يامن أحمد حمدي
باحث في التاريخ المعاصر
بعد فترة من الركود السياسي ومن مراوحة الوضع السياسي لمكانه، طوال 5 أشهر تقريبـًا منذ بداية السنة الحالية، تسارعت الأحداث الداخليّة والخارجيّة في الساحة المصريّة طوال قرابة الثلاثين يومًا الأخيرة، وتدحرجت كرة الثلج بشكل خطير خاصّة مع تغيّرات الوضع في الشرق الأوسط، واتخذت أصوات الاحتجاج للجماهير المصريّة الغاضبة نغمة واحدة اسمها “تمرّد”، والتي حظيت بدعم شعبي واسع لحقه شبه تمرّد أمني قبل أن ينتهي بتمرّد عسكري.
محمّد مرسي وصل إلى الحكم بطريقة شرعيّة لا غبار عليها، من ناحية قواعد اللعبة الديمقراطيّة وقواعد صندوق الاقتراع إلا إذا ما استثنينا ما مارسته جماعته من تعبئة دينيّة ودعويّة قام بها دعاة الإخوان الذين استولوا على مئات المساجد وقاموا بمئات الاجتماعات الشعبيّة وفي الساحات العامّة خلال الحملة الانتخابيّة، بطريقة فجـّة تدنـّت في بعض الأحيان إلى مستوى الخرافات و”الخزعبلات” من نوع ظهور النبيّ الكريم في منام أحد الشيوخ الدعاة ليزف له خبر انتصار مرسي في الرئاسيّة، أو تفسير مضامين أحاديث نبويّة شريفة بانتصار الإسلاميّين في مصر،…
هذا التجييش الديني والعاطفي أتى أكله خاصّة مع ضعف موقف أحمد شفيق أحد أبرز منافسي محمّد مرسي وتشتت بقيّة الأصوات بين مختلف القوى السياسيّة الأخرى (حمدين صبّاحي وعمرو موسى ومحمّد أبو الفتوح…)، دون إغفال أنّ القوى الأجنبيّة تدفع في اتجاه أن يصل الإسلاميّون للحكم لذلك لم تساند القوى الغربيّة منافسي مرسي، كما دعّمت قطر حركة الإخوان وحزبهم الحريّة والعدالة بالأموال والدعاة والإعلام…
ضعف أداء مؤسّسة الرئاسة المصريّة
منذ الأيام الأولى من وصول محمد مرسي للحكم في 30 جوان 2012، بدأت سلسلة الأخطاء في كافـّة المستويات، والتي أفقدته الشعبيّة والاحترام من قبل الشعب المصري، رغم الحشد والتنظيم والدعم المالي اللذي تتمتع بهما جماعة الاخوان المسلمين. وكان أوّل هذه الأخطاء و أخطرها إصداره للإعلان الدستوري الذي يمنح له صلاحيّات واسعة، من أجل تطوير أداء مؤسّسة الرئاسة والنهوض بالاقتصاد والمجتمع وتحقيق أهداف الثورة المصريّة، فقد بدا ذلك الإعلان بصيغته تلك تحضيرًا لاستبداد فردي وإخواني في نظر المعارضين بالداخل وحتى الحلفاء والأصدقاء بالخارج.
واجه الرئيس السابق محمّد مرسي صعوبات كبيرة بسبب رداءة ممارسته لصلاحياته كرئيس جمهورية، وعجزه التام عن الفهم الصحيح للحراك الاجتماعي والسياسي، وكذلك بسبب تسرّعه في اتخاذ القرارات وتغيير السياسات بعد كلّ فترة قصيرة، وتذبذب مواقفه في الكثير من المرّات، وهو ما كان يدفعه كلّ أسبوع تقريبًا إلى إلقاء خطاب أو تصريح إعلامي من أجل التبرير أو التوضيح أو التفسير، رغم اعتماده لأسلوب وعظي في تصريحاته وضعف أدائه الخطابي وحضوره المهزوز وفشله في الارتجال، وتركيزه على مظاهر الورع والتقوى والاستشهاد بالقرآن وبالأحاديث النبويّة والقصص القرآني، وكلّ ذلك ليس ممّا يحتاجه الشارع المصري الذي يعاني من آلاف المشاكل اليوميّة.
