على مدار 7 عقود ونيف تتباهى الوكالة اليهودية بدورها في استقدام اليهود من حول العالم إلى فلسطين التاريخية، إلا أن الصراع على الحكم في إسرائيل والاحتجاجات المتواصلة ضد خطة الحكومة لإصلاح الجهاز القضائي، أدّيا إلى قلق الوكالة حيال رواج ظاهرة الهجرة العكسية لليهود خاصة العلمانيين منهم.
وتشهد إسرائيل في السنوات الأخيرة توجها متزايدا للإسرائيليين للانتقال إلى تجربة الحياة في الخارج، وهو التوجه الذي تحول مع تولي حكومة بنيامين نتنياهو -التي تعتمد على الأحزاب الحريدية والتيار الديني واليمين المتطرف- إلى ما بات يعرف بـ”الهجرة اليهودية العكسية”.
وتجلت هذه المخاوف عقب بيانات “دائرة الإحصاءات المركزية الإسرائيلية” -بشأن عزوف اليهود من أوروبا وخاصة أبناء الجالية في فرنسا- عن القدوم إلى البلاد.
ووفقا لنتائج استطلاع للرأي أجرته الإذاعة الإسرائيلية الرسمية “كان”، فإن أكثر من 25% من اليهود البالغين (فوق 18 عاما)، يفكرون بالهجرة من إسرائيل تفكيرا جدّيا، في حين شرع 6% بإجراءات عملية للهجرة، وذلك بسبب تغلغل نفوذ الأحزاب الحريدية والتيار اليميني الديني لمفاصل الحكم، والإصلاحات بالجهاز القضائي التي يراها بعضٌ ممّن شملهم الاستطلاع “انقلابا على الديمقراطية ونظام الحكم”.
تحولات وتداعيات
وأتى هذا الاستطلاع الذي شمل ألفين من اليهود، على خلفية الاحتجاجات التي تشهدها إسرائيل ضد خطة حكومة نتنياهو لإصلاح الجهاز القضائي، وهو يعكس المزاج العام في المجتمع اليهودي في ظل اتساع الشرخ المجتمعي، ومعالم الإكراه الديني الذي تدفع به الأحزاب الحريدية.
ويقدر الاستطلاع الذي أشرف عليه وأعده البروفيسور كميل فوكس، المختص في استطلاعات الرأي، بأن مئات آلاف اليهود يتجهون في المستقبل لهجرة إسرائيل، في حين يلاحظ أن الكثير من العائلات اليهودية تسدي النصائح لأولادها بالهجرة، واستصدار جوزات أجنبية أو حتى القيام بخطوات فعلية من أجل الهجرة.
ويعزو فوكس ذلك إلى خوف شرائح واسعة في المجتمع اليهودي -وخاصة العلمانيين- من تداعيات إصلاح جهاز القضاء وتأثيره على الديمقراطية في إسرائيل، والتحولات الديموغرافية والأيديولوجية في المجتمع اليهودي الذي يتجه نحو اليمين والتدين المتطرف.
استقدام وهجرة
وفي حلول نهاية عام 2022، بلغ عدد سكان إسرائيل 9.6 ملايين و656 ألف نسمة، وعدد اليهود 7.6 ملايين، بينهم 513 ألف نسمة ممن هاجروا لإسرائيل، وخاصة من دول الاتحاد السوفياتي السابق بموجب “قانون العودة” وهم ليسوا يهودا، بينما أكثر من 2 مليون نسمة من فلسطينيي 48 وأهل القدس الشرقية المحتلة، وفق دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية.
ووفقا لبيانات دائرة الإحصاء المركزية، بلغ عدد اليهود الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية وهاجروا من البلاد حتى نهاية عام 2022، حوالي 900 ألف، علما أن الإحصاء لا يشمل أولادهم الذي ولدوا في الخارج.
وأظهرت البيانات أنه تم خلال العام 2022 استقدام 70 ألف يهودي إلى فلسطين التاريخية غالبيتهم العظمى من روسيا وأوكرانيا، وهي النسبة الأعلى من المهاجرين منذ الانتفاضة الثانية عام 2000 علما أنه في العام 2021 تم استقدام نحو 28 ألف مهاجر.
