توقفت مسيرة صعود تركيا بوتيرة سريعة لم تتجاوز السنتين كلاعب اقليمي يعول عليه، ترنحت تحت وطأة تعظيم دور مصطنع ورسم استراتيجيات رغبوية واستحضار امجاد افُلَت منذ زمن، وهي التي تحددت سياساتها بقدر ما تخدم السياسات الأميركية، وعلى رأسها تعميم نموذجها الإسلامي المتصالح مع الكيان الصهيوني ونسج اوثق العلاقات معه.
بؤرة التحرك المركزية تمحورت حول الثنائي المتهور اردوغان – داوود اوغلو اللذين بشّرا بمرحلة هانئة مزدهرة “صفرية المشاكل،” لتنقلب إلى استراتيجية خاطئة انهارت معها كافة علاقات تركيا الاقليمية، وانتقال الصراع إلى داخل النخبة السياسية عينها في “حزب الحرية والعدالة”، سيما بعد انكشاف الأوهام الداخلية بمستقبل باهر واستقرار آمن.
ما اصاب التوأم الحاكم من اوهام تعود جذوره إلى آفة غطرسة القوة التي تدفع باصحابها إلى انتهاج تصرفات تستهتر بالخصوم وتبالغ في محورية موقعها، كما شهدت نظم سياسية عدة ابتداء من ريتشارد نيكسون وفضائحه في ووترغيت، مرورا بالدول الأوروبية المختلفة، وكان صاعق التفجير في معظمها نزعة الإستبداد والمحاباة وانتشار الفساد.
منذ تسلمه مقاليد السلطة في تركيا قبل أحد عشر عاماً، انتقل اردوغان إلى ترسيخ مراكز القوة بين يديه متحديا نفوذ وهيبة “البقرة الاتاتوركية المقدسة،” مجسدة بالمؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية، وحقق بعض النجاحات ضد سيطرتها.
انتشى أردوغان بأكاليل النصر عقب كل مرحلة من مراحل الإنتخابات الثلاث التي اعادته للسلطة بنسبة أعظم مما سبقها، مما دفعه للمجازفة في التمدد الإقليمي وإحياء مشروع مؤدلج يستند إلى نموذج حزبه في تطبيق ما يسمى الحكم الإسلامي بوصفة تركية مقبولة أوروبياً وأميركياً، تنسج أوثق العلاقات مع حليفتيهما “اسرائيل“.
بيد أن أردوغان استند بشكل أوسع على قاعدة الدعم الذي قدمه “المرشد الإسلامي” لحزبه، فتح الله غولن، الذي غادر تركيا عام 1999 طوعا وانتقل للاقامة في الولايات المتحدة.
غطرسة وطموحات أردوغان الإقليمية دفعت به إلى التباين وربما التصادم مع الراعي الأميركي، الذي راهن (في بداية عهد اوباما) على دور وظيفي متميز له في الإقليم، واندفع اردوغان في الترويج لهذا الدور الذي بدا حتى العقد الأول من القرن انه على وشك الفوز به ونيل المكافآت عليه. واستمر نهج الغطرسة بمحاولة رعاية صفقة في بداية الازمة السورية تضمن حصة وازنة لحلفائه الإسلاميين في السلطة جوبهت برفض وتحد من القيادة السورية، وانقلب لموقف التركي بعدها الى التآمر المكشوف على سورية. كما تجسد بشكل جلي مع سقوط الاخوان المسلمين في مصر وثبات اردوغان على معاداة السلطات المصرية الجديدة.
يعتقد بعض المراقبين ان الثنائي أردوغان – داوود اوغلو بالغاً في قراءة مدى التعويل الأميركي على تركيا في الاقليم، وان حزب العدالة والتنمية أضحى “مسكون بهاجس تحقيق اهداف ذاتية قصيرة الأجل .. على حساب الاهداف الكبرى، والاصرار على السير في ذاك المسار الذي عادة ما يسبب التعارض مع المصالح الاميركية في المنطقة“.
سياسة الثنائي التركي حيال مصر، على سبيل المثال، تسببت في احداث شرخ يصعب ردمه في القريب العاجل مع حكومتها الانتقالية ادت “الى طرد السفير التركي من القاهرة” على خلفية تدخل اردوغان المستمر لصالح الرئيس المعزول محمد مرسي “لأسباب تركية داخلية بحتة على الأرجح“.
