ناهض حتر
خرج رئيس الوزراء الإسرائيلي من القاعة الأممية شبه الفارغة، مربداً أسود الوجه؛ لم يكن هنالك مستمعون لخطاب عدواني لرجل مذعور. تهديده الأجوف باستعداد إسرائيل لمجابهة الخطر الإيراني «وحيدةً»، أثار القليل من الشفقة لدى الدوائر الأميركية، ولم يثر مخاوفها؛ «نيويورك تايمز» لم تتوانَ عن القسوة: كفى لعباً؛ دعوا الرئيس (باراك أوباما) يعمل!
إسرائيل خارج الزمن. وهذه المرة كانت السعودية أذكى لأنها اعتذرت عن عدم مخاطبة الهيئة العامة للأمم المتحدة؛ فليس هناك ما يُقال في الزمن الإيراني! السعودية، الأكثر غضباً حيال التقارب الأميركي ــــ الإيراني الممكن، تعتقد بأنها تملك هامشاً أوسع للمناورة من الإسرائيليين. وينقل دبلوماسي أردني معلومات عن توجه سعودي جدي للتقارب الاقتصادي مع روسيا والصين، سيفتح الباب للتوازن مع إيران الخارجة من الحصار، ويضغط على الولايات المتحدة التي يقدّر السفير السعودي لديها، عادل الجبير، بأن اقتصادها سيتضرر جراء منح الروس والصينيين، تفضيلاً تجارياً واستثمارياً خليجياً.
هل يظن السعوديون أن الاقتراب من واشنطن سيدفع طهران للابتعاد عن موسكو؟ إذا كان هذا التقدير صحيحاً، فإن الإيرانيين سيخسرون، في النهاية، حليفاً موثوقاً مثابراً، لصالح هدنة مع عدوّ دائم. من الحكمة أن تنظر الجمهورية الإسلامية، حتى في أكثر لحظات التفاهم مع الولايات المتحدة، إليها كعدوّ استراتيجي. ولكن من الضروري أن ينظر معسكر المقاومة كله، إلى التطورات الحاصلة في السياسة الدولية، بجدية كافية: دعوا الرئيس روحاني يعمل! فليعمل تحت الضغط، ولكن بما يؤمن معادلة لا إفراط ولا تفريط، ويعطي الرجل الفسحة اللازمة للحركة. وفي هذه الفسحة، كان حجه إلى مكة مفيداً لبناء الصورة ــــ وإطلاق مفاعيلها اللاحقة ـــــ فمَن قال إن الصورة ليست جزءا أساسيا من القدرة على الفعل؟ فلنتخيّل، مثلاً، القوى الخيّرة التي ستطلقها زيارة يقوم بها روحاني غدا إلى الفاتيكان، واللقاء مع البابا فرنسيس الذي يحظى بشعبية غير مسبوقة في أنحاء العالم، وظّفها، في 7 أيلول 2013، لدرء الحرب الأميركية عن سوريا. إنما الزيارة الرئاسية الإيرانية الواجبة الآن، هي التي ينبغي أن يقوم بها إلى موسكو؛ فهكذا يمكن تأطير الصورة.
تنتقل إيران في عملية معقّدة إلى موقع رئيسي في إدارة الإقليم الشرق أوسطي كله. وموقع القيادة يتطلب ما هو أكثر من تغيير الصورة، أعني التفكير مجددا في المشكلات الإقليمية، وتقديم المبادرات، بغض النظر عن مسار التوافق مع واشنطن، للتوصل إلى حلول واقعية بشأنها. والبداية هي مبادرة لحل المشكلة العراقية؛ فالنفوذ الإيراني في العراق الذي يعيش على شفير حرب أهلية مذهبية، يسمح بالتدخّل الودي لعقد مصالحة تاريخية ليس، فقط، مع المكوّن السني، وإنما مع كل ما وكل مَن هو إيجابي من تراث النظام السابق؛ فلا يمكن تحقيق النجاح في القيادة على مهاد الكراهية.
المصالحة العراقية ستحرر طهران من ابتزاز العلاقة مع الإخوان المسلمين؛ فبمجرّد المبادرة نحوها، يمكن لإيران أن تتوصل إلى مقاربة أكثر فعالية لإقامة علاقات وثيقة مع مصر التي تشتبك، وستشتبك طويلاً مع الإخوان وفصائل الإسلام السياسي الأخرى، لإنقاذ الدولة الوطنية المصرية من التفكك والفوضى.
فرصة القيادة ـ وهي تتعدى الدور بكثير ـ ليست منحة أميركية، وإنما هي نتيجة مسار موضوعي للتفاعلات يتطلب نوعاً من التفاهمات مع عدوّ يظل عدواً.
هناك ثلاثة تقاطعات بين واشنطن وطهران، تفرض نفسها، فأولا، طيّ ملف النووي الإيراني في صيغة ثنائية متوافق عليها، وثانياً، ترتيبات الانسحاب الأميركي من المنطقة بأقلّ قدر من الخسائر، وثالثاً، المواجهة مع الإرهاب. وهي تقاطعات متداخلة، وتصب في بناء ستاتيكو جديد لإدارة الإقليم من أفغانستان إلى البحر المتوسط.
تريد واشنطن تأمين إشراف دولي مناسب وفعّال على مسار النووي الإيراني، ولكنها ترجو أن تستولي، وحدها، على كامل الثمن الذي سيدفعه الإيرانيون ــــ وهذا ما ينبغي لهم إفشاله ووضعه دائما في سياق دولي ــــ وهؤلاء يريدون الاعتراف بإيران دولة نووية، ووقف العقوبات عنها، وتأكيد حضورها القيادي على المستوى الإقليمي. وهو حضور أصبح مطلوبا للبحث في الملفات العالقة، واحدا واحدا. إنها عملية مفاوضات شاقة جدا، ولكنها تمثل البديل الممكن للطرفين. وما حدث، في ما يمكننا أن نسميه مكر التاريخ، أن ذينك الطرفين المتناقضين، وجدا نفسيهما أمام عدو مشترك: الإرهاب التكفيري؛ يستهدف، اليوم، إيران وحلفاءها ونفوذها، ولكنه بدأ يتبلور كمشكلة إقليمية ودولية أيضا؛ فبعدما تورطت الولايات المتحدة في استخدام الإرهاب التكفيري من دون حساب في سوريا، اصطدمت بالوحش المنفلت، وطموحاته الإقليمية والعالمية.
الاخبار