في المقابل، عمدت المؤسسة الإسرائيلية على التكتم على البيانات بشأن الهجرة اليهودية العكسية، بيد أن تفاقم أزمة الحكم وتراجع الأوضاع الاقتصادية وتصاعد التوتر الأمني مع الفلسطينيين، أظهر أن أكثر من ألفي يهودي روسي حصلوا على الجنسية الإسرائيلية عادوا إلى موسكو في العام الأول للحرب الروسية على أوكرانيا.
كما لوحظ ارتفاع بلغت نسبته 20% في عدد طلبات الإسرائيليين للحصول على جنسيات أجنبية خاصة من أوروبا وأميركا، وارتفاع بنسبة 15% في طلبات اليهود للهجرة من إسرائيل إلى دول الاتحاد الأوروبي وخاصة البرتغال.
يهودية وديمقراطية
المحاضر في كلية التاريخ في الجامعة العبرية، البروفيسور يوفال هراري، أرجع تصاعد ظاهرة الهجرة اليهودية العكسية، إلى تنامي نفوذ التيار الديني اليميني المتطرف والأحزاب الحريدية في المجتمع الإسرائيلي، وتغلغلها في الوزارات الحكومية وسيطرتها على مقاليد الحكم بإسرائيل.
وأوضح هراري في تصريح للجزيرة نت أن الهجرة العكسية كانت من أبرز التحديات والمشاكل التي تواجه إسرائيل منذ عام 1948، بيد أنه في ظل التغييرات المجتمعية والاقتصادية والقضائية التي يدفع بها نتنياهو في الأعوام الأخيرة، أُعيد للواجهة التفكير بالهجرة لأسباب ديموغرافية وأيديولوجية.
ويعتقد أن ما أفرزته نتائج الكنيست التي جرت في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وصعود التيار الديني المتطرف والأحزاب الحريدية التي تدفع نحو تحويل إسرائيل إلى “دولة شريعة توراتية”، كانا بمثابة نقطة مفصلية لاحتدام الصراع ليس على الحكم وحسب، بل على هوية إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية.
وأشار إلى أن هذ الصراع الذي عبّر عنه الكثير من اليهود بالهجرة إلى أوروبا وأميركا حتى قبل الإعلان رسميا عن تشكيل حكومة نتنياهو، ينعكس في هذه المرحلة بالاحتجاجات غير المسبوقة والمتواصلة للشهر الرابع ضد خطة الحكومة للإصلاحات في الجهاز القضائي.
وأوضح أن الاعتقاد السائد بأن ما تقوم به الحكومة ليس إصلاحا قانونيا بل إنه “انقلاب وتأسيس لدولة المستوطنين”، وعليه فإن التفكير بالهجرة موجود لدى اليهود، “بسبب الصراع على هوية وديمقراطية إسرائيل التي تتجه نحو الدكتاتورية”.
العلمانيون والمتدينون
من جهته، يرى آدم كلير المتحدث باسم “كتلة السلام الآن” أن الهجرة العكسية في السابق كانت لأسباب اجتماعية واقتصادية وارتفاع معدلات البطالة، وكذلك الظروف المعيشية الصعبة، بالمقارنة مع العيش في البلدان الأخرى، وعدم التأقلم في البلاد.
وحول تنامي هذه الظاهرة مؤخرا، يقول كلير، في تصريح للجزيرة نت، “تعود للصراعات الداخلية بين اليهود حول هوية إسرائيل، وكذلك لتعزيز المخاوف والشعور بعدم الأمان مع احتدام الصراع مع الفلسطينيين وانسداد الأفق لأي تسوية سياسية مستقبلية”.
وأوضح كلير أنه بسبب انسداد الأفق بشأن استقرار الحكم بإسرائيل مع صعود اليمين الديني المتطرف للحكم، وتشريعات إضعاف جهاز القضاء وتقويض أسس الديمقراطية واستبدالها بإجراءات دكتاتورية، فإن ظاهرة الهجرة تتسع في صفوف الجيل الشاب، والأكاديميين، وأصحاب المؤهلات العلمية والأدمغة، وأصحاب رؤوس الأموال.
ولا يستبعد أن تتسع ظاهرة الهجرة العكسية خاصة في صفوف اليهود من ناخبي أحزاب المعارضة واليسار الصهيوني الذي تراجع حضوره بالمشهد السياسي، وكذلك في صفوف اليهود العلمانيين، مع تراجع الحريات وتعزيز السطوة على الاقتصاد والهيمنة على المجتمع، في ظل فقدان الأمن والأمان، وتصاعد التوتر الأمني مع الفلسطينيين.