية في المنطقة والعالم.
وحول مؤتمر “جنيف ـ 2″ صارح الاسد الشعب السوري بأن عوامل نجاح هذا المؤتمر غير متوافرة في الوقت الحاضر، وان كان عاود تأكيد المشاركة فيه لدى انعقاده من دون محاذير او شروط. وكان الاسد واضحا للمرة الاولى في التأكيد أنه لا يمانع شخصيا من ترشيح نفسه لولاية رئاسية جديدة، ولكنه ربط هذا الترشيح بالارادة الشعبية أولا وأخيرا.
المراقبون لاحظوا ان الاسد على رغم هجومه الشديد على “الاخوان المسلمين” قد شدد على ان القاعدتين الرئيستين اللتين تتحكمان بأبناء هذه المنطقة هما العروبة والاسلام من دون ان يعني ذلك تهميشا لأي من القوميات والاديان الموجودة في المنطقة، وكأنه يقول ان العروبة هي ضمان للعرب المسلمين وغير المسلمين وأن الاسلام ضمان للمسلمين العرب والمسلمين من القوميات الأُخرى التي اكد احترامه لها، فهو بذلك اراد ان يجرّد الاسلاميين المتشددين من استغلالهم الاسلام لضرب هوية المنطقة العربية، وأن يجرد العروبيين العنصريين من استخدام العروبة سلاحا لمعاداة القوميات الأُخرى.
وبهذا المعنى فقد جمع الاسد، حسب سياسي مخضرم، بين “الصلابة المبدئية التي لا تفرط بالاستقلال والسيادة والحقوق، وبين المرونة السياسية القادرة على التعامل مع الوقائع وتكييفها بما ينسجم مع الاستراتيجيات الكبرى”.
واعتبر هذا السياسي “ان الاسد، وإن لم يعتبر نفسه منتصرا حتى الآن، كان يتحدث من موقع قوة تعززه تطورات ميدانية داخلية وتحولات سياسية خارجية لعل ابرزها التقارب الاميركي ـ الايراني، الذي لم يتردد لحظة في اعلان ترحيبه به، معتبرا ان كل ما يخدم المصلحة الايرانية ينعكس ايجابا على مصلحة سوريا.
وحديث الاسد بهذا المعنى كان محطة مهمة جديدة في الازمة السورية، وبلغة الميدان كان اقتحاما سياسيا لا يقل اهمية عن الاقتحامات العسكرية التي يحققها الجيش السوري ميدانياً”. لقد قال الاسد كل ما عنده، لكنه ترك الابواب مفتوحة على كل المستويات.
الجمهورية