جمال خالد عبد الناصر
فى تلك الأيام العصيبة التى تمر على مصر وجدت سؤالا يصيبنى بالقلق بشكل يومي وبصورة مخيفة… «إلى أين تمضى مصر؟» وكشاب يقترب من منتصف العقد الرابع من عمره وكمواطن مصري متمسك بمبادئ الانتماء والقيم الوطنية لاحظت أنني لم أر مصر في وضع أسوأ مما هي عليه اليوم. لقد وعينا أنا والجيل الذي أنتمي إليه معا على مصر وهى تمضى في أيام أحيانا حلوة وأحيانا أخرى عصيبة ولكن كانت الدولة بأدواتها ومؤسساتها الاقتصادية والاجتماعية تسير في حركة طبيعية كمحرك قد تم بناؤه زمن أجدادنا وكانت «العجلة تدور».
وفى يوم ما توقفت وأجبت بنفسي عن السؤال الذي كان يحيرني. فكانت الإجابة واضحة. إن ما بناه أجدادنا لا يخضع لقوانين الفضاء أي لا يتوقف الشيء إلى الأبد بعد دفعه بل يخضع أكثر لقوانين الجاذبية الحتمية التي توقف أي شيء إن لم يتم دفعه أو إعادة بنائه مرة أخرى. فإن لم نعد بناء هذا الوطن على أساس قيم الإنتاج فسوف تتوقف «العجلة» وسيرث أبناؤنا وأحفادنا وضعا كارثيا أسوأ مما نعيشه اليوم.
•••
لا يستطيع أحد إنكار كم الفساد والإفساد الذي عانت منه مصر طيلة الثلاثة عقود السابقة على ثورة 25 يناير، والذي عمل على تخريب الشخصية المصرية، ونشر قيم عدم الانتماء والأنانية والمحسوبية في المجتمع المصري.
وبالرغم من كل الخسائر، كانت هناك بقايا لهيبة الدولة ومؤسساتها، مما جعلني أخشى على مستقبل الأجيال القادمة مما يفعله المصريون بوطنهم الآن، ويقيني أنه لولا ثورة 30 يونيو واستجابة قيادة القوات المسلحة المصرية لها، لسقطت مصر في جب عميق لم يكن لها أن تخرج منه قريبا، ولضاعت ملامح الوطن، ولكي لا تضيع ثورة 30 يونيو، فلابد لأي نظام قادم أن يعمل على إعادة بناء بمبادئ تضمن العدالة الاجتماعية، وتتيح تكافؤ الفرص، وتقيم اقتصادا صناعيا وزراعيا إنتاجيا بدلا من الاقتصاد الريعى الذي يديره السماسرة والتجار والمعتمد على تحويل مصر لسوق لتصريف المنتجات الأجنبية، وإذا لم يحدث ذلك ستستمر عمليات بيع ثروات الدولة بالشكل المتسرع الذي شهدناه فى الأعوام الماضية في ظل غياب الإنتاج. فالمشكلة المتعلقة بالإنتاج تعانى منها دول كثيرة، ولكن بدرجات وأشكال مختلفة، فالولايات المتحدة الأمريكية على سبيل المثال تعانى من نقص في المهن التقنية بسبب العمالة الآسيوية بفرض الضرائب والجمارك، ولكن ما تنتجه مصر قليل جدا بما لا يمكنها من مواجهة هجوم السلع الأجنبية عليها.
لقد بدأنا في الثلاثة أعوام الماضية مواجهة الفساد العمودي، أي الفساد الذي يهبط من قمة مراكز السلطة، ومازلنا نحارب ضده، ولكن أليس هناك فساد أفقي أيضا؟ الإجابة هي بالتأكيد نعم!