في المقابل، تفاعلت الولايات المتحدة على مضض مع السلطات المصرية الجديدة للحد من حجم خسائرها بخلاف حزب العدالة والتنمية الرافض للتكيف مع المعطيات المتجددة. أيضا، اثارت حكومة اردوغان حنق الإدارة الأميركية، وفق التصريحات الإعلامية، لتوفيرها معلومات أمنية جليلة لإيران أدت إلى كشف الأخيرة عن أوكار وخلايا استخبارية “اسرائيلية” ضالعة في اغتيال كفاءاتها العلمية؛ ومن ناحية اخرى إصرارها على الإستمرار بتوفير ممر آمن للمقاتلين متعددي الجنسيات لاجتياز الحدود مع سورية في تحدٍ صارخ لأجواء الإنفراج النسبي بين روسيا واميركا في هذا الخصوص. كما يرى البعض الآخر ان اردوغان ذهب بعيدا في “التطاول” على السياسة الأميركية إثر توجهه للصين لعقد صفقة اسلحة لمنظومة دفاعات جوية، ودولته عضو في حلف الناتو.
هذه المقدمة كانت ضرورية لالقاء الضوء على حقيقة ما يعتمر داخل السلطة التركية الحاكمة وانكشاف عمق حجم الفساد والمحاباة لاردوغان وصحبه مما أدى إلى استقالة بعض وزرائه واعتقال انجال بعضهم، وانتظار القسم الباقي لتداعيات الكشف عن اختلاس وابتزاز الاموال وفساد النخبة الحاكمة، التي يقال ان خلافا حادا بين غولن واردوغان ادى الى كشف الاول عن ملفات انتهاكات وتجاوزات سكت عنها طويلا لحين تيقنه من سيطرة اتباعه على بعض مفاصل الدولة – منها جهازي الشرطة والقضاء، وتداعياتها على مستقبل السياسة الاقليمية لحزب العدالة والتنمية. وعليه، ينتظر نجلي اردوغان، بلال وبوراك، إلى جانب آخرين نتائج التحقيق في ضلوعهما بملف الفساد.
في سياق صراع غولن – اردوغان عينه، يرجح قيام الأول بالكشف عن شحنة الاسلحة المتطورة المنقولة على شاحنة تابعة لهيئة الاغاثة الانسانية (الموالية لاردوغان) المتجهة للاراضي السورية قبل بضعة ايام، لتزيد معدلات الضغط على اردوغان وصحبه للاستقالة بعد انكشاف ازدواجية مواقفه المغايرة للتوجهات الاقليمية. أيضا، يمكن الاستنتاج بدور خفي تلعبه الولايات المتحدة عبر “غولن” المقيم على أراضيها والذي يزهد بالتصريحات الإعلامية لدرجة الإقلاع التام.
في ازمة ميدان تقسيم، قبل بضعة اشهر، تباينت مواقف غولن واردوغان بصورة لا تقبل الجدل، إذ إنضم الأول لدعم مطالب المحتجين والحثّ على ايجاد حل يرضي الطرفين، بينما سار اردوغان “المشاكس” وراء اهوائه السياسية بتصعيد الازمة واستخدام الحل العسكري لفك الاعتصامات والاحتجاجات مما اوقع عدد من الضحايا بين صفوف المتظاهرين.
في عهد الثنائي اردوغان – داوود اوغلو احتلت تركيا مركز الصدارة الاول في العالم بمعاقبة الصحفيين وسجلت اكبر عدد من المعتقلين بين صفوفهم على الإطلاق. بل أن صدر الثنائي لم يعد يتسع لسماع وجهة نظر متباينة من داخل صفوف حزبه. يذكر أن وزير الشؤون البيئية المستقيل والحليف الاوثق لرئيس الوزراء، اردوغان بيرقدار، تمت محاصرته خلال مقابلة متلفزة مباشرة اثناء انتقاده حليفه السابق، وازيلت العبارات الأصلية الخاصة باردوغان من على موقع شبكة (ان تي في). بل اقدم رجب اردوغان على اتخاذ اجراءات مناهضة لأحد أهم حلفائة وهمزة الوصل بينه وبين الاتحاد الاوروبي، ايغمن باجس، والذي قد يكون ضالعا في ما نسب اليه من تلقيه رشاوى مالية ضخمة، في محاولة لاحتواء الازمة وابعاد شبحها عن نفسه.