قرار سياسي مرتهن لقوى الثورة المضادّة والقوى الخارجيّة
ربّما يعود ضعف فاعليّة محمّد مرسي إلى تعرّض أغلب (إن لم يكن كلّ) سياساته وقراراته التي اتخذها لضغوط داخلية معاكسة، من أجهزة الشرطة والقضاء ورجال الأعمال المنتمين للنظام السابق، وكذلك الضغوط الإقليمية من الدول الخليجية التي تخلت عن دعم الاقتصاد المصري بالقدر الكافي لتجاوز محنته التي سببتها الاضطرابات التي صاحبت قيام الثورة. في حين كان الجيش المصري يقف على الحياد ويركـّز جهوده للمحافظة على مؤسّسات الدولة ومقدّراتها وثرواتها (قناة السويس، السدّ العالي،…) وحماية الحدود وخاصّة الحدود الشرقيّة مع الكيان الإسرائيلي ومع غزة، ومحاولة فرض استرجاع سيطرته على صحراء سيناء التي غدت مرتعـًا للمجموعات المسلـّحة ونهبـًا لعصابات التهريب.
اقتصاد من التأزم إلى الانهيار
شهد الوضع الاقتصادي أبرز وأخطر مجالات فشله، فخلال السنة التي حكم فيها محمّد مرسي تراجع احتياطي النقد الأجنبي وانخفضت قيمة الجنيه مقابل الدولار وازدياد هروب أموال الاستثمار وتدهور السياحة وتخفيض التصنيف الائتماني..، وكانت الحكومة الإخوانيّة (في أغلبها) غير قادرة على فهم أبجديّات الاقتصاد فكيف إذا كان الوضع الاقتصادي يعاني من أزمة متفاقمة، كما ركـّز محمّد مرسي لتجاوز الأزمة المصريّة على حلّين اثنين لا غـير: توسّل القروض من صندوق النقد الدولي الذي اكتفى بتقديم 4 مليارات دولار لا تقدّم ولا تؤخـّر، واستجداء الدول “الصديقة والشقيقة” من أجل مساعدته في الإيفاء بوعوده الانتخابيّة، وبخلاف قطر اكتفت الدول الغربيّة بالوعود وحثّ مرسي على النهوض بالحياة السياسيّة وتنبيهه من المسّ بحريّات المعتقد والدين وحريّة المرأة وحقوق الأقليّات… وأهمّ نقطة ركزوا عليها في لقاءاتهم معه: الالتزام بكامب دايفيد وأمن إسرائيل.
وممّا زاد في تخوّف المصريّين من فشل السياسة الاقتصاديّة لمحمّد مرسي اهتمام حكومته المفرط بمشروع الصكوك الإسلامية ومشروع تطوير قناة السويس، والتي فهمت من الجميع على أنـّها عمليّة تفريط في المؤسّسات البنكيّة ومقدّرات المرافق السيادية الحيويّة والثروات الوطنيّة للشعب المصري، مما أثار الشك والريبة في نزاهة الأداء الاقتصادي لحكومة الإخوان، وكانت القاصمة هي معاناة الشعب من أزمات الوقود والغاز المتكررة، وانقطاع التيار الكهربائي وانقطاع المياه وغلاء الأسعار وارتفاع معدلات البطالة بين الشباب،…
أخونة مؤسّسات الدولة
في المجال السياسي ساهم أداء محمّد مرسي في ترسيخ فكرة تأبيد السلطة بيد الإسلاميّين من خلال رفض الاستجابة إلى مطالب المعارضة بإجراء تعديلات لبعض النصوص الدستورية التي تهدّد مدنيّة الدولة، بالإضافة لإقصاء القوى السياسية المدنية والشبابية المخططة والمفجرة لثورة 25 يناير عن المشاركة في مراكز صنع القرار، وإطلاق يد الشرطة والمخابرات لمحاصرة أغلب فعاليّات المجتمع المدني، وإطلاق المجموعات الأمنيّة الإخوانيّة للتنكيل بكلّ المعارضين بالسّحل والضرب والتهديد والمطاردة، وخاصّة خلال المظاهرات ووقفات الاحتجاج، عندما كان الإخوان يقمعون المتظاهرين جنبًا إلى جنب مع قوّات الأمن، وهو ما أثار حفيظة كبار وزارة الداخليّة.
