سمير الفزاع
ضمن سياق أيلول الأسود وبتاريخ 16 ايلول 1970 تمكن ” الفدائيون ” من السيطرة على كبرى المدن الأردنية في شمال المملكة مدينة اربد وأعلنوها مدينة ” محررة ” على النمط الداعشي ، واعلن الراحل ياسر عرفات في بيان له ان المنطقة الشمالية من الاردن ابتداء من مخيم البقعة الى الحدود السورية اصبحت مناطق ” محررة ” تخضع لسيطرة ” الثوار ” ، وعين الراحل ياسر عرفات حكاماً إداريين لمحافظة اربد وفي لواء عجلون ولواء جرش .
وبينما كانت الحالة متأزمة ، والجيش الأردني يتقدم ببطء في وسط العاصمة عمان التي إستولت على معضمها التنظيمات ” الفدائية ” ، وإعلان الراحل ياسر عرفات أن شمال الاردن اصبح تحت سيطرت ” الثورة ” ؛ أرسلت سوريا قوات جيش التحرير المتواجدة فيها الى شمال الاردن مدعومة بقوة عسكرية سورية مدرعة كبيرة ليلة 18 ايلول 1970 ، فاستولت القوات السورية على بلدتي الطرة والشجرة في اقصى شمالي الاردن . ويقال بأن الرئيس السوري – آنذاك – نور الدين الأتاسي قاد الهجوم بنفسه من مقر قيادة متقدم في درعا في محاولة لتعزيز قوات الفدائيين في شمالي الاردن . وتقدمت القوات السورية باتجاه طريق عمان اربد ومثلث النعيمة وتوغلت 15 كيلو متر غرباً الى ان وصلت الى اربد ، وفي 19 ايلول تمكن ” الفدائيون ” والقوات السورية من السيطرة على منطقة اربد والطريق الرئيسي بين اربد والعاصمة عمان . وقد قام الراحل الملك حسين بعد ” التدخل السوري ” باستدعاء سفراء الدول الكبرى ، وارسل البرقيات للزعماء العرب وناشدهم التدخل لئلا تستغل ” اسرائيل ” الفرصة وتحتل شمال البلاد ، وقد تهيأ سلاح الجو في الكيان الصهيوني لتوجيه ضربة قاصمة للقوات السورية المتقدمة في شمال الأردن ، وكذلك فعلت الطائرات البريطانية المرابطة في بعض القواعد الجوية المنتشرة في المملكة ، وأستنفرت قوات الأسطول الخامس المرابطة في المتوسط . قامت بريطانيا والولايات المتحدة بالاتصال بالاتحاد السوفياتي للضغط على سوريا لسحب قواتها ، وإبلاغه بأن أمريكا وبريطانيا لن تقف مكتوفة الأيدي ، ووضعت الولايات المتحدة لواء من قواتها في المانيا في حالة تأهب ، وعززت اسطولها في البحر المتوسط ، واتصل وزير الخارجية الاميركي روجرز بالحكومة السورية محذراً من إتساع الحرب في حال عدم الانسحاب ، وعزز الاتحاد السوفياتي اسطوله في البحر المتوسط .
كان الحبل يلتف ببطء حول عنق الجيش العربي السوري ” بمصيدة ” إستدرجت لها سوريا وجيشها ، وبدا بأن التاريخ العربي المعاصر سيسجل أول حالة من إحتلال بلد عربي لآخر بقوة السلاح ، وحلول غير مفهوم لحركة ” مقاومة ” مكان نظام قائم في بلد ذي سيادة . كان مستشار الأمن القومي الأمريكي ” هنري كيسنجر ” يعد الزمن بالدقائق ليقضي على الجيش العربي السوري نهائياً ، كما أنّه كان على علم مسبق بأن أيام الراحل جمال عبد الناصر باتت معدودة جداً جداً ؛ فخادمه أنور السادات بات مستعداً لوضع حدّ لحياة هذا الرجل . ولكن كان هناك وزيراً للدفاع وقائداً لسلاح الجو في الجيش العربي السوري يراقب بقلق هذا المشهد ، ويتهيأ لتغيير مجرى الأمور كليّاً فأتخذ جملة من الإجراءات أفضت وغيرها من عوامل إلى سحب القوات السورية من هناك ؛ خصوصاً وأنّه منذ يوم 21 أيلول بدأت تتعرض القوات السورية في شمال الأردن لغارات من طائرات ” الهوكرهنتر ” حتى تاريخ إنسحابها في 23 أيلول .
