نزار بولحية
إعلان خالف التوقعات وكاد يقلب مسار الأحداث في تونس، عن تشكيل حكومي أول عرضه في الثالث والعشرين من يناير الماضي رئيس الحكومة المكلف الحبيب الصيد على الرئيس ووسائل الاعلام، قبل أن يسارع بعد وقت وجيز إلى سحبه وتقديم تشكيل آخر أقل إثارة منه للاعتراض والجدل.
لكن ذلك لم يكن سوى الجزء الظاهر من الصورة، فخلف الأبواب المغلقة لمجلس شورى حركة النهضة، الحزب الأوسع انتشارا وتمددا داخل البلد، الذي دُعي للانعقاد العاجل، قصد صياغة موقف من الإعلان المذكور، كانت تدور فصول قصة أخرى لا تقل ثقلا واهمية عن الاولى، بل تكاد تكون الجزء الخلفي المكمل والمعبر عن طبيعتها، وهي قصة الدفع السلمي نحو تغير المواقع والمواقف بين الدولة والاسلاميين، بعد انقضاء سنوات مريرة من الاقصاء والرفض المتبادل لبعضهما بعضا.
ومثلما كان منتظرا لم يخرج الاجتماع الطارئ لحركة النهضة عما عرفته جلسات الشورى من جدل صاخب وحاد حول الخيار الاستراتيجي، بالتقارب مع اعداء الامس، لكن الامور في تلك المرة جاوزت الحد. فقد تعاقب المتدخلون وتتالت في كلماتهم بشكل صريح أو موارب عبارات اللوم والتقريع، وحتى الغضب والاحتجاج على خط المهادنة والتقارب مع نظام غير قشرته ليضمن استمراره، ثم بمجرد أن اطمئن على مصيره انقلب على وعوده وطعن، من مهدوا له سبل البقاء، في الظهر بإقصائهم من تركيبة حكومة كانت جل الاسماء المقترحة فيها من الذين يوصفون بالاستئصاليين المتطرفين، أي الرافضين على وجه الاطلاق لفكرة الشراكة والتعاون مع الاسلاميين.
ولم يجد رئيس الحزب وزعيمه التاريخي الشيخ راشد الغنوشي بدا من أن يأخذ الكلمة اكثر من مرة ليلطف من حدة المداخلات ويهدئ اجواء بدت حامية وملتهبة في عز الشتاء. لكن ذلك لم يجد نفعا على ما يبدو، فقد فاضت الكأس ولم يعد بوسع الاغلبية أن تطمئن أو ترتاح لمصير باتت تراه قاتما، بعد أن لاح امامها شبح التسعينيات المظلم وذكريات انقضاض بن علي على وثيقة الميثاق الوطني، التي امضاها في اولى سنوات حكمه مع عدد من الاحزاب والتيارات، بمن فيهم الإسلاميون، قبل أن يزج بهم بعد ذلك وبالآلاف في السجون والمنافي. ما الذي بقي إذن للشيخ الذي دفع بقوة نحو خيار التعايش مع النظام القديم أن يقوله للحاضرين؟ والحال أنه تلقى بدوره طعنة غادرة ومجهولة ممن كان يحسبهم اصدقاء وشركاء مقربين.
الذين عرفوا الغنوشي عن قرب يقرون بقدرته العجيبة على امتصاص الصدمات وعلى الظهور بقوة وصلابة في مواجهة الهزات العنيفة التي تعرض لها حزبه على مدى اكثر من اربعين عاما. لكن للصبر حدودا ولم يعد بوسع الربان أن يستمر طويلا في معاكسة تيار شديد الاندفاع والقوة، ولاجل ذلك فقد اختار أن يتدخل ثانية لأجل أن يطلق اعلانا قد لا يقل وقعا وخطورة عن اعلان الحبيب الصيد، الذي جاء المجتمعون للتداول بشأنه على وجه السرعة. لقد قال لاعضاء مجلس الشورى، إنه على استعداد تام لترك موقعه في رئاسة الحركة إن كانوا يرون في ذلك حلا للمأزق. أما ما حصل بعد ذلك فهو اشبه بالذهول الجماعي الذي ساد وسط صمت جليدي مطبق. هل كان ذلك تهديدا مجردا، أم محاولة ذكية ومحسوبة لإحداث رجة نفسية تعيد المجتمعين إلى صوابهم، وتسحب البساط من تحت اقدام جهة أو طرف كان يريد من خلال التلويح بالاقصاء جر الإسلاميين إلى مربع العنف، ليتخذ من ذلك مبررا شرعيا لشن حرب دموية مفتوحة ضدهم، في استنساخ سيئ وردئ للتجربة المصرية؟ أم كان الامر إشارة خفية إلى بداية تحول تدريجي في شخصية الغنوشي الذي بدأ يتخفف من عباءة الاستاذ المربي والموجه ويستبدلها بثوب القائد الوطني ورجل الدولة، الذي تهمه مصلحة تونس قبل مصلحة حزبه؟ ليس معروفا ما الذي قصده زعيم النهضة بالضبط، أوما الذي دار بخلده ساعتها، ولكن الامر المؤكد هو أن الحاضرين يعرفون خصال الرجل جيدا ويدركون انه ليس من الذين يقفزون قبل باقي الركاب من فوق السفن، متى ادركوا أو أحسوا بأنها توشك على الجنوح بهم. التجارب المريرة والطويلة كانت الدليل الواضح على ذلك، وهي لم تكن مقصورة فقط على محنة التسعينيات وما استتبعها من محاصرة وحرب استنزاف رهيبة مع النظام، بل أيضا حتى في مرحلة الحكم التي تلت هروب بن علي، وكانت مشحونة للآخر بالهزات والعواصف.