اللافت أيضا أن مدير البنك المركزي “حالك بنك” التركي، سليمان أصلان، المقرب من اردوغان وجهت إليه اتهامات بتلقي “رشاوى للتحايل على اجراءات العقوبات الاقتصادية على ايران، وتهريب كميات من الذهب لايران ثمنا لشراء النفط والغاز”، الشرطة التركية اضافت أنها عثرت في منزل أصلان على كميات كبيرة من الأموال تقدر بنحو “4.5 مليون دولار مخبأة في صناديق احذية كرتونية“.
لذا فان الأزمة الراهنة أعمق مما تلوح به اتهامات الفساد، وتصيب شخص رجب طيب اردوغان، الذي لجأ إلى سلاحه المعهود بتحميل المسؤولية للآخرين و”مهددا بطرد السفير الأميركي” من انقرة، مما دفع الناطق الرسمي لوزارة الخارجية الاميركية، ماري هارف، القول يوم الجمعة ان ما يجري داخل “تركيا هو شأن داخلي .. لكننا ندعو الى احترام عمل المؤسسات القضائية والتزام اجراءات الشفافية في التحقيقات،” مما قد يعطي دليلاً آخر على ضيق ذرع الولايات المتحدة من استمرار اردوغان في السلطة، وليس بالضرورة اسقاطه بل ابقائه جريحا في منصبه للفترة المقبلة.
تركيا مقبلة على جولات انتخابات بلدية في شهر آذار/ مارس المقبل، ومنها بلدية اسطنبول المعقل التقليدي لاردوغان التي يتقدم فيها خصمه مصطفى ساريغول مرشح حزب الشعب الجمهوري؛ وأيضا انتخابات رئاسية مباشرة لأول مرة، في شهر آب 2014، والتي راهن عليها اردوغان طويلا وطموحه ليكون الرئيس الأول للجمهورية المنتخب جماهيريا.
هناك شبه اجماع بين المراقبين أن اردوغان اصابه الذعر والهلع من حجم ما كشف من تصرفات فساد داخل حكومته، واضحى ينتهج سياسة انتقائية وانتقامية من خصومه، أصدقاء الأمس: القاء التهم الجاهزة على “قوى خارجية،” في اشارة للولايات المتحدة؛ وأمره باعفاء نحو 500 عنصر من الدرك – جهاز الشرطة، المعنيين بالتحقيقات درءا لنفوذ غريمه غولن على بنية وولاء الجهاز؛ كذلك أصدر أمراً لجهاز الشرطة يدعوه فيها إلى عدم الامتثال لقرارات السلك القضائي .. الخ.
في المحصلة العامة، لن تصب تلك الاجراءات في صالح اردوغان، نظراً لاتساع رقعة المتضررين من سياساته وتبلور معارضة عابرة للولاءات الحزبية. للدلالة، وجّه نصيره ووزيره السابق للشؤون البيئية، اردوغان بيرقدار، عقب اقالته اتهاما محدداً لأردوغان بالضلوع في فساد صفقات العقار الضخمة إبّان عهده كعمدة بلدية اسطنبول، حاثا اياه على الاستقالة الفورية.
قبل بضعة اشهر كان محور الجدل من سيقع عليه ترشيح اردوغان ليخلفه في منصب رئاسة الوزراء، يقينا انه سينجح في الإنتخابات الرئاسية. تدهور الأمور بالسرعة العالية أعاد السؤال إلى منبته: هل سيستطيع اردوغان البقاء في منصبه والاحتفاظ بلحمة حزبه ومنع الإنقسامات الداخلية، سيما وهو الذي يمقت ويشمئز من الاقرار بالخطأ الذاتي؟
التعرف على مصير ومستقبل اردوغان يمر من خلال ما ستفضي اليه التوازنات الداخلية في حزبه، والذي لا يميزه كثيرا عن مؤيدي غولن، الذي قد يرمي في النهاية إلى السيطرة على مفاتيح حزب العدالة والتنمية بدعم ضمني من الرئيس الحالي عبد الله غول. وربما الأهم، كما يقترح البعض، هو انتظار نتائج انتخابات اكبر بلدية في تركيا، بلدية اسطنبول، التي ستشكل مؤشرا قوياً على وجهة السياسة ولاعبيها للمرحلة المقبلة، يسميها البعض مرحلة “ما بعد حزب العدالة والتنمية“.
