سليمان تقي الدين
لا مؤشرات على تسويات سياسية في الدول الثلاث المعلّقة الوجود بالانقسامات من لبنان إلى سوريا والعراق. لم تعد تصدمنا بالقدر الكافي صورة العراق بحربه الأهلية منذ الاحتلال الأميركي، ومستوى العنف الهائل الذي غيّر خارطة البلد الجغرافية والديمغرافية، ودمّر معظم ثروات شعبه ومقدراته. مدهش كم أن هذا البلد المنكوب لا يحظى بالاهتمام العربي والدولي وهو متروك لمسار عبثي من دون أية مبادرات سياسية. السلطة الرسمية التي تولّت هذا البلد هي نفسها ليست جادة في إعادة توحيده وبناء الدولة الوطنية والاستقرار الأمني والسياسي.
لم يشكّل العراق درساً مفيداً لأقرانه العرب، برغم كل التحذير من «العرقنة». سلكت سوريا المسلك نفسه المؤدي إلى التفكك والحرب الأهلية المتمادية. آليات الصراع، كما أشكال التحالفات والمداخلات الخارجية تقود إلى نتائج ربما لا تكون في أهداف القوى الفاعلة. والآن يجيء دور لبنان تكراراً لتجاربه السابقة وللمسارات المشرقية العربية وكأننا محكومون باللعنة المحتومة نفسها. هذه الدول الثلاث تهدم ما بنته في قرن كامل من المشتركات ومن تنمية الوطنيات ولو من حول أنظمة كانت شرعياتها منقوصة. فعلياً لم تكن تقسيمات سايكس ـ بيكو كما تُظهر الوقائع علّة هذه الشرعيات. فما يحصل الآن هو نوع من التجاوز السلبي الأكثر تجزئة وتفتيتاً ولأسباب ومعطيات ليس مصدرها الأبرز والأهم لا الغرب ولا المشاريع الاستعمارية. طبعاً لا يغيب عن البال أن الغرب يرغب، في الماضي والحاضر، في صياغة مجتمعات تابعة ضعيفة لكنه ليس مرجعية الصراع السني الشيعي وامتداداته الإقليمية الذي تأسس في المجتمعات العربية، على حد ما تقول به قواه، لأكثر من ألف سنة خلت قبل حضور الغرب على المسرح الدولي. نحن اخترعنا أنظمة «الذمية» و«الملل» وصنعنا تاريخنا انطلاقاً من تأويل السياسي بالديني، وشرطنا اجتماعنا السياسي بالسلالات الحاكمة أو الهويات الطائفية، وجعلناها عابرة للحدود الجغرافية ولغيرها من العناصر الجامعة، وأقمنا «الأمة» و«الجماعة» على عصبية «الدعوة» وأسبغناها على كل سلطان أو ملك. لا يمكن أن يكون الدين هو الذي يقودنا إلى هذه البربرية والهمجية حيث لم يكن من قبل كذلك.
الدين الذي يدخل المسرح السياسي اليوم هو نتاج معاصر لحركات سياسية تستثمر على الإيمان مشاريعها السلطوية. لديها كل فرص النجاح لبناء قوتها المادية لكنها عاجزة أبداً عن تنظيم مجتمعات منفتحة تعددية لأنها مكوّنة أساساً من وجه سالب للحرية، حرية جماعاتها وحرية مجتمعاتها. هذا المأزق «الوجودي» مصدره مفهوم السياسة والثقافة السياسية حيث يهيمن نظام القوة لا نظام الإقناع. فالنموذج الذي يقدمه الإسلام السياسي حين ينجح في السلطة أو يفشل فيها هو نموذج «الفتح» أو «الغزو» أو «الاحتلال»، من دون أن يمتلك جاذبية الإعجاب أو جاذبية التقدم اجتماعياً وثقافياً. فمن طبيعة الاستبداد إقامة صروح مادية هائلة توحي بالقوة والعظمة، لكنها حاجزة لعناصر القوة الدائمة ولعناصر التقدم الكامنة في إطلاق حرية الإنسان وقدراته الفكرية والإبداعية.
المشكلة التي نواجه في المدى العربي وفي اللحظة اللبنانية الأكثر إشباعاً وامتلاءً بثقافة العروبة والإسلام المنتجين من تشوّهات تاريخية ومعاصرة، أن غلبة أي طرف سياسي لا تعني علاقة جدلية بين القوة والتقدم. فالسؤال الأساسي المقلق هو سؤال النموذج السياسي الاجتماعي الذي يريده هذا الطرف وطبيعة «المجتمع النقيض» الذي يريد إقامته، لا في فكرة أنه يهيمن أو يسيطر. فإذا كان المشروع هو فقط المشروع السياسي الذي يُقدَّم في صورة مهمات سياسية ظرفية، فهو يبقى كذلك غير مستحق للمغامرة بتغيير المجتمع. ولسنا نعرف لدى أطراف النزاع اللبناني الذي يقودنا اليوم إلى حرب أهلية أي صورة مختلفة عن المشهد الدموي التدميري العراقي والسوري بما يفوق ما اختبرناه في حربنا الأهلية السابقة. فعلى المستوى السياسي كذلك، إن أي فوضى قد تحصل أو أي انهيار لمؤسسات الدولة الهزيلة ليس إلا ملاقاة صريحة واندماجاً واضحاً في الحروب الأهلية الآيلة إلى تفكيك كيانات المنطقة والعبث بمجتمعاتها ومكوّناتها.
فلا مكان هنا لإلقاء المسؤولية على الآخرين. فلا مؤامرة ولا أي مخطط استعماري بل انزلاق أو اختيار لمشاريع التقسيم بدلاً من مقاومتها. وكم وكم من قرارات على هذا المستوى كانت غالباً ناشئة عن قصور في الرؤية، أو عن حسابات خاطئة، أو عن ضيق أفق وإفلاس سياسي، أخذتنا إلى الكوارث. إن المعيار الحقيقي الآن لأي نجاح هو في العقلانية وفي العمل السياسي السلمي الديموقراطي بين أبناء الشعب الواحد والبلد الواحد. فهل فات أوان هذا التفكير أم قد صرنا أسرى ما راكمناه من أخطاء وبنيناه من مهابة وقوة ونريد أن نصرف ذلك في المكان الخطأ؟ فما الذي يشفع لنا «أن نأتي من الوضوح الجميل وندبّ في الغموض العظيم» ونطلق كل الاحتمالات غير المنظورة في لعبة الحرب غير الممكن السيطرة عليها.
السفير