في خضم الصراع السياسي والدبلوماسي المحتدم ما بين قوى الغرب بقيادة الولايات المتحدة، والدول الطامحة بإعادة هندسة النظام العالمي ومؤسساته بما يتواءم مع مستجدات القدرات والإمكانات الاقتصادية والعسكرية والسياسية وسواها من حوامل القوة بزعامة الاتحاد الروسي، وعلى خلفية الفوضى الدموية التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، وفي القلب منها سورية التي باتت تشكل مركز الاستقطاب لإدارة المعارك الإقليمية والدولية بعد تصدير عشرات آلاف الإرهابيين المتطرفين إليها، قرر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين التمهيد لوضع قضية النووي الإسرائيلي على الطاولة في المستقبل المنظور، ولاسيما في ظل إصرار الغرب وما يسمى «المجتمع الدولي» على إغفال هذا الملف، ورفض مجرد انتقاده أو الإشارة إليه، بدليل عدم موافقة اجتماع الوكالة الدولية للطاقة الذرية الأخير الذي حمل الرقم 159 على مشروع القرار العربي الذي يعرب عن «القلق» حيال القدرات النووية الإسرائيلية، ويدعو إسرائيل إلى «الانضمام إلى اتفاقية حظر انتشار الأسلحة النووية، ووضع جميع قدراتها النووية تحت مراقبة تامة للوكالة الدولية للطاقة الذرية»، وذلك على الرغم من خطر هذه القدرات المتعاظم على المنطقة والعالم، وإعاقتها المتواصلة إجراء مفاوضات جدية وشاملة حول أسلحة الدمار الشامل في الشرق الأوسط.
اللدغة الروسية التي جاءت على شكل تذكير من قبل الرئيس بوتين، خلال منتدى «فالداي» الذي يجمع قادة سابقين وصحفيين وخبراء أجانب وروسيين، بكيفية ظهور السلاح الكيماوي السوري «بديلاً لسلاح «إسرائيل» النووي»، وتأكيد انتفاء حاجة الأخيرة إلى هذا السلاح الذي ينبغي أن ينزع من كامل الشرق الأوسط، دقت نواقيس الخطر وأشعلت مصابيح حمراء، ليس فقط في الكيان الإسرائيلي الذي يعتبر أي حديث عن هذه الأسلحة كناية عن «تشويه» متعمد ومسيَس لسمعته، وإنما كذلك في العالم الغربي الذي بنى مقاربته حيال أسلحة الدمار الشامل، وبخلاف رؤية موسكو التي تحصر حق امتلاك النووي بالدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن، على التمييز الإرادي بين ما يعتبره «دول ديمقراطية» وأخرى «غير ديمقراطية». ولعل الأكثر لفتا للنظر في ردود الفعل الصهيونية الموتورة والغاضبة من أقوال القيصر الجديد الذي يدق أبواب الشرق الأوسط بقوة، هو اعتبار سفير الكيان في موسكو بأن روسيا تحاول جر النووي «الإسرائيلي» الذي تتعامل معه كورقة جديدة في «لعبة البوكر» التي تديرها» إلى طاولة المفاوضات الشرق أوسطية الشريكة بها، وكرافعة ضغط على الأميركيين، وإعادة اجتذاب إيران التي بات هاجس تقاربها المحتمل مع الولايات المتحدة يؤرق الصهاينة ورئيس وزرائهم الذي حدد أربعة شروط استباقية يجب توفرها في التعامل مع ملفها النووي: الوقف الكلي لأعمال تخصيب اليورانيوم؛ إخراج كل اليورانيوم المخصب من إيران؛ إغلاق منشآت التخصيب، وأخيراً وقف مسار عمليات التخصيب عبر البلوتونيوم.
ووفق ما يدب على الأرض، فإن ثمة مؤشرات متواترة تساهم في رفع منسوب الخشية والتوتر «الإسرائيليين»، لعل الأبرز فيها هو أن تلميحات الرئيس بوتين حول النووي الإسرائيلي أعقبت تصريحات الرئيس السوري بشار الأسد عن تكلفة مهمة نزع السلاح الكيماوي السوري والفترة التي تحتاج إليها للتنفيذ، كما أنها ترافقت مع دعوة صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية إدارة أوباما إلى التحلي بالصدق فيما يتعلق بالأسلحة النووية «الإسرائيلية»، والتحذير من أن عدم توقيع تل أبيب على معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، على الرغم من تطويرها لترسانتها النووية، «سوف تصبح قريبا الحقيقة المركزية في هذه الدراما، سواء أرادت واشنطن ذلك أم لا»، وأتبعت بتشكيك بوتين بإمكانية نجاح المبادرة الروسية الخاصة بالكيماوي السوري بشكل مرض، وإعلان وزير دفاعه سيرغي شويغو بأن بلاده ليست لديها خطط في الوقت الحالي لتدمير أسلحة كيماوية سورية على أراضيها، ليلي ذلك مبادرة مجموعة من المراقبين والخبراء العسكريين الروس إلى الإعلان بأن الآليات التنفيذية للتسوية الروسية ستستغرق وقتاً طويلاً، وكلفتها ستكون باهظة، ولن تقل عن ملياري دولار، على أقل تقدير، وهو أمر مربك بالتأكيد للدول الغربية التي تواجه أزمة مالية واقتصادية.
كل هذه المؤشرات التي تطفو على سطح الحلبة الإقليمية والدولية تحت عباءة الإقدام الروسي الذي بدا جليا في تحذير بوتين لواشنطن من أن أي ضربة عسكرية لدمشق «ستكون ضربة موجهة للنظام العالمي وليس لسورية»، وإعلان رئيس وزرائه ديميتري مدفيديف أن بلاده تعتبر أي تدخل خارجي في سورية من دون موافقة مجلس الأمن الدولي «غير مقبول وإجراميا، وترجمة ذلك عبر مضاعفة أعداد السفن الحربية الروسية في البحر المتوسط قبالة السواحل السورية، في مقابل التردد والارتباك والتناقض في رد الفعل الأميركي الذي يحاول الاختباء خلف رفض أكثرية الأميركيين للحرب. كل ذلك وضع قادة إسرائيل في زوايا التشكيك وعدم الثقة برغبة، وقدرة، إدارة الرئيس أوباما على الوفاء بالتزاماتها حيال كيانهم ومستقبله وقدراته النووية التي يرجح أن تدرج على جدول أعمال «المجتمع الدولي» في المستقبل المنظور.
انطلاقاً من ذلك، وبصرف النظر عن محاولة الإدارة الأميركية تهدئة مخاوف تل أبيب في أعقاب التقارب بين واشنطن وطهران والتصريحات التي أطلقت من طهران مؤخراً بشأن البرنامج النووي الإيراني، والتي اعتبرها نائب مستشار الأمن القومي في البيت الأبيض، بن رودس، غير كافية لتهدئة الأطراف (أي «إسرائيل»)، فإن الأكثر ترجيحاً هو أن تجند حكومة نتنياهو، التي ما زالت تؤمن بأن الحرب على إيران تبدأ من سورية، كل طاقاتها السياسية والدبلوماسية، ولاسيما في أوساط الكونغرس الذي تتمتع بتأييد أغلبية أعضائه، لعرقلة الاتفاق الأميركي- الروسي، وتاليا إبعاد شبح جرّ ملفها النووي إلى مربع المساءلة والمحاسبة، وتسويق اتهامها للرئيس الإيراني الجديد بالخداع، وتعرية «القناع المعتدل» الذي يضعه، وفق مزاعم نتنياهو.
مأمون الحسيني
الوطن