أحد نواب البرلمان السابقين، ايرتوغرول غوناي، استقال من الحزب برفقة برلمانيين اخرين أوضح ان حزب العدالة والتنمية أضحى يمثل صراعاً بين كتلتين: الزعماء من جانب، والسواد الأعظم من الأعضاء المضطهدين الذين ينظرون بريبة شديدة من مضي الشريحة القيادية في مسلكها المتغطرس، وهي قاربت على نهايتها في هذه المرحلة؛ مسترشدا بجنوح اردوغان إلى الاعتماد على أوفياء مؤيدين له يعينهم في مواقع المسؤولية يأتمرون بإمرته مباشرة.
وللدلالة على غطرسة اردوغان يشار إلى تعيينه مستشاره السياسي الوفي، ايفكان علاء، وزيرا للداخلية دون مؤهلات كافية والذي ينسب له حثّ اردوغان على انتهاج سياسات متشددة واتخاذ اجراءات قاسية ضد المتظاهرين والمحتجين في حديقة جيزي بميدان تقسيم منتصف العام المنصرم.
ولعل من بين اوهام حزب العدالة والتنمية التي تبخرت التباهي بازدهار الأوضاع الاقتصادية التي واجهت انتكاسة بعد أخرى، كان احدث تجلياتها هبوط التداول التجاري في سوق البورصة المالية وتخفيض قيمة الليرة التركية 5% في شهر كانون الأول/ديسمبر المنصرم، غير عابئة بتدخلات المصرف المركزي لتثبيت سعر الصرف دون انجازه ذلك. يشار الى ان تركيا تعتمد بشكل واسع على تدفق الاستثمارات ورؤوس الاموال الاجنبية، التي تتوجس وتضطرب من عدم استقرار المشهد السياسي، والاتهامات بالفساد تلاحق النخبة السياسية الحاكمة. الفوائد على القروض المالية الى تصاعد مما سيؤثر سلبا على مجمل الاداء الاقتصادي، الذي سيترك آثاره ايضا على مستقبل حزب العدالة والتنمية في الانتخابات القادمة.غولن، عبر مؤسساته الاجتماعية والتعليمية المتعددة، لا سيما “التحالف من اجل القيم المشتركة”، يحظى بدعم ثابت في القاعدة الشعبية والانتخابية على السواء؛ اصدر بدوره بيانا ينتقد فيه سياسات رئيس الوزراء اردوغان جاء فيه “عوضا عن تبني نهج مناسب للمعالجة اسوة بما يتعين على الحكومات الديموقراطية اتخاذه، حمّلت الحكومة الحالية االمسؤولية لقوى خارجية او لبعض المجموعات.
المجتمع التركي بمجموعه ينظر إلى تلك الإجراءات بأنها محاولة لصرف الأنظار عن جوهر المسألة .. الإجراءات تلك مناهضة للديموقراطية ترتكبها القيادة السياسية التي تستحق الإدانة“.
اصرار اردوغان على تحميل العناصر الخارجية مسؤولية ما لحق به وبحزبه يقوّض علاقات بلاده مع الولايات المتحدة، وهو الذي اتهمها ضمنيا بالوقوف وراء الاحداث. ويعول على استثمار اتهاماته لتعزيز مستويات التأييد عند مؤيدية من القاعدة الانتخابية الذين ينظرون بعين الشك للسياسات الأميركية.
وبوسع اردوغان ان يخطو نحو الشفافية والمهنية في اجراءات التحقيق، لو أراد، وتحمّل التداعيات السياسية في المدى المنظور، ويهيء نفسه لخوض جولة انتخابات متسلحا بعناصر قوة معنوية. بيد أن غطرسته ورعونته تحول دون تبنيه موقف مسؤول. كما بوسعه ايضا زعزعة المسار السياسي القائم واستخدام اساليب هدامة لضمان الفوز السياسي في أي انتخابات مقبلة بصرف النظر عن تداعيات الفساد والرشاوى.
جذر القضية، كما اسلفنا، يتخطى حدود الإتهامات بالفساد وتهريب الذهب. انه شديد الارتباط بما تبقى من القوة لدى اردوغان والى اي مدى سيكافئه او يعاقبه الناخبون الاتراك.
المصدر: مكتب الميادين في واشنطن بالتعاون مع مركز الدراسات الأميركية والعربية