كما سمح محمّد مرسي للعديد من أنصار حزب الحريّة والعدالة الإخواني بالسيطرة على مراكز القيادة في الأجهزة والمؤسسات الحيوية بالدولة، في موجة كبيرة من التعيينات الصادرة من مكتبه، خاصّة خلال شهري فيفري ومارس 2013، وهو ما أسماه البعض بمصطلح “أخونة الدولة”.
أمن داخلي متدهور وأمن قومي مهدّد
علا في الأجواء السياسية صوت التيار السلفي المنتمي للمذهب الوهابي، الذي يهدّد النظام الديمقراطي المدني وفكرة المشاركة الشعبية في الحكم وتداول السلطة، ويرفض نظام الحكم الديمقراطي ويدعو إلى إقامة نظام سياسي ينتمي إلى العصور الأولى من الدعوة الإسلامية.
وتفاقم الوضع الأمني باشتعال الصراعات الطائفية بين المسلمين والمسيحيين الأقباط، واتسع نطاقه ليتحوّل إلى صراع مذهبي، يحدث لأول مرة في تاريخ مصر، بين السنة والشيعة، راح ضحيته أربعة مواطنين في قرية أبو مسلم بمحافظة الجيزة، ثم امتد عدم الاستقرار الأمني جغرافيـّا ليحوّل سيناء إلى بؤرة تجمع الفصائل المسلحة الداخلية والإقليمية، فمارست نشاطها التخريبي ضدّ الدولة بتفجير أنابيب إمداد الغاز إلى الأردن وإسرائيل، وقامت قتلت 16 جندي مصري ثم خطفت بعض الجنود وأرغمت الدولة على الخضوع لتنفيذ مطالبها مقابل الإفراج عنهم.
بالإضافة إلى عجز الديبلوماسيّة الخارجيّة في إيجاد حلّ لأزمة النيل، عصب الحياة في مصر، حيث أخلفت دول حوض النيل في تعهداتها في اقتسام مياه النيل وأبدت رغبتها في التقليل من حصّة مصر من هذه المياه، كما أعلنت أثيوبيا عن نيّتها بناء سدّ “النهضة” الذي سيعطـّل استفادة مصر من هذه الثروة المائية الضخمة، وهو ما يهدّد لا الاقتصاد المصري فقط بل ويهدّد حياة المصريّين أنفسهم ويقضي على آمال الأجيال القادمة في العيش.
خصومات مرسي والإخوان ضدّ الجميع
بجانب السياسات الفاشلة افتقد الرئيس الى مهارة المناورات السياسية ومراعاة الحفاظ على التوازن في علاقات مؤسسة الرئاسة مع السلطات والهيئات ذات النفوذ في النظام المصري، حيث صنع خصومة مبطنة مع قيادات الجيش عندما عزل المشير محمد طنطاوي وسامي عنان ووقع في خصومة مع القضاء عندما عزل المستشار عبد المجيد محمود وعين نائبا عاما محسوبا على التيّار الإخواني، وعندما شجّع مجلس الشورى على إعداد مشروع قانون لتنظيم السلطة القضائية يقلل من المميزات الخاصة التي يتمتع بها القضاء. كما وقع نظامه في خصومة ثالثة مع وسائل الإعلام والصحافة وخصومة رابعة مع مؤسسة الأزهر وخصومة خامسة مع مؤسّسة المجمّع القبطي…
التمرّد الشعـبي
تهيأت الساحة الشعبيّة المصريّة وساعدت على انتشار حركة التوقيع على استمارة تحمل شعار “تمرد”، التي ابتدأت بشكل عفوي وغير منظم، ونظر إليه الكثيرون على أساس أنـّه “عمل صبياني فاشل”، لان الذين أطلقوا حملة “تمرد” هم مجموعة من الشباب من خارج النظام السياسي لا ينتمون إلى الأحزاب السياسية، والمعارضة لا تستطيع التصدي لقيادة البلاد، فاغلب شخصياتها نشأوا في زمن الفراغ السياسي ولم تصقلهم تجارب العمل الحزبي وتقتصر قواعدهم الشعبية على قطاع الشباب عبر مواقع التواصل الاجتماعي. ولكن تصرفات الرئيس ونظامه هي التي حولت المشاعر الغاضبة إلى زحف شعبي بلغ حدا من الكثافة لم يشهده تاريخ الثورات المصرية في تاريخ مصر المعاصر، فقد تجاهل الرئيس الاستجابة الى مطالب الجماهير في آخر خطاب له، وشكك أتباعه في الالتفاف الشعبي حول حركة “تمرّد” الساعية لإسقاط الرئيس.