سنوات طوال والأسد يراقب المشهد ؛ فتعددت الأسباب التي تدفع بهذا الرجل لإتخاذ قراراً نهائياً بوقف القرارت المغامراة ، والسياسات الحالمة الرغائبية والعميلة أحيانا ، والإنقلابات العسكرية التي لا تنتهي … التي آذت سوريا على عدة صعد ومستويات منها : إهانة الجيش العربي السوري ، وشوهت بعقيدته القتاليّة ، وزادت من عزلة سوريا ، وعرضت إستقلالها لخطر داهم ، وحرفت جهودها عن حربها الحقيقية وبوصلتها الأقدس ؛ فلسطين والجولان . جاءت الحركة التصحيحية المجيدة بقيادة الراحل الخالد حافظ الأسد في 16 تشرين الثاني عام 1970 كرد تاريخي على هذه الحاجات والمشكلات ؛ فتمكن هذا الرجل من إسقاط عدة مشاريع دفعة واحدة ؛ خصوصاً وأن السادات إستلم الحكم في مصر ، وكانت أولى أولوياته اللحاق بالتسوية السياسية للصراع في المشرق العربي وفق صيغة يعمل عليها الأمريكان والروس . وقد ناور الأسد عندما قبل مبدأ التسوية ، ولكن عينه كانت على تحرير الأرض العربية في الجولان وفلسطين ، فتلك هي القضية الحقيقية ، وتلك هي البوصلة الحقّة التي يسقط أمامها المدعون والمخادعون والسماسرة .
لم يمض أكثر من عشرين عاماً لتتكرر ذات المأساة في عراقنا الحبيب ؛ عندما غزا الراحل صدام حسين الكويت ، وأستباح سيادتها وشرد شعبها . لقد قدّم فرصة من ذهب لأنظمة الرجعية العربية والإمبرياليّة الغربية – التي طالما دعمته في حربه ضد ايران لأكثر من ثمان سنوات عندما قرر إلغاء إتفاقيّة ترسم الحدود بين الدولتين وقعها الراحل صدام بيده في الجزائر العام 1975 – ليتسنى لها ” سحق ” عظام العراقيين بين سندان ذات البترودولار الخليجي ، وذات الغرب الإمبريالي . إن إقدام الراحل صدام حسن على ” تحطيم ” حدود وطنية لقطر عربي أولاً ، وعلى الضد من رغبات شعبه ثانياً ، وإنتهاكه لواحدة من نقاط بؤر النفوذ والطاقة الهامة للغربيين في ظرف تاريخي كوني يمتاز بالقطبية الواحدة – أمريكا – ، وإنخداعه بمشورة السفيرة الأمريكية في بغداد – أي أن الإحتلال كان بمعرفة ورغبة أمريكا – هو إنتحار حقيقي ، ومغامرة تذكرنا نتائجها الكارثية بما كان سيحصل للجيش العربي السوري قبل عشرين عاماً لو لم تكن حركة 16 تشرين الثاني التصحيحيّة . هناك فرق هائل بين من يحاول لَيّ عنق الجغرافيا وتطويعها قسراً – هذا إن أمكن – ليصحح مجرى التاريخ ، ومن يعمل على صنع التاريخ ” لتستقيم ” به الجغرافيا . وهذا ما فعله الراحل حافظ الأسد بعد أقل من ثلاث سنوات من الحركة التصحيحيّة عندما ذهب لحرب تشرين التاريخيّة لتستقيم الجغرافيا – وكان ذلك في قبضة اليد لولا خيانة من قتل عبد الناصر – بتحرير الأرض ، وتطهير الجغرافيا من دنس الإحتلال الصهيوني في إطار من الحق القانوني ، والشرعية الدولية والإنسانية والقومية والوطنية والأخلاقية ، ولأجل هذا أيضاً وقف الراحل حافظ الأسد ضد غزو بلد عربي شقيق بعد عقدين من الزمن في مغامرة الراحل صدام حسين الثانية .
بانوراما الشرق الأوسط
ملاحظة: كل ما ينشر في ركن “أقلام حرة” يلزم صاحب المقال ولا يلزم الموقع