هذا النوع من الفساد عملية إزالته أصعب بكثير من الفساد العمودي، لأننا جميعا شركاء فيه، ربما دون أن نعلم. هذا الفساد له وجوه كثيرة مثل المحسوبية والرشوة والإكرامية وعدم المسئولية تجاه المصلحة المجتمعية بصفة عامة. فطالما نادينا بالحرية فى الثلاثة أعوام الماضية ولكن الحرية دون المسئولية تساوى الفوضى. أليس الأمر كذلك؟
وبهذه الإفادة نرى أن المسئولية مشتركة بين الدولة والمواطن، ولكن سأتكلم من وجهة نظر المواطن وما يخصنا فى حياتنا اليومية. أتذكر يوما سألت فيه والدي رحمة الله عليه عن عادة منح البقشيش والإكرامية وقلت له «أليس هذا فسادا؟» كان والدي بطبعه لا يجيب عن أي تساؤل ما لم يره مهما ويستحق الرد، غير ذلك كان يتجاهل الإجابة قائلا «لا أعلم» حتى ولو كان يعلم بالفعل. رد على قائلا «على حسب»، لو عامل نظافة في الشارع يعمل في حاله ولا ينتظر شيئا من احد ومنحته بقشيشا، فأنا لا أعتبر ذلك فسادا لأنه لا ينتظر منى شيئا، ولكن إذا ترك عمله وأخذ يحيينى منتظرا منى بقشيشا، لو منحته مالا فأنا أساهم في إفساده، وأشجعه على إهمال عمله والتكسب عبر التسول تحت غطاء العمل، وكذلك إذا أعطيت إكرامية لموظف حتى يهتم بمطالبي بشكل متميز أو لإنهاء بعض الأعمال الخاصة بي بسرعة أو بما يخالف القانون، فهذا يعتبر فسادا، ولكن إذا أعطيته مالا كمكافأة أو بلا مقابل فالأمر يختلف، فالكل يعلم أن الدولة لا توفر لهم مستوى كريما للمعيشة.
ومن هنا توصلت إلى أن الدولة تحمل الشعب هموما كثيرة من المفترض أن تتحملها الدولة نفسها. فعلى سبيل المثال هل ممكن أن تعطى عامل نظافة ألمانيا مالا؟ بالطبع لا يمكن، فالحكومة الألمانية لديها قوانين توفر لكل شخص سواءا كان ألماني الجنسية أو أجنبيا ــ حدا أدنى للمعيشة الآدمية، وأي تعاطف مع منح البقشيش خارج إطار الـ «تيبس»، أي نظام البقشيش المقبول عالميا، سينظر له المجتمع الألماني كتعاطف مع الكسل والفساد.
•••
وأود أن أعود هنا إلى ما بدأت به هذا المقال. فالدولة ليست مجموعة مؤسسات تعمل دون عنصر بشرى. ودولاب العمل لن يستمر دون ملء تخصصاته المختلفة بعناصر واعية ومنتجة ولديها إحساس بالمسئولية. ومثلما تم بناء الدولة المصرية على يد أجدادنا في العقود الماضية، فمصر الآن تنتظر جيلا جديدا يحافظ عليها ويبنيها ويطورها لعقود قادمة.
فهل لدينا كشباب الكفاءة والوعي والإحساس بالمسئولية لكي نبنى مصر المستقبل؟
هل سنستيقظ من غيبوبة اللاوعى والاستخفاف بالواقع والفساد الأفقي المشترك؟
هل سنظل نعيش في ظاهرة التوك شو والكوفى شوب وغيرهما من وسائل اللا إنتاج وإضاعة الوقت والتي حولتنا لمجتمع مستهلك وخاوى ومشتت في أفكاره؟
الأدوار والفراغات ستملأ بشكل أو بآخر، ولكن هل سيحدث ذلك بشباب أفسد نفسه باللا مبالاة، واحتراف الوصولية، وعشق المادة؟
أم سيتم ذلك بشباب واع قادر على إيجاد حلول ناجحة للقضاء على الفساد، وقادر على الحفاظ على الوطن الذي يعيش على ترابه؟
الأيام القادمة ستحمل لنا الإجابة وعليها سيتوقف مستقبل مصر.
بوابة الشروق