وجاء يوم 30 جوان 2013 (الذي يوافق مرور سنة بالضبط على تولـّي محمّد مرسي لمنصب الرئاسة) ليشهد وقوف الرئيس معزولا ووحيدا لا يؤيده سوى جماعته في مواجهة زحف جماهيري بأعداد هائلة في كل مدن مصر، تضاءلت بجانبه أعداد الحشد “المصطنع” المؤيد له، وعندما أبدى الرئيس عناده وتمسكه بالبقاء في السلطة أصبحت البلاد مقبلة على كارثة وفق أي احتمال تتمخض عنه حالة الاحتقان التي تشهدها البلاد في 30 جوان.
ازدادت قوّة التمرّد الشعبي وأخذت منعرجًا خطيرًا عندما توضـّح تمرد آخر قام به الجيش المصري وعبر عنه بتوجيه لإنذار نهائي إلى القيادة السياسية مدته 48 ساعة لتنفيذ مطالب الجماهير، وإلا سيتخذ الجيش موقفا يفرض فيه خارطة طريق للخروج من المأزق السياسي المصري. وإذا كانت الأحداث المتراكمة طوال سنة من حكم الرئيس مرسي قد تسببت في ظهور حركة “تمرد” الشعبية فان ما يمكن أن نسمّيه حركة تمرد الجيش، هي التي ستترتب عليها الأحداث التي ستهب على الساحة المصرية، غير أنّ طريقة عمل الجيش المصري لا يمكن إلا أن تدعونا إلى تسميته باسمه: انقلاب عسكري.
شبه الانقلاب العسكري
لم ينتظر الجيش المصري طويلا، وبدا وكأنـّه يستعدّ للقيام بحركته، حيث اكتفى بحماية المنشآت العامّة وتأمين وصول المتظاهرين إلى الساحات العامّة وحماية هذه الحشود من التعديّات الإخوانيّة، والتنسيق مع المدنيّين المنتمين للجهات المكلـّفة بتأمين التظاهرات، وقام باستعراض شبه عسكري بحمل الأعلام المصريّة على طائرات الهيلوكبتر فوق الحشود الملتهبة حماسًا، ولم تكد تمرّ 24 ساعة حتـى أصدره بيانه التحذيري لمحمّد مرسي. وقبل انتهاء المهلة بدأ في اعتقال العديد من قيادات حركة الإخوان ومنع آخرين من السفر، قبل أن يتمّ وضع محمّد مرسي نفسه ومجموعة من مساعديه تحت الإقامة الجبريّة وتكليف رئيس المحكمة الدستوريّة بقيادة المرحلة الانتقاليّة وهو ما أثار تخوّفات القوى السياسيّة الداخليّة، في حين التزمت الدول الأجنبيّة بالصمت وانتظار تطوّرات الوضع المصري.
ولكن يبقى ما يخيف في كلّ هذه التطوّرات هو الغد، فلا الجيش قادر على تولـّي أمور البلاد وهو الذي أثبت فشله خلال فترة ما بعد الثورة عندما أظهر تخبـّطه السياسي وعجزه عن فهم تطلعات الشعب المصري وحاول فرض مرشـّح من النظام السابق وهو أحمد شفيق، وهو ما عبّر عنه آنذاك بتعبير: “سقط مبارك وبقي النظام”، ولا القوى السياسيّة لديها الزخم الداخلي والرؤية الواسعة للسير بمصر نحو أمانها وأمنها، وبين هذا وذاك يبقى الشعب حائرًا في نفس الموقف الذي وجد نفسه فيه عند تنحي حسني مبارك، فهو شعب يتقن القيام بالثورات ولكنـّه يفشل في الحفاظ عليها، هذا دون إغفال ردّة فعل الإخوان على ما لحقهم من إهانة وإنقلاب على شرعيّة رئيسهم وشرع جماعتهم، ردّ لن يتأخر ولن يكون إلا دمويّا.