فبعد اغتيالين سياسيين غامضين حصلا خلال تلك المرحلة القصيرة وصارا بمثابة الهدية التي نزلت من السماء على الرافضين والمتربصين بتجربة الحكم الائتلافي بين الاسلاميين والعلمانيين المعتدلين، وجد الغنوشي نفسه في مرمى سهام طائشة طالته من كل حدب وصوب، ولاحت أمامه فرص التحرك ضيقة ومحدودة ولم يكن أمامه من حل سوى أن يطلق دعوته الشهيرة إلى اعضاء مجلس الشورى بالخروج من الحكم، قبل أن ينهار السقف فوق رؤوس الجميع. لقد كان أمام فرضيتين، إما التمسك بالشرعية للآخر وتحمل تكلفة عالية لذلك على الحزب والبلد، أو البحث عن طريق ثالث بين تلك الشرعية ودعاوى الانقلاب التي كانت تجاهر بها قوى اليمين واليسار على حد سواء.
لقد احتشد مئات الالاف من الانصار في ساحة القصبة في استعراض منظم للقوة، وفي إشارة إلى أن جزءا من الشارع لا يزال جاهزا وقادرا متى خرج النزال من طابعه المدني والسلمي على تعديل الكفة وردع كل محاولة لاستخدام الورقة الشعبية، من أجل تحقيق مكاسب أو الفوز بتنازلات سياسية. واصطف على الجانب الاخر فريق للتفاوض والمناورة ضمن ما وصف بالحوار الوطني، وكانت النتيجة بالنهاية، ومثلما لخصها الشيخ بعد استكمال اولى حلقات المسار الانتقالي في تونس، هي خروج النهضة من الحكومة وبقاءها في الحكم. بحسابات الربح والخسارة يمكن توصيف المشهد بعد مضي ستة شهور على الاعلانين، اعلان الصيد الحكومي الواسع الانتشار، وإعلان الغنوشي الضيق والمغلق داخل شورى النهضة، بأن هناك حالة من التكافؤ في موازين القوى دفعت قسما واسعا من الصحافة المحلية، لان يكرر بشكل مستمر تساؤلا بات تقليديا عن هوية الطرف، الذي يحكم تونس الان وما إذا كان الإسلاميون ركنا ثابتا من اعمدة السلطة، أم فرعا اصيلا ومتجذرا داخل المعارضة؟ ما يجعل ذلك التساؤل قائما وشبه ابدي هو شخصية الغنوشي التي لا يراها الاعلام المحلي الا من زاوية بروباغندا كلاسيكية تهتم فقط بمظهر الرجل وطريقة لباسه، ثم في اقصى الحالات اسلوب وطبيعة تحركه داخل الساحات والاماكن العامة. ولاجل ذلك فقد شدت الاهتمام صورة الشيخ وهو يحضر الاحتفال الرسمي بليلة القدر ببدلة عصرية، مقابل حضور باقي الشخصيات الحكومية باللباس التقليدي التونسي، ثم اكتسحت صوره، وهو يشارك بعض انصاره مباراة كرة القدم في شهر رمضان مواقع التواصل الاجتماعي، وكان الحدث الابرز في مباراة كرة ايضا جمعت الفريقين الأولمبيين لتونس والمغرب، هو حضور الغنوشي وجلوسه في المقصورة الشرفية جنبا إلى جنب مع وزير الرياضة.
لقد بدا الامر اشبه بثورة ابستيمولوجية وفقا للمعايير الاجتماعية التونسية التي لا تقبل بوجه عام أي امتزاج او اختلاط بين الدين ومناشط الدنيا، وتضع قوالب جامدة ومقفلة للمتدينين حتى إن كانوا من رجال السياسة الذين يمارسون الشأن العام. ويبدو أن الغنوشي ادرك ذلك جيدا وربما أكثر من غيره، فبادر لكسر تلك الحواجز الاصطناعية التي طوقه بها الاعلام، والتي قدمته على أنه اشبه بشيخ طريقة أو مرشد جماعة، وفهم ايضا أن معظم التونسيين لا يلتفتون إلى الافكار، بل يهتمون بردود الافعال والمواقف والأهم من ذلك شكل وطريقة ايصالها.
أليس من المفارقة هنا أن نقطة ضعف التشكيل الحكومي الأول والحالي لرئيس الحكومة الحبيب الصيد هو في الوقت نفسه نقطة قوة حركة النهضة ورئيسها؟ لقد دفع الغنوشي بقيادات شابة تملك السيطرة على تقنيات العصر وأساليب التواصل إلى الواجهة الامامية، بينما ظل الخطاب الحكومي على ركوده المزمن ونظرته السطحية المنحازة، وفيما يواصل هو من خلال تنقلاته المستمرة وشبكته الواسعة والممتدة من العلاقات المهمة في جل العواصم العالمية ودفاعه المستميت عن منطق التوافق لاجل المصلحة الوطنية، رحلة الخروج النهائي من ثوب زعيم الجماعة والحزب، والانتقال المنظم والسريع إلى دور الزعيم الوطني ورجل الدولة، تستمر تونس الرسمية والشعبية على حالها مكبلة بالأوهام والشكوك والمخاوف، وعاجزة عن التقدم إلى الامام.
لقد تغير الغنوشي لكن الطريق ما يزال طويلا أمام بلاده حتى تتغير بدورها وتسقط من حساباتها منطق الرفض والاقصاء، تماما مثلما سقط الاعلان الحكومي المفاجئ والمتسرع مطلع هذا العام في الماء، ليصير مجرد ذكرى سيئة لا أحد يتمنى استحضارها أو حتى مجرد الحديث العابر عنها.
